بعدما انهارَ العَقدُ الاجتماعي في لبنان، لماذا لم يَتَحَرَّك أحدٌ لإحيائه؟

مايكل يونغ*

بينما يحاولُ رئيس الوزراء اللبناني المُكَلَّف، نجيب ميقاتي، تَشكيلَ حكومة جديدة، يعتقد معظم المراقبين أن فرصه للنجاح في مهمته مُنخَفِضة للغاية. ويرجع ذلك جُزئيًا إلى أن الأمر قد لا يستحق كل هذا العناء حيث من المقرر إجراء انتخاباتٍ رئاسية في وقت لاحق من هذا العام، وسيتعيَّن على الحكومة الاستقالة مرة أخرى. لذلك، قد يُفضّلُ ميقاتي ببساطة إبقاءَ حكومة تصريف الأعمال الحالية التي يرأسها.

لكن السبب الأعمق هو أن رئيس الوزراء المكلف لا يريد مواجهة مطالب الأحزاب السياسية وإرضاء جميع الأطراف. والسبب في ذلك هو أن النظام السياسي في لبنان أصبح في الأساس غير قابل للحكم. أصبحت فكرة التسوية الطائفية في صميمها مُبرِّرًا للعرقلة المُستمرّة حيث يحاول كل طرف تأمين مصالحه.

مع انهيار الاقتصاد الذي بدأ في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، والذي تلاه الجمود التام للطبقة السياسية في إدخالِ إصلاحاتٍ لتحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي، هناك استنتاجٌ واحد لا مفرّ منه: النظام غير قادر تمامًا على مواجهة التحديات الوطنية في لبنان. في الواقع، إن العقد الاجتماعي للبلد قد مات.

واقِعُ النظام السياسي الطائفي في لبنان هو أن النخبة السياسية أدركت منذ البداية أن النظامَ يجب أن يتطوّر من أجل البقاء. ومع ذلك، فإن الانقسامات السياسية والطائفية عادةً ما تمنع أي تطوّر توافقي. وقد أدّى ذلك إلى مشكلةٍ متكرّرة، وهي أن التغييرات في النظام السياسي اللبناني عادةً ما تأتي فقط بعد نوباتٍ من العنف.

أوّلُ إصلاحٍ شاملٍ للدستور، اتفاق الطائف لعام 1989، حدث بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية، والتي بدأت في العام 1975. في وقت مبكر، في العام 1976، اقترح رئيس الجمهورية في ذلك الوقت، سليمان فرنجية، تغييرات دستورية في محاولةٍ منه لتسهيل المصالحة الوطنية. لم يتم تنفيذ أفكار فرنجية في حينه، ولكن تم دمج مقترحاته ومقترحات أخرى للإصلاح الدستوري –ولا سيما الاتفاقية التي وُلِدت ميتة بين قادة الميليشيات في العام 1985 والمعروفة باسم “الاتفاق الثلاثي”- في وقت لاحق في اتفاق الطائف.

في العام 2008، وُضِعَت سابقة أكثر تدميرًا بموجب اتفاق الدوحة، الذي أنهى أيامًا عدة من القتال في لبنان. جاء ذلك في أعقاب استيلاء “حزب الله” العسكري على بيروت الغربية من أجل عكس القرارات التي اتخذتها حكومة فؤاد السنيورة، رئيس الوزراء اللبناني من 2005 حتى 2008.

في ذلك الوقت، كان “حزب الله” وحلفاؤه يسعون إلى الحصول على ما يُعرف بـ”الثلث المعطل” في الحكومة، وهو ثلث الوزراء زائد واحد. وهذا سيسمح لهم بإسقاط الحكومة، ومنع جلسات مجلس الوزراء إذا لم يحضر وزراؤهم، والسيطرة على جدول أعمال الحكومة.

أعطى اتفاق الدوحة المعارضة التي يقودها “حزب الله” الثلث المعطل. وقد أضفى ذلك الشرعية على فكرة أن أقلية في الحكومة يمكن أن تحبط الأجندة السياسية للغالبية، حتى لو تحدثت عن غالبية برلمانية. في حين أن اتفاق الدوحة لم يشق طريقه إلى الدستور، إلّا أنه أصبح ممارسة إلى حد ما، وأصبحت الحكومات فعليًا هيئات يمكن للأقليات السياسية فيها إعاقة قرارات الغالبية.

أخذ اتفاق الدوحة نظامًا توافقيًا وشدّده، حتى أصبح التوافق في الآراء ضروريًا بالنسبة إلى جميع القضايا الرئيسة. لقد جعل هذا الأمر جميع الحكومات تقريبًا منذ العام 2008 غير قابلة للإدارة، حيث أصبح رئيس الوزراء أقل من الأوَّل بين أنداد، الذي يجب أن يدير ويتوسّط باستمرار بين الأحزاب المختلفة داخل حكومته. في مثل هذا السياق، عادةً ما يؤدي اتخاذ القرارات الكبرى إلى خلق فرص أمام سياسة حافة الهاوية المدمرة.

المشكلة هي أنه إذا كان النظام السياسي مبنيًا على فَرضِ إجماعٍ شبه مشلول، فكيف يمكن أن يكون قادرًا على الإصلاح؟ من غير المطمئن ومن المقلق أن اتفاقَي الطائف والدوحة لم يتمّا إلّا بعد اندلاع أعمال عنف. وهذا يُشير إلى أن النظام القائم، من خلال منع التغيير، يؤدي إلى توترات لا يمكن حلها من خلال المحادثات والحوار. وهذا الواقع لا يترك للأطراف ملاذًا لتجنّب العنف عندما تصل الأمور إلى نقطة الانهيار.

وما يجعل الأمور أكثر تعقيدًا هي حقيقة أن الفاعل المُهَيمن على النظام، “حزب الله”، قد عزز هذه الصلابة من خلال اللعب على الانقسامات المحلية للحفاظ على هيمنته. وهذا يعني أنه عزز العناصر المعرقلة في النظام، التي سوف تعارض أي جهود لإزالتها كحالة “تقويض الإجماع”.

في الوقت الذي يحتاج لبنان إلى تنفيذِ إصلاحٍ اقتصادي للمضي قدمًا في صفقةٍ مع صندوق النقد الدولي، فقد فعلت الطبقة السياسية العكس تمامًا. وبسبب الفصائل المتعددة والمختلفة والأجندات المتضاربة لمجموعات المصالح السياسية والاقتصادية، لم تتحرّك البلاد خطوة واحدة إلى الأمام نحو الإصلاح الجاد بعد العام 2019.

على سبيل المثال، قوَّضَ القطاع المصرفي، المتحالف مع كبار السياسيين، البرنامج الاقتصادي لحكومة حسّان دياب في العام 2020. لقد فعل ذلك لأن البنوك لم ترغب في دفع تكاليف الانتعاش الاقتصادي. في نيسان (إبريل) الماضي فقط أبرم صندوق النقد الدولي اتفاق موظفين مع لبنان، يفرض شروطاً صارمة على البلاد لتلقّي التمويل. في غضون ذلك، بين العامين 2020 و2022، تضاعفت خسائر لبنان، وسقط الكثير من اللبنانيين في براثن الفقر، ومن المؤكد أن الحسم (haircut) المُحتمل لودائع المودعين المصرفية سيرتفع بشكل كبير.

أين يترك هذا لبنان؟ لم يعد نظامه المُختل يعمل، لكن لا يوجد أي تفكير على الإطلاق في كيفية تغييره إلى نظام قادر ويعمل. ومع تفاقم مشاكل النظام، وتدهور الوضع الاقتصادي أكثر، وفقدان لبنان لشبابه بسبب الهجرة القسرية، يخشى أن يعود العنف كأداةٍ لكسرِ الوضع الراهن.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى