أنا المُكَلَّفُ وحُكومَتي المَواعيدُ

سجعان قزي*

كُنّا نَعجِزُ عن تأليفِ حكومة، فصِرنا نَعجِزُ عن تسميةِ رئيسٍ مُكَلَّف. لا يستطيعُ لبنانُ مفاوضةَ صندوقِ النقدِ الدُوليِّ وإجراءَ إصلاحاتٍ وتَسَوّلَ مساعداتٍ ولا يؤلِّفُ حكومة. لا يستطيعُ لبنانُ التزامَ قراراتِ الأممِ المتَّحِدة والتعاطي مع المجتمعَين العربيِّ والدُوليِّ ولا يؤلّفُ حكومة. لا يستطيعُ لبنانُ وضعَ استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ وعقدَ مؤتمراتِ حوارٍ وطنيٍّ ولا يؤلِّفُ حكومة. لا يَستطيعُ لبنانُ البقاءَ دولةً واحدةً وإنقاذَ شعبِه مِن الفَقرِ والذُلِّ والموتِ والانهيار ولا يؤلِّفُ حكومة. إنَّ تَعمُّدَ افتعالِ فَراغٍ شرعيٍّ يُعيدُ لبنانَ إلى عهدِ المتصرفيّةِ في أفضلِ الأحوال، وإلى عهدِ القائمقاميَّتين، وربّما القائمقاميّاتِ، في أسْوَئها.

منذ أنْ وَطِئَ “حزبُ الل”ه الحياةَ السياسيّةَ بصُحبةِ “التيّارِ الوطنيِّ الحرّ” اخْتلَّت مواعيدُ الاستحقاقاتِ الدستوريّة. وأمْسى الاختلالُ نهجًا سياسيًّا وقاعدةً لأنَّ أحدًا لم يَتصدَّ لذلك منذ اللحظةِ الأولى. اكتفَت القِوى الأُخرى بأخْذِ العلمِ والتعقّلِ الزائدِ والصبرِ الفائض، حتّى اضْطُرّت إلى التكيّفِ مع الواقعِ الجديد من حربِ 2006 مرورًا باحتلالِ وسطِ بيروت 2007ـ واتّفاقِ الدَوحة 2008، وصولًا إلى التسويةِ الرئاسيّة 2016 وما تَلاها. وها هي قِوى المعارضةِ مُرتبِكةٌ حيالَ المرحلةِ الحاليّة، ومُنقسِمةٌ تجاه تسميةِ رئيسِ الحكومةِ الجديدةِ وقرارِ المشاركةِ فيها، وفي عزِّ تَكرارِ سيناريو المجلسِ النيابيّ. وما نخشاه هو أن نُصبحَ أمام هذه الاحتمالاِت الثلاثة (حربٌ ما ودوحَةٌ ما وتسويةٌ ما) إذا لم تُقْدِم القوى السياديّةُ على المواجهةِ من داخلِ المؤسّساتِ ومن خارجِها.

نعرفُ أنَّ بعدَ اتفاقِ الطائف، تجربةَ حكوماتِ “الوِحدةِ الوطنيّةِ” فاشلةٌ ومُرادِفةٌ لتعطيلِ القراراتِ والمشاريع، وبالتالي لشَلِّ الحُكمِ والنظام. في حين أنَّ علماءَ السياسةِ في العالم، يُوصُون بتشكيلِ هذا النوعِ من الحكوماتِ في الأزَماتِ المصيريّةِ لإجراءِ الإصلاحاتِ الكبرى، وإحياءِ المؤسّساتِ الدستوريّة، وتطهيرِ الإدارةِ من المحسوبيّةِ والفساد، واستعادةِ وِحدةِ الدولةِ، واستنهاضِ الحركةِ الاقتصاديّة، واسترجاعِ السيادةِ والاستقلال.

إذَن، في المبدإِ العِلميِّ والواقعِ اللبنانيّ، تبدو حكومةُ الوِحدةِ الوطنية الخِيارَ الطبيعيَّ والمثاليَّ لإنقاذِ لبنان. لكنَّ حكوماتِ “الوِحدةِ الوطنيّة” عندنا كانت أزْمةً لا حَلًّا. فُخِّخَت بالثِلثِ المعطِّل الظاهرِ أو المستَتِر، وأُحبِطَت ببِدعةِ “الوزيرِ الملك” الذي اتَّصَفَ بكلِّ الصِفاتِ إلا صِفاتِ الملوك. لم تكن حكوماتُ الوِحدةِ الوطنيّةِ في لبنان إطارًا للتوافقِ والمشاركةِ الميثاقيّةِ بين القِوى المتنازِعةِ، بل إطارًا لاحتواءِ المعارضةِ والانقلابِ على الحياةِ الميثاقيّة. بتعبيرٍ آخَر، تَحوّلَت حكوماتُ “الوِحدةِ الوطنيّةِ” منذ نحو عشرينَ سنةً أداةً دستوريّةً لشَفْطِ ثرواتِ الدولةِ المركزيّةِ ونَـخْرِ مؤسّساتِها من جِهة، وغَطاءً شرعيًّا لاستكمالِ تنفيذِ مشروعِ الدويلةِ غيرِ الشرعيّةِ من جِهةٍ أخرى.

رُغمَ هذه السلبيّات، تبدو حكومةُ الوِحدةِ الوطنيّة، أو بالأصَحّ الحكومةُ السياسيّةُ الجامعةُ، شرًّا لا بدَّ منه في الفترةِ الحاليّةِ الانتقاليّةِ إلا إذا كان بمقدورِ القِوى السياديّةِ تكوينُ أكثريّةٍ برلمانيّةٍ وتأليفُ حكومةٍ من صفوفِها. أمّا، وقد أخْفقَت هذه القوى حتّى في الاتّفاقِ على اسمِ رئيسٍ مكَلَّف، رُغمَ النكسةِ النجلاءِ الطازِجةِ التي مُنيَت بها على اختلافِ مستوياتِها في انتخاباتِ رئيسِ المجلسِ النيابي ونائبِه وهيئةِ المكتبِ واللجان، فالأجْدى بهذه القوى ألّا تَعزِلَ نفسَها عن المشاركةِ في الحكومةِ لثلاثةِ أسبابٍ رئيسة: 1) الحكومةُ العتيدة، إن تَشكّلَت، هي استثنائيّةٌ ومُرشَّحةٌ لتوَلّي حكمِ البلادِ إذا حَصلَ شغورٌ رئاسيٌّ مُحتمَلٌ على غرارِ ما جرى لدى انتهاءِ عهدِ الرئيسِ ميشال سليمان سنة 2014. وبالتالي، لا يجوزُ تسليمُ الشرعيّةِ لفريقٍ واحدٍ متمَثِّلٍ بقوى المحورِ السوريِّ-الإيرانيّ، خصوصًا أنَّ لبنانَ والـمِنطقةَ قد يكونان عشيّةَ تحوّلاتٍ كثيرةٍ في المدَيَيْن القصيرِ والمتوسِّط. وقيمةُ الحكومةِ العتيدةِ هي وجودُها أكثر من نجاحِها. 2) المشاركةُ في تعديلِ خُطّةِ التعافي وإعادةُ المفاوضاتِ مع صندوقِ النقدِ الدُوليّ، فالمفاوضاتُ السابقةُ كانت بين الصندوقِ والصندوقِ أكثر مما كانت بين الصندوقِ والحكومةِ اللبنانيّة، لأنَّ المفاوضين اللبنانيّين تميّزوا بالتبعيّةِ للصندوقِ بحكمِ علاقاتِهم الوظيفيّةِ به. 3) متابعةُ المفاوضاتِ اللبنانيّةِ-الأميركيّةِ-الإسرائيليّةِ حولَ استخراجِ النَفطِ والغاز وتثبيتِ الحدودِ الجنوبيّةِ وَفقَ الخرائطِ التاريخيّةِ والدُوليّةِ المعترَفِ بها.

مَهمّاتُ الحكومةِ العتيدةِ، أبَقيَت أربعةَ أشهرٍ أم امتدَّت إلى ما بَعد، تَستلزمُ مشاركةَ السياديّين فيها بقوّةٍ ورأسٍ عالٍ وتَخّطي مَقولة: “لا نَجلِسُ مع “حزبِ الله” إلى الطاولةِ ذاتها”. ف”حزبُ الله” باقٍ حولَ الطاولةِ “فيكم وبَلاكُم”. وأيُّهما أفضل: انتزاعُ نِصفِ الطاولةِ من “حزبِ الله” وصَحبِه والتصدّي لمواقفِه أم تركُها له وحدَه عشيّةَ الاستحقاقاتِ والتطورات؟ أمّا إذا كان السياديّون قادرين على قَلبِ الطاولةِ وعَزلِ “حزبِ الله” وتَجاهلِ صفتِه التمثيليّةِ وخَلقِ معادلةٍ جديدة، فحينئذ، طبعًا، لا داعٍ لحكومةٍ جامعة.

لكن الدعوةَ إلى المشاركةِ في حكومةٍ جامعةٍ يجب أن يَسبِقَه اختيارُ رئيسِ حكومةٍ سياسيٍّ ووطنيٍّ وقويٍّ وصادقٍ وصامدٍ، يأبى إملاءاتِ “حزبِ الله” وحلفائِه “الخارجةَ عن الدستورِ والميثاقِ والأعراف”، ويَرفضُ بِدعَ الثُلثِ المعطِّل وكتابةَ وزاراتٍ على اسمِ مذاهبَ وأحزاب، ويلتزِمُ سياسةَ الحِيادِ والقراراتِ الدُوليّةَ التي تَضمّنتها المبادرةُ الخليجيّةُ الصادرةُ عن مؤتمرِ وزراء الخارجيّةِ العرب في الكويت بدايةَ هذه السنة. في كلِّ الأحوال، إن دورَ الحكومةِ العتيدة، إذا تألفّت، أن تواكبَ نهايةَ العهدِ وتُحضّرَ، بالتعاونِ مع المجلسِ النيابيِّ والمرجِعيّاتِ الوطنيّة، انتخابَ رئيسِ جُمهوريّةٍ جديدٍ “يَبني ما تَهدَّم”.

وفي إطارِ التحضيرات، نُناشِدُ الرئيسَ نبيه بري إضافةَ لَجنةٍ إلى لجانِ المجلسِ النيابيِّ مَهمّتُها “التدريبُ النيابيّ” لإعالةِ ذوي الحاجاتِ السياسيّةِ الخاصّة من النوّابِ الجُدد. ولا أعني بهم أدْعياءَ التغييرِ فقط، وهُم في الحقيقةِ متغيّرون لا تغييريّين، بل أيضًا أولئك المبتدِئين الّذين لا يَفقَهون شيئًا في السياسة. هذه أكثرُ مرّةٍ تَنطبقُ كلمةُ “أستاذ” على دولةِ الرئيس نبيه برّي.

إنَّ في هذا المجلسِ راشِدين دون الرُشْدِ وأحداثًا دونَ الحدَث وجُددًا دون التجديد. وفيه كثيرٌ من “الوَلْدنةِ” والنزَقِ والخِفَّة. وهؤلاءِ هُم الكُتلةُ الأكبر. إنَّ هذا الواقعَ النيابيَّ المُبعثَر بين كُتلٍ مزدوجةِ الهوى والهويّةِ وبين نوّابٍ فرادى وتائهين، يَخلُق وضعًا ديموقراطيًّا مشتّتًا يُسيء إلى أصولِ اللُعبةِ البرلمانيّةِ ويُفقِدُ المجلسَ القدرةَ على تحديدِ أكثريّةٍ وأقليّةٍ ثابتتَين. وقد يَنعكس ذلك على تكليفِ رئيسِ الحكومة، فيأتي اليومَ بأصواتٍ وضيعةٍ وبميثاقيّةٍ عَرجاء قد تدفعُ إلى إعادةِ الاستشارات. فلا أكثريّةَ متجانسة، ولا أقليّةَ متوافِقة. بل نوابُ “مَوقِف لحظة”.

  • سجعان قزي هو كاتب، صحافي، مُحلّل سياسي ووزير لبناني سابق. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @AzziSejean
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى