صناعةٌ لبنانية جديدة لمُصطَلَحاتٍ سياسيّة

من يقرأ المقالات والتصاريح السياسية في لبنان، يُلاحظ أنّ مُصطَلحات ومُفرَدات وتعابير سياسية جديدة دخلت إلى قاموسنا السياسي. إنها مفرداتٌ لم نألفها من قبل لكننا اعتدنا على سماعها يومياً، فما هو المدلول الواقعي لهذه المُصطلحات الجديدة والدخيلة على ثقافتنا السياسية؟

الكاتب الأميركي داشان ستوكس: ” التمييز هو تمييز حتى عندما يدّعي الناس أنه تقليد”

بقلم السفير جان معكرون*

تعلّمنا عندما درسنا الأدب العربي أنّ “الإنسان ابن بيئته”، أي أنه يتصرّف بوحيٍ من بيئته العائلية والإجتماعية والثقافية وبتأثيرٍ منها، ويتجلّى ذلك في أسلوب وطريقة التعبير عن آرائه وانفعالاته ومواقفه وفي طبيعة ردّات فعله. وحيث أنّ البيئة تؤثر في تصرفات الإنسان، فمن الطبيعي أن تفعل الظروف والوقوع السياسية الجديدة فعلها فيتردّد صداها في مواقف وتصاريح ومداخلات السياسيين والتي يُعبَّر عنها أو تتجلى في مفردات ومصطلحات جديدة بدت غريبة ومُستَهجَنة أحياناً ومدعاة تهكّم من قبل الرأي العام اللبناني إذا ما قورنت بالمعايير الصحيحة كالمبادئ القانونية والدستورية والقِيَم المعروفة.

نُلقي في ما يلي الأضواء على أهم هذه المفردات الجديدة التي غالباً ما نقرأها ونسمعها في وسائل الإعلام اللبنانية، مُعتَمِدين أسلوب النقد المنهجي.

  • الميثاقية: إنها كلمة مُستَحدَثة لم نألفها من قبل، وقد تهافت السياسيون والإعلاميون على إبرازها والتذرّع بها بحيث أصبحت معزوفة تتردّد على كل شفة ولسان.

ما هي الميثاقية؟

الميثاقية كلمة مشتقة من الميثاق، وهو عقدُ اتفاق يهدف إلى تجنّب النزاع بين طرفين، وهو يعود لفعل وَثّقَ أي قوّى وثبّت الرباط والثقة بين هذين الطرفين. وبمعنى آخر، هو الإلتزام بموقف مُعيّن بالإستناد إلى الثقة المُتبادَلة. ومن هذه الزاوية، عرف النظام السياسي اللبناني ما يُسمّى بالميثاق الوطني، فما هي قصة هذا الميثاق؟

ذكرت المؤلفات الدستورية أنّ الميثاق الوطني يعود إلى العام 1943، وهو اتفاق تعايش بين المسيحيين والمسلمين يرتكز على احترام الفروق، وعلى أن تكون الطوائف الركن الأساس للدولة والنظام السياسي والذي تضمّن المبادئ الآتية:

  • أن تُوزَّعَ الوظائف والسلطة وفقاً للنسبة العددية بين الوظائف، أي ستة للمسيحيين وخمسة للمسلمين، طبقاً لإحصاء 1932.
  • لبنان بلدٌ ذو وجه عربي.
  • إعتماد الحيادية في السياسة الخارجية “لا شرق ولا غرب”.

لكنّ هذه الصيغة التوافقية تعدّلت في وثيقة الوفاق الوطني (إتفاق الطائف) في العام 1989، ليصبح لبنان عربي الهوية والإنتماء، كما أصبح مجلس النواب مُوَزَّعاً مُناصفةً بين المسلمين والمسيحيين.

وهكذا، عندما يتذرّع السياسيون سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين بعدم ميثاقية أي حكومة، فهُم يقصدون عدم تمثيلها لإحدى هاتين الطائفتين بالتساوي مع الطائفة الأخرى وذلك استناداً إلى ميثاق 1943 والمادة 95 من الدستور المعدّلة في 21/9/1990 التي ركّزت على تمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.

الواضح أنّ مفهوم الميثاقية المُرتكز على التمثيل المتساوي بين الطائفتين قد توسّع ليشمل الإستشارات النيابية المُلزِمة لاختيار الرئيس المُكَلّف بتأليف الحكومة. ولقد تجلّى ذلك عملياً خلال تسمية رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب حيث اعترض البعض على أنه لم يحظَ بتمثيل سنيّ مقبول، وأيضاً عندما اعتذر الرئيس سعد الحريري عن ترشّحه لرئاسة الحكومة عندما لم يحظَ بدعم مسيحي مقبول.

إنّ استنكاف أو امتناع طائفة كبرى أو حزب كبير عن ترشيح أو دعم مرشّح لأي مسؤولية دستورية قد أدّى عملياً إلى استحواذ هذه الطائفة وهذا الحزب على حق النقض “الفيتو” الذي خوّل صاحبه إعاقة مُمارسة السلطات الدستورية لمهامها.

ولمّا تبيّن لنا أنّ حق النقض قد تكرّس للأحزاب أو الطوائف الكبرى فإنه يتحصّل لنا أنّ كلّ تجمّعٍ سياسي آخر خارج نادي هذه الطوائف والأحزاب الكبرى قد صُنّف فعلياً في مرتبة دونية. وهكذا، بدت لنا الميثاقية من هذه الزاوية مُتعارضة مع المادة 7 من الدستور التي نصّت على أنّ “كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية”.

رفع الغطاء عن…

إنها من التعابير التي أصبحت شائعة في مجتمعنا اللبناني. ويتنافس السياسيون ولا سيما رؤساء الأحزاب على استعمالها عند الحاجة، أي عندما يتعرّض أحد وزرائهم أو موظفيهم الموالين لهم إلى احتمال المحاسبة القانونية أو السياسية. وهكذا، رأينا أركان بعض الأحزاب يُعلنون ومن دون حياء أنهم سيرفعون الغطاء عن المسؤولين المُوالين لهم من أجل محاسبتهم، وغالباً ما تكون التهمة الفساد أو مخالفة القوانين.

قد يتساءل المواطن العادي غير الحزبي وغير المدعوم طائفياً لماذا لا يتمتّع هو بالغطاء ذاته ولماذا حُرِمَ من هذه النعمة. كما يسأل، من أعطى هؤلاء الزعماء حق وضع هذا الغطاء وصلاحية رفعه حسب تقديرهم واستنسابهم.

الغطاء في هذا السياق يعني أنّ الحزب أو الجهة السياسية النافذة تسعى إلى حماية كل من يتولّى مسؤولية إدارية أو وطنية في حال اقترف جرماً أو قام بتصرّفٍ مُخالفٍ للقانون.

الحق يُقال إننا في صدد بدعة غريبة وفريدة من نوعها ومُخجِلة لأنّ رفع الغطاء عن المسؤول المُتّهم يعني أنّ جهة سياسية نافذة قد وضعت هذا الغطاء وأنها تملك حق رفعه عندما تشاء وهذا الواقع هو في حدّ ذاته مُدعاةً سخرية لأنه يفترض أنّ الجهة النافذة تحتكر حق منح الترخيص اللازم لأجهزة الدولة لكي تمارس دورها الرقابي بالمساءلة والمحاسبة. في حين أنّ القانون وحده هو الغطاء الشرعي الوحيد الذي يحمي المسؤول ويعاقبه عند الاقتضاء.

وإن أصحّ نقدٍ لهذه الوضعية غير السليمة ورد في سفر الأمثال بأنّ “محاباة الوجوه في الحكم ليست صالحة” أي أنّ العدل هو أساس الحكم.

الوزارات السيادية

إنها هرطقة قانونية لأنها أدخلت أعرافاً وتقاليد جديدة، أنزلت وزارات إلى مرتبة دنيا وعلّت من شأن وزارات أخرى وبفعل ذلك، تكون قد قلّلت من مكانة وزراء تولّوا وزارات عادية ورفعت مكانة وزراء تولّوا وزارات عُرفت بالوزارات السيادية من دون أي مسوّغ قانوني. وتكون بالتالي قد ميّزت وفرّقت بين الطوائف بحيث عزّزت منسوب السيادة لطائفة مُعَيّنة احتكرت حقيبة سيادية وخفّفت هذا المنسوب من طائفة أخرى تمّ إرضاؤها بوزارة عادية.

ما هو المقصود بالوزارات السيادية أو الوازنة؟

بدايةً، نصّت مقدمة الدستور اللبناني على أنّ “الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يُمارسها عبر المؤسسات الدستورية”، وهذا يعني أنّ السلطة هي أصلاً بيد المواطنين الذين ينتخبون الحكّام والنواب لكي يتولّوا إدارة المؤسسات الدستورية باسمهم وعلى هذه المؤسسات أن تبسط سلطانها على رعاياها وإقليمها وألاّ تخضع لسلطةِ دولة أخرى.

كما أنّ المادة 95 فقرة -أ- من الدستور اللبناني قد نصّت على أن “تُمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة”. وحيث أنّ الوزارات وفقاً للدستور هي مؤسسات دستورية تمثّل الطوائف بصورة عادلة، لكننا رأينا أنها أضحت بنظر البعض تحظى بتسميات مختلفة، عنينا بها وزارات سيادية تمّ تخصيصها من دون وجه حق للطوائف الكبيرة، ووزارات غير سيادية مُنحت كجوائز ترضية إلى الطوائف الصغيرة.

يُمكن القول أنّ الغاية من ابتكار الوزارات السيادية وإسنادها إلى الطوائف الكبيرة هي التحكّم بمصادر الثروة ومفاتيح القوة في الدولة عبر الإستئثار بالوزارات الأمنية والمتعلقة بالشؤون الخارجية والخدماتية وذلك خدمةً لمصالحها.

إنّ الوزارات السيادية تسمية غير مألوفة وغير دستورية، لأنها تهمل الطوائف الصغيرة غير المؤهلة للحصول عليها وذلك وفقاً لمن ابتكر هذه الصيغة الهجينة. ولذلك، فهي تندرج في إطار التخبّط السياسي والقانوني، لا بل الهرطقة الدستورية لأنها كرّست حق أمراء الحرب والطوائف والأحزاب بالإستئثار بوزارات “مُدهِنة” لتقوية سلطتها ونفوذها. ولا شكّ أنّ هذا الوضع ينطوي على تمييز وتفرقة بين الطوائف والأحزاب وتصحّ في هذا السياق مقولة الكاتب الأميركي داشان ستوكس: ” التمييز هو تمييز حتى عندما يدّعي الناس أنه تقليد”. ومغزى هذه المقولة أنّ التقليد أو العُرف لا يُكسبان الشرعية إلى أي تصرّف أو واقعة مُعَيّنة. والأخطر من ذلك أنّ مفهوم الوزارات السيادية قد انسحب إلى التعيينات والتشكيلات الديبلوماسية حيث برز تقليد منح السفارات السيادية في عواصم الدول العظمى إلى السفراء التابعين للأحزاب والطوائف الكبيرة، علماً أنّ هؤلاء لا يصنعون بالضرورة سفارة ناجحة ولامعة، بل مَن يصنع فَرقاً في سفارته هو السفير المُثَقّف والمُبتكِر والمُتفاني في سبيل إعلاء شأن وطنه وإعطاء صورة جميلة عن بلده، والمُلتزم بالقيَم التي حدّدها هارولد نيكلسون، المؤرخ والسياسي البريطاني المعروف وهي الآتية: الصدق، الدقة، الهدوء والتواضع.

ومن جهة أخرى، نشير إلى أنّ ظاهرة توزيع المناصب بين الطوائف قد أدّت حقيقةً إلى شرخٍ كبير بين أبناء الطوائف. واستطراداً ما زاد في الطين بلّة هو امتداد واتّساع بدعة التفرقة حيث ميّز بعض السياسيين بين الطوائف واصفاً إحداها بالمكوّن الأساس للوطن. وإني أسأل، هل أنا أنتمي إلى طائفة هي مكوّن أساس في الوطن أم لا؟ فما هو المعيار المُعتَمَد للتمييز بين الطائفة التي هي المكوّن الأساس والطائفة التي ليست المكوّن الأساس؟ وهل من المعقول والأخلاقي تقسيم الدولة إلى مكوّنات أساسية وإلى مكوّنات ثانوية أي إلى فئة “A” وفئة “B”؟

وإننا ندعو من اخترع هذا التصنيف الأرعن إلى قراءة البند “د” من مقدمة الدستور حيث ورد أنّ “الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة وهو يمارسها عبر المؤسسات الدستورية”. أي أنّ السيادة يملكها جميع أبناء الوطن بصرف النظر عن انتماءاتهم وأنّ “لبنان… واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات”، الفقرة “أ” من مقدّمة الدستور. وإنّ “كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتّعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية”، المادة 7 من الدستور.

ونستخلص من خلال هذه المقاربة أنّ جميع الوزارات تتمتّع بالسيادة ذاتها ولا فضل لوزارة على أخرى إلّا بالإنتاجية ولا تسمو وزارة على غيرها إلاّ بالسعي إلى الخدمة العامة وتلبية مصالح المواطنين.

الإنقسام العمودي

درجت العادة في استعمال هذه العبارة في الأوساط الإعلامية لدى وصف الاختلافات بين الأحزاب أو بين السياسين بالإنقسام العمودي. تبدو لأول وهلة تسمية غير مألوفة لكن عند التدقيق، تبين لنا وجود نوعين، الإنقسام السطحي الأفقي والإنقسام العمودي. فالسطحي مكتسب واختياريّ كحق الإنتماء إلى إيديولوجيا معينة أو حزب ما، في حين أنّ الإنقسام العمودي موروث مثل الإنتماء إلى دين أو عِرق.

وإذا كان الإنقسام السطحي معروفاً بأنه حادّ وغير قابل للتسوية بسهولة، فإنّ السطحي ليّن وقابل للإلتحام بسهولة أكبر. وعندما نتحدث عن انقسامٍ عمودي في لبنان بين السياسيين حول مسألة وطنية مُعيَّنة، فإنّ هذا يعني انقساماً خطيراً قد يُعيق عمل المؤسسات ويهدّد وحدتها. وما نشهده اليوم هو انقسام عمودي في قضايا جوهرية يتمثل عملياً في مقاطعة حزب سياسي لفريق سياسي آخر أو يتجلى في قطع العلاقات بين الطوائف. فهذا الإنقسام العمودي قد يؤدي إلى تعطيل المؤسسات العامة وإعاقة تطويرها وتجميد إنتاجيتها.

إنّ دولة صغيرة مثل لبنان لا تتحمّل انقساماتٍ عمودية لأنها قد تلحق الضرر الكبير بالكيان السياسي وتُهدّد باضمحلاله. ومن واجبنا الوطني الإشارة هنا إلى أنه لا يجدر بأي جهة سياسية مهما كانت قوية أن تسمح لنفسها بالوقوع في فخّ الانقسام العمودي، هذا إذا كانت تحبّ وطنها لأنّ من أحبّ وطنه تفانى من أجل تحقيق الخير العام، ولأنّ القوي ليس الذي يُهلك خصمَه السياسي بل القوي هو من يربحه.

لا نملك ترف الوقت

عبارةٌ أفرحت الناس لدى سماعها وصدّقوا أنّ الحكّام وعوا أهمية استباق الوقت خلال الأزمات، لكن لا حياة لمن تنادي لأنّ السياسيين يُتقنون فن إضاعة الوقت غير آبهين بالمشاكل والأزمات والكوارث التي يُعاني منها الشعب. إنّ من أولى واجبات الحاكم الصالح أن يكون مسؤولاً، أفليس هو “المرشح الطبيعي” للمسؤولية وعليه أن يرتعب ويتهيّب عند تولّيها؟ ليس فقط خوفاً من الأعين المراقبة بل أيضاً احتراماً لقسمِه وللمبادئ والقيم التي التزم بها أمام الشعب. وفي هذا الإطار، تصحّ الإشارة إلى مقولة الرئيس الأميركي وودرو ويلسون:: “The ear of the leader must ring with the voices of the people”، أي أنّ أُذنَ الحاكم يجب أن تسمع وتستجيب لأصوات الشعب.

فالمسؤولية الوطنية هي أعظم وأرقى رسالة يتولاّها الحاكم. والحاكم المسؤول هو القادر على التمييز بين الخطأ والصواب ويتحمّل المسؤولية عن أعماله، أي عليه أن يبرّر صحّتها حتى إذا لم يقتنع الرأي العامّ بتبريراته، فيجب عليه أن يتنحّى. إنّ تقاعس الحكّام عن معالجة الأزمات بالسرعة المرجوّة قد يُفسح المجال أمام سيطرة نظام حكم اللصوص (KLEPTOCRACY) أي نمط الحكم الذي يتنافس فيه المسؤولون في جمع الثروات على حساب الشعب. إنّ التخلي عن المسؤولية الوطنية في الظروف الصعبة هو بحدّ ذاته التعسف في استعمال السلطة.

قبّة باط

إنه قولٌ شعبيّ يعني غضّ النظر أو تسهيل أمر ما ولقد تردّد كثيراً في الآونة الأخيرة في الأوساط السياسية والإعلامية. ولدى متابعتنا الأخبار السياسية، سمعنا أنه وفقاً للمعطيات، فإنّ المؤشرات تدلّ على “قبّة باط” أميركية أو غير أميركية على تسمية فلان لرئاسة الحكومة. تفترض هنا قبّة الباط عدم ممانعة أميركية أو غيرها للسير بأحد المرشحين لرئاسة الحكومة.

قد تهدف أحياناً الجهة الأقوى التي تغضّ النظر وتقبل بقبّة باطها على مضض في سبيل تمرير حدث معيّن وذلك في إطار سياسة براغماتية أي التكيّف مع الوقائع، في حين تهدف في حالاتٍ أخرى إلى الإيقاع بالجهة الأضعف ونصب فخّ لها.

وتعليقاً على ما يُسمى “قبّة الباط”، يمكن القول إنها سياسة مُعتَمدة في الدول الصغيرة الفاقدة السيادة أو المُصابة بمرض فقدان المناعة ضد التدخلات الأجنبية، وكذلك في الدول التي تتنازع فيها الأحزاب والطوائف لتأمين مصالحها. وهنا، نلاحظ كم هي صحيحة مقولة “إبن خلدون” عندما أشار إلى “أنّ الأوطان الكثيرة العصائب والقبائل، قلَّما تستقيم فيها دولة”.

بإمتياز

لم يكن هذا النعت مألوفاً إلاّ في السنين العشر الأخيرة حيث بتنا نسمعه مراراً وتكراراً ليس فقط على ألسنة السياسيين والإعلاميين بل أيضاً على كل شفةٍ ولسان، ولقد أصبحت هذه الصفة لازمة لكل ثناء أو انتقاد لموقف سياسي أو اجتماعي. ولقد تزايد استعمالها إلى حدٍّ أصبحت فيه مُبتذلة. ومع أنّ نغمات لفظها بدت مُستساغة من قبل المستمع، لكنها تساهم في تشتيت تركيزه على جوهر الموضوع وهي لا تقدّم ولا تؤخّر في صياغة الجُمل بحيث أصبحت مُجرّدة من أي امتياز.

الهروب إلى الأمام

في معرض تقويم وتحليل المواقف السياسية، وصف البعض تصرّف العديد من السياسيين بالهروب إلى الأمام. يقضي المنطق بأن يحصل الهرب إلى الوراء ولكن ما هو سرّ الهروب إلى الأمام؟

نجد أنه من الحماقة أن يهرب المرء إلى الأمام خصوصاً في ظروفٍ صعبة للغاية، لأنه سيكون مُكلفاً جداً على الهارب حيث يختار الخيار الأسوأ على السّيئ، والأخطر على الخطير، والمثل الأصحّ على ذلك هو المحارب الذي يفقد الأمل في التغلب على عدوّه فترتفع نسبة هرمون الأدرينالين في جسمه فتتضاعف قوّته ويهاجم عدوّه بما تبقّى له من ذخيرة قبل نفادها على قاعدة “عليَّ وعلى أعدائي” فيهلك الطرفان.

وغالباً ما يتمّ اعتماد سياسة الهروب إلى الأمام من قبل السياسيين عند نفاد بصيرتهم فيعمدون إلى مهاجمة أخصامهم من دون حججٍ مقنعة أو حفظ خط الرجعة.

كما يتجلّى الهروب إلى الأمام عندما يتخذ أحد المسؤولين موقفاً غير مسؤول، كالتوقف عن التعاون أو بناء الحواجز بهدف إعاقة إنتاجية المؤسسات على حساب مصالح المواطنين، فيطول الضرر الأطراف كافةً في وقتٍ يحتاج الوطن إلى الإنفتاحية، وإلى أقصى درجات التعاون من أجل البناء وليس الهدم، من أجل المشاركة في العطاء وليس في الحصص، من أجل التفاني في سبيل الخير العام وليس المصالح الشخصية.

المُحاصصة The Quota System

وصفها البعض بالمرض الخبيث والخطير الذي ينتشر تدريجاً في أجهزة الدولة حتى تصبح هزيلة وضعيفة وغير قادرة على النموّ والتطور. إنّ المحاصصة مؤشرٌ واضحٌ على تخلّف الدولة لأنه يعني التخلّي عن معايير الكفاءة العلمية والفكرية والأدبية لصالح الزبائنية ومحاباة الأقارب، ولأنه يهدف إلى تفضيل الأقوى على الأكفأ، والأغنى على الأفقر، وترجيح صاحب النفوذ على مَن لا نفوذ له، والقريب على الغريب، والحزبي على غير الحزبي. إنّ المحاصصة هي مفتاح الفساد وحيث توجد محاصصة يزول حكم القانون وينتفي نظام الحكم الجيّد. إنها حقاً آفة الآفات. ولتبيان بشاعتها، نرى من المفيد تحديد حكم القانون والحكم الرشيد والجيّد.

يتمثّل حكم القانون في الشفافية ومساواة الجميع أمام القانون ومبدأ الكفاءة وحماية المواطن من الظلم ومن إساءة استعمال الحكّام للسلطة.

أما الحكم الرشيد فيمكن اختصاره بالآتي:

  • ترجيح المصالح العامة على المصالح الشخصية الضيّقة.
  • الحفاظ على الحقوق المدنية والسياسية والحريات العامة للجميع.
  • تأمين فرص العمل بالتساوي.
  • تأمين الخدمات العامة.
  • التنافس الإقتصادي على حساب الإحتكار.
  • تأمين الضمانات الإجتماعية.
  • العمل المتواصل على محاربة الفساد.

الخلاصة

من المؤسف القول إنّ هذه المصطلحات الجديدة التي أفرزتها بيئتنا الجديدة أصبحت جزءاً من حياتنا اليومية ومن تراثنا الثقافي السياسي. وإنّ قاموسنا السياسي لا يغتني بها بل يتّسخ بها لأنها تُخالف العدالة والمساواة وتُعطي الأفضلية للنافذين من دون وجه حق كما أنها تمسّ بمبدأ سيادة الدولة.

إنّ بيئتنا السياسية بحاجة ماسّة إلى حملة تنظيف من الفساد الذي لا يزول إلاّ بزوال المُفسدين من المسرح السياسي واستبدالهم بأشخاص مُنصهرين بالقيم والمبادئ.

من المخجل القول إنه لا حظّ لأبناء الطوائف الصغيرة في تولّي الرئاسات الدستورية الثلاث أو الوزارات والسفارات “السيادية”، فهل هم مواطنون غير سياديين من الطبقة الدنيا؟

كم كنا سنكون محظوظين لو أن النظام السياسي اللبناني كان خالياً من مفاهيم الميثاقية والمحاصصة والوزارات السيادية ومن الهروب إلى الأمام والإنقسام العمودي وقبّة الباط ورفع الغطاء…

وأخيراً، لا يُعقَل أن نبقى أسرى في سجن إيديولوجي وسياسي وثقافي بمعنى أن نكون مُقيّدين بمعايير فكرية مُنعزلة وجامدة، بل علينا أن نتحرّر من هذا السجن لكي نصل إلى الإنفتاحية والإيجابية، ونغتني بقيَم ومبادئ جديدة “ولأنّ المدنيات التي تنجح في مجابهة التحديات تنمو وتزدهر” – أرنولد توينبي.

  • السفير الدكتور جان معكرون هو باحث وديبلوماسي لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى