لبنان: الحكومةُ الرئاسيّة

محمّد قوّاص*

لن تكونَ هناك انتخاباتٌ رئاسية في لبنان قبل انتهاء عهد الرئيس الحالي ميشال عون. أوحى رئيس مجلس النواب نبيه بري بذلك حين أكد أنه لن يدعو إلى جلسةٍ لانتخابِ رئيسٍ جديد قبل أن يكون هناك توافقٌ، ما كشف أن التوافقَ غير المتوفّر حتى الآن قد يُدخِلُ البلد في مرحلة “الشغور” الرئاسي.

الشغورُ، وليس الفراغ الرئاسي وفق ما تقصّدَ رئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي التوضيح والإشارة. ذلك أن ليس في الدستور اللبناني ما يُتيحُ فراغًا، وأن خلوَّ قصرِ بعبدا من رئيسٍ يَنقلُ صلاحياتِ موقع الرئاسة إلى الحكومة اللبنانية.

والاستفاقة هذه الأيام على ضرورة تشكيل حكومةٍ في البلد، مردّها إلى اقتناعٍ كامل مكوّنات الطبقة السياسية، وخصوصًا “حزب الله”، بأن الشغورَ آتٍ لا محالة، وأنه باتَ من مصلحة البلد، بناءً على توافقاتِ الضرورة لساسته، بما في ذلك التيار العوني، تدبير حكومة شرعية كاملة التمثيل والصلاحيات حتى لو كانت تشكيلةً معدّلة عن حكومة تصريف الأعمال الحالية.

وإذا ما كانت “فبركة” رئيسٍ للجمهورية في لبنان تخضع تاريخيًا لتوافقات الخارج قبل الداخل، فإن الصفقة الداخلية لم تنضج، كما إنَّ التقلّبات والتحوّلات الدولية المتحرّكة لا توحي بمشتركاتٍ دُنيا لصناعةِ رئيسٍ في لبنان. يكفي تأمل مصالح الدول المعنية بالشأن اللبناني لاستنتاج تعقّد أجنداتها وتناقض حساباتها، من دون أن يكون أمر التسوية مُمكنًا.

توقيتٌ خارجيٌّ يُساهِمُ في منعِ لبنان من إنجاز استحقاقاته. لا مؤشّرات تُوحي بأنَّ اتفاقَ مجموعة الـ”5+1″ مع إيران آيلٌ إلى نضوجٍ في القريب العاجل. وإذا لم تحصل مفاجأة فأمرُ ذلك يصبح مؤجّلًا إلى ما بعد الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة والانتخابات التشريعية في إسرائيل في تشرين الثاني (نوفمبر). وغياب صفقة فيينا يَحرُمُ لبنان من أجواء دولية-إقليمية قد تكون مواتية لحلّ عُقد البلد، بما في ذلك انتخاب رئيس للجمهورية.

وفي التوقيت الخارجي أيضًا، غيابُ أيّ تطوّرٍ نوعيّ لافت في الحوار الجاري بين إيران والمملكة العربية السعودية منذ نيسان (أبريل) 2021. الأمرُ لا يُخفِّض من مستوى التوتّر في علاقات طهران مع البيئة العربية عامة، ولا يتيح تراجعًا في مستوى تشنّج المصالح الإقليمية داخل لبنان، بالذات، حيث تبرز بسهولة واجهات التآلف أو التصادم في حسابات طهران والرياض.

ورُغمَ هدوء حدّة التراشق الإعلامي بين السعودية وإيران مواكبة للحوار بين البلدين، وتمسّك العاصمتين بمبدَإِ استمرار الحوار والسعي إلى تطويره وربما رفع مستوى ممثلي البلدين داخله، فإن المحادثات ما زالت عاجزة عن الانتقال إلى مراحل وفاقٍ واضحة.

وفيما يُبشّرُ المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيراني، ناصر كنعاني، في 12 أيلول (سبتمبر)، بأن بلاده “ستستجيب بشكلٍ مناسب لأي خطوة بنّاءة تقدم عليها السعودية”، فإن الرياض، بلسان وزير خارجيتها، الأمير فيصل بن فرحان، تُكرِّرُ في الآونة الأخيرة أن “تقدُّمَ المفاوضات ليس كافيًا”. وفي غياب التفاهمات، فإن حراك الرياض في لبنان، من خلال سفيرها وليد البخاري، بات يكشف موقفًا مُعاندًا للحالة الإيرانية في لبنان، وجهودًا صريحة لمنع سقوط الرئاسة مرة أخرى في يد “حزب الله”.

وفق المعطى الدولي-الإقليمي يتبنّى “حزبُ الله” نهجًا “تعايشيًا” يُتيحُ إنتاجَ حكومةٍ ولا يُتيحُ إنتاجَ رئيسٍ للجمهورية. ويعود لجوء الحزب إلى لهجة التوافق إلى إقرارٍ بتغيّرِ المشهد البرلماني الذي أنتجته الانتخابات النيابية الأخيرة، وخضوعٍ لوقْع الأزمة الاقتصادية المُوجِعة غير المسبوقة في تاريخ لبنان. تُضافُ إلى ذلك رماديةٌ في موازين قوة النفوذ الإقليمي لإيران، وفق ما يُستنتَج في العراق وسوريا ووفق المجهول في النتائج المحتملة لحرب الحليف الروسي في أوكرانيا وتداعيات الأمر على موقع طهران وعافية نفوذها في المنطقة.

هنا تلعب فرنسا دورًا مُمَيَّزًا رشيقًا لتدبيرِ مرحلةٍ انتقاليةٍ في لبنان، بانتظارِ ظهورِ تحوّلاتٍ ونضوجِ صفقاتٍ تُسهّلُ انتخابَ رئيسٍ للجمهورية. وإذا ما كان يدورُ هَمسٌ كثيرٌ حول الاجتماعات التشاورية التي تُجريها فرنسا مع السعودية في باريس، فذلك أن فرنسا تملك علاقاتٍ براغماتية مع طهران ولا تزال، عبر السفيرة في لبنان، آن غريو، وموفديها إلى بيروت على تواصلٍ مع “حزب الله”. حتى أن زيارة رئيس الأركان الإسرائيلي، أفيف كوخافي، لباريس لبحث مسألة ترسيم الحدود وحقل كاريش تُمثّلُ اعترافًا بدور فرنسا في ملف لبنان.

قد لا يكون التوقيت الحالي مُناسبًا لـ”التوافق” الذي لم يستنتجه برّي حتى الآن. لكن التوافقَ بات أيضًا، للمفارقة، مَطلبًا لـ”حزب الله” للاهتداء إلى رئيس “يتمتّع بأكبر قاعدة مُمكنة سياسية ونيابية وشعبية”، وفق ما أعلن أمينه العام السيد حسن نصر الله. وإذا ما كانت المرحلة تتطلب استبعاد شخصيات تُمثّلُ تحدّيًا واستفزازًا، فإن حظوظ قائد الجيش العماد جوزيف عون تعود للارتفاع ما دامت المؤسسة العسكرية وقائدها يحظيان بتعاطف داخلي ودعم خارجي، وما لم يصدر عن الحزب أيّ موقف يحول دون هذا الاحتمال.

توافقات الداخل والخارج انتهت إلى ولادةٍ قريبة محتملة لاتفاق ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، يتم وضع نقاطها الأخيرة هذه الأيام على هامش قمة الأمم المتحدة في نيويورك. على أن فرضية الرئيس التوافقي إن صحّت دقّتها، وأيًّا كانت هوية المرشحين لهذا التوافق، لا تزال بعيدة وتحتاج إلى شروطٍ وقواعد وحوار قد يمسّ دستور البلد، وتحتاج إلى توافقاتٍ خارجية أيضًا لا تزال عَصِيّةً تستدعي العجلة لتعويمِ حكومةٍ تتسلّم صلاحيات موقعٍ رئاسي سيكون شاغرًا.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى