بايدن في السّعودية: سُقوطُ “عَقيدة أوباما”

محمّد قوّاص*

لم يكن الموقف العربي من اتفاق فيينا مع إيران لعام 2015 مُرتَبِطًا مُباشرةً بفحوى الاتفاق وبنوده. تَحفَّظَ العربُ عن “صفقةٍ” لم تأخذ بعين الاعتبار هواجسهم، وعن اتفاقٍ دُبِّرَ من وراء ظهرهم نَسَجتهُ قناةُ تواصلٍ خلفية بين واشنطن وطهران، من دون أيِّ تشاورٍ مع عواصمِ المنطقة المُفترَض أنها حليفة تاريخية للولايات المتحدة.

ولئن تَخَوَّفت الدول المُحيطة بإيران، ويالأخص دول الخليج، من الخطر البيئي الذي تُشكّله المفاعلات النووية، لا سيما أن بعضها أقرب إلى عواصمها من طهران، إلّا أن تَمَتّعَ إيران ببرنامجٍ نووي، وحتى الوصول إلى القنبلة النووية على جسامة الأمر، لم يكن الهاجس الأول لتلك الدول، ذلك أن قنابل إسرائيل أو باكستان أو الهند (وغيرها) النووية تُحيطُ بالمنطقة أيضًا من دون أن يشكّل هذا الواقع خطرًا آنيًا مباشرًا على بلدان المنطقة وشعوبها.

لا تملك الدول النووية القريبة والبعيدة مشروعًا إيديولوجيًا لإسقاط الأنظمة في العالم العربي، على ما فاخرت إيران به منذ قيام الجمهورية الإسلامية في العام 1979 ووعدت بتصدير ثورتها.

ولا تستعين تلك الدول بميليشيات تفتك بالنسيج الاجتماعي الداخلي لبلدان عربية، أو بأنشطةِ تَدخّل في شؤونها في مغرب المنطقة ومشرقها.

لم يصدف أن اكتُشفت لتلك الدول خلايا ناشطة أو نائمة في هذا البلد أو ذاك، ولم يُسجَّل أنها تدعم جماعاتٍ وميليشياتٍ تُسلّط مُسيِّراتها وصواريخها ومُخدّراتها ضد هذه الدولة أو تلك، ولم تكشف أبواقها التابعة عن عزم على تدمير المدن ودعم الفتنة فيها أو فخر بالسطو على أربعٍ من عواصمها.

اختلف موقف إسرائيل عن الموقف العربي من حيث تركيزه على منع البرنامج النووي الإيراني من التمكّن من إنتاج القنبلة النووية. فما عدا الصدام مع الميليشيات والفصائل التابعة لإيران أو المُتحالفة معها في لبنان وسوريا وفلسطين، وسيطرتها على مستويات الصدام واحتواؤه، فإن إسرائيل مَعنية أوَّلًا وأخيرًا بخطر إطلالة قنبلة نووية من إيران، وليست مهجوسة كثيرًا بالسلوك الإيراني في اليمن والعراق وداخل دول الخليج، لا بل قد تجد في ذلك حافزًا لتعزيز حضورها السياسي داخل المنطقة ومُناسَبة لتراجع مستويات العداء الإقليمي ضدها.

ولطالما ردّد العرب، لا سيما دول الخليج، رفضهم لمقاربة مجموعة الـ 5+1، في تناول البرنامج النووي عبر مَداخِل تقنية يجري التعامل معها بآلياتٍ تقنية تُراقبه وتُحاصره وتحدّ من شططه. ولطالما طالب العرب بآلياتٍ سياسية تُتيحُ مشاركتهم الكاملة في المفاوضات، وعدم التعامل معهم وكأنهم جغرافيا في كوكبٍ آخر. طالب العرب خصوصًا بتضمين المفاوضات مع إيران ملف برنامجها للصواريخ البالستية وملف سلوكها المُزَعزِع للاستقرار في المنطقة.

وفي مطالعات الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، والتي كشفتها بدقة المقابلات التي أجراها معه الصحافي الأميركي جيفري غولدبيرغ ونشرها في صحيفة “ذي أتلانتيك” تحت عنوان “عقيدة أوباما” في العام 2016، ظهرت جلية المداخل الإيرانية التي اعتمدتها الإدارة الديموقراطية آنذاك من دون أخذ المداخل العربية بعين الاعتبار.

لم يلحظ أوباما العامل الإقليمي للمسألة، مُطمئنًا إلى أن “إنزال” اتفاقٍ دولي مع إيران بآلية ثنائية مباشرة بين واشنطن وطهران كفيلٌ بفَرضِ أمرٍ واقع في الشرق الأوسط، لا بل دعوة الخليجيين فوق ذلك إلى الذهاب وفق هذا الأمر الواقع، للاتفاق مع إيران و”تَشارُك النفوذ معها” في المنطقة.

ثبت أن أوباما كان مُخطئًا. أجهضت الولايات المتحدة بالذات في عهد الرئيس دونالد ترامب الاتفاق، وعجزت مواهب الرئيس الحالي جو بايدن عن إعادة إنعاشه وإعادة الروح إليه من دون ملاحق تصويبية ضابطة لم تقبلها طهران حتى الآن.

بات واضحًا أن العامل الإقليمي الذي أسقطه أوباما هو نفسه الذي أسقط الاتفاق بعد 3 سنوات على إبرامه، وأن ضغوط دول المنطقة هي التي منعت الإدارة الديموقراطية في واشنطن ومبعوثها لهذا الملف روبرت مالي من إعادة إنعاش الصفقة الأوبامية العتيقة.

يأتي بايدن إلى المنطقة بناءً على هذا المعطى. لا يمكن لاتفاقٍ دولي مع دولة في المنطقة أن يقوم إلّا من داخل المنطقة وبالتشاور الكامل معها. وإذا لم تفهم واشنطن ذلك سابقًا، فقد تولّت عواصم المنطقة، لا سيما بمناسبة اندلاع “الربيع العربي”منذ العام 2011، فرض رؤيتها وأجنداتها وجعل إراداتها شرطًا وجب على العواصم الكبرى، وخصوصًا واشنطن، التموضع وفقها.

صحيح أن بايدن عبّر، غداة دخوله إلى البيت الأبيض، عن نزوعٍ يُمثّل تمدّدًا للأوبامية لمناكفة المزاج العربي العام واعتباره هامشًا، إلّا أن ما اكتشفه الرئيس الأميركي من تحوّلٍ لافتٍ في السياسات الخارجية العربية، خصوصًا الخليجية، أحدث انقلابًا اضطرت إليه المؤسسات السيادية الأميركية لإعادة ترتيب مواقفها وتصويب أداء البيت الأبيض العام حيال دول المنطقة.

لا تُشكِّلُ حرب أوكرانيا وأزمة الطاقة في العالم إلّا أعذارًا أنزلت بايدن من قمة شجرة بالَغَ في تسلّقها في التعبير عن فوقية أميركية نزقة في التعاطي مع مصالح العرب. حتى أن الرجل نفسه يصرّ على أن جولته الشرق أوسطية وزيارته للسعودية بخاصة ليست لها علاقة بملف الطاقة. يعترف بايدن بأن تحوّلات كبرى جرت في الشرق الأوسط في العقد الأخير، وهو يأتي ليلاقي هذه التحوّلات لا ليسير عكس تيارها.

يبقى أن دونالد ترامب رأى في أيار (مايو) 2017 أن زياته للسعودية هي محطة مفصلية لإدارته للإطلالة على العالم. في السعودية شارك آنذاك في قمم ثلاث جمعته مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي والعالمَين العربي والإسلامي. يفتخر بايدن، بعد نفي الطابع “الطاقوي” لزيارته، أنه ذاهبٌ “لحضور اجتماعٍ دولي كبير”. سيحضر الرجل منتصف الشهر المقبل في جدّة قمّةً تجمعه وقادة دول الخليج ومصر والأردن والعراق. شيءٌ في سلوك بايدن المُستَجِد يحمل عبقًا ترامبيًا أدركه مُتأخّرًا. لكن أن يدرك ذلك مُتأخِّرًا خيرٌ من أن لا يدركه أبدًا.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى