مسرحيون بثيابٍ عسكرِيّة

عبد الرازق أحمد الشاعر*

آنَ لشمسِ الدولة العبرية أن تُشرِقَ من مغربنا العربي، وأن يُعلِنَ أبناءُ صهيون من فوق خشبات مسارحنا الهشّة وبلسانٍ عربيٍّ مُبين أنَّ معركةَ الصراعِ الوجودي قد انتهت، وأنّ زمنَ الأقنعة قد ولّى، وأنَّ عهدَ الاتفاقات السرّية من تحت الطاولة قد ذهب إلى غير رجعة، وأن المُطَبّعين لم يَعُدوا في حاجةٍ إلى تبرير مواقفهم أو الدفاع عنها بعد أن شهد مسرح محمد الخامس في العاصمة المغربية وعلى مدار ثلاثة أيام متواصلة (من الرابع عشر وحتى السادس عشر من أيلول/سبتمبر الجاري) ثلاثة عروض مسرحية إسرائيلية في إطار التبادل الثقافي بين الكيانين المغربي والصهيوني.

لم يتبرّع أحدٌ من الإعلاميين المغاربة بتقديمِ تبريرٍ أو تفسيرٍ أو اعتذارٍ كما جرت العادة في مثل هذه المناسبات، كما لم يتطوَّع أحدٌ من الساسة هناك بتقديم أي مَسوغٍ لفعلهم الثقافي الفاضح في أروقة الساحة العربية المُستباحة، وكأن عهد التبريرات أيضًا قد صار من الماضي، وأن علينا كشعوبٍ عربية خاضت معارك ثقافية وفكرية وحربية مع الكيان الصهيوني على مدار عقود أن نفقدَ ذاكرتنا الجماعية فداءً لعهد تكتنفه الأحضان السامية والقبلات الملكية المقدسة، ولا عزاء لأصحاب الذاكرة القوية والدماء الحارة من أبناء هذه البلاد البائسة.

في العرض الأول، ارتفع الستار بكل سلاسة وأريحية، ليجد النظّارة المغاربة أنفسهم وجهًا لوجهٍ أمام ممثلين ذوي وجوه غريبة ولكنة أغرب يُقدّمون عرضًا مسرحيًا يتناول حياة كوكب الشرق أم كلثوم. لم يكن العرض غريبًا على الجمهور المغاربي، فهم كغيرهم من أبناء الضاد يَهيمون بالمطربة المصرية الراحلة ويحفظون جلَّ أغانيها، لكن الغريب هذه المرة أن أم كلثوم كانت تُقدِّمُ فنها في ثيابٍ إسرائيلية فضفاضة تحمل في طياتها تاريخًا متناقضًا غاية التناقض. صحيح أنني لم أشاهد المسرحية، لكنني على يقين أنها لم تتعرّض لعلاقة أم كلثوم بالرئيس جمال عبد الناصر، ولا للحفلات التي أقامتها الراحلة في عواصم عربية وأجنبية لصالح المجهود الحربي المصري ضد الكيان الصهيوني. لم أشاهد العرض الإسرائيلي عن أم كلثوم لكنني واثقٌ كل الثقة أنه لم يتعرّض لأغنياتها الوطنية والعروبية والناصرية، وأن جوقة الممثلين الصهاينة لم تترنّم بأغنيتها “والله زمان يا سلاحي!”.

وجاء العرض الثاني كذلك ليُعلِنَ إفلاس المسرح الإسرائيلي، وافتقاره إلى عنصر الأصالة، إذ تناولت المسرحية الثانية حياة الفنان فريد الأطرش الفنية وعلاقته بأخته الفنانة أسمهان، ونُتَفًا من مقطوعاته الموسيقية الخالدة. وكأن الفرقة الإسرائيلية جاءت من أقصي بلاد العنف لتُعيد تدوير تاريخنا الفني كي تصنع منه عجلًا فنيًا له خوار، ومن ثم تُعيدُ تصديره للعقول والأفئدة العربية الخاوية.

أما مسرحية “بابا عجينة” التي جاءت بمثابة السمّ في عسل العرض، فقد استعرضت المعاناة التي تعرضت لها أسرةٌ يهودية مغربية عند إقامتها في الأراضي المحتلة لأول مرة. وبعد هذه المسرحية، أسدلت الفرقة الصهيونية ستارها على فصلٍ من فصول صراع حنجوري راح ضحيته آلاف الأبطال والشهداء من أبناء هذه الأمة العربية الحزينة.

لا فرق أيها الموقّعون على صكوك المهانة بين عرضٍ عسكري وعَرضٍ مسرحي طالما أن مراسم الفجيعة واحدة، ولا فرق بين المشاهدين الصامتين على احتلال وتهجير وقهر، ومشاهدي مسرحيات أصحاب الأحذية العسكرية الرخيصة. لا فرق بين ممثلينا عن قضية أكل عليها الاحتلال وبال، وممثليهم فوق خشبٍ مغربي تُزينه النقوش الإسلامية المزخرفة. وأخيرًا، لا فرق بين رئيس فرقة حربية تخصصت في تهشيم الجماجم واقتلاع الأعين من المحاجر، ورئيس فرقة تمثيلية جاء  ليؤدي دورًا رسمه له حكماء صهيون في بروتوكولاتهم المُشينة.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى