زُجاجُ المَرفَإِ المَكسور في صياغةِ نَيَاد دولابيار

نَيَاد أَمام إِحدى لوحاتها

دكتورة فيوليت داغر*

ما زال انفجارُ بيروت يوحي للمُبدِعين اللبنانيين أَعمالًا فنية مُتعدِّدة التعابير، أَحدَثُها معرض نَيَاد دولابيار صفي الدين “بيروت الساعة 6:06” في غاليري هاشم – باريس، ومنها سينتقل إِلى مراكش وداكار وآرل و… بيروت.

كُسُور في مهارة إِيحائية

حين دعتْني صديقتي مصمِّمة الرقص العربي المعاصر لميا صفيّ الدين إِلى افتتاح معرض ابنتها نَيَاد، لم أَكن أُفكّر أَن هذه الصبيَّة انفعلَت إِلى هذا الحدّ بتأْثير انفجار 4 آب/أغسطس في مرفإِ بيروت. غير أَنني، بعد جولتي على أَعمالها في غاليري مارك هاشم – باريس، وجدتُني أَمام غَمْر من الابتكار المُبدِع من فنانة تشكيلية يافعة في معرضها الأَول، جمعَت فيه بين كُسورِ زُجاجٍ مَرمِيٍّ أَو مُتطاير، وقصاصاتِ ورقٍ مُمزَّق ومشغولة بمهارة إيحائية، وصور مقْتطَعَة تروي حكايات حزينة، وحركات جسدٍ هارب مُنفعل يطلُّ في لوحات زيتية مؤثِّرة. والكلُّ  منجمعٌ في اتساقٍ واحدٍ ذي فكرة مركزية واحدة، تستحضر واقعًا مأْسويًا في بلد دمَّره قدَرُهُ مرات عدة بطرق مختلفة، وعانى الكثير منذ نشأَته، وما زال مُشتَهى أَطماع خارجية ومصالح دولية وإِقليمية، لِما في موقعه الجغرافي من أَهمية جيواستراتيجية، وحضارة ضالعة في عُمق التاريخ، وأَرض زاخرة بالثروات الباطنية، وشعب خلَّاق ينزف باستمرار ثرواته البشرية ويهبُ إِشعاعها ونبوغها بكرمٍ وجدارةٍ سائر أَرجاء العالم.

إِنه لبنان، بلد والدة نَيَاد، شاهدتُ عنه بعض رقصاتها التعبيرية في حفلات والدتها لميا، إِنما هذه المرة تفرَّدَت ناياد بظُهورها متعددة المواهب، طموحة، تؤَكد حضورها فنانة تشكيلية واعدة منذ معرضها الأَول.

ملصق المعرض – وفيه مشاركة وجدي معوض

لبنان في وجدان نَيَاد

في أَعمالها فكرة مركزية تتجلَّى في تفاعلها الوجداني مع المأْساة اللبنانية، فعبَّرت عنها باستبطان الأَسى وإِبرازه على طريقتها، هي التي لم تعرف لبنان إِلَّا من زياراته في العطَل الصيفية ومن أَحاديث والدتها. لكنَّ في عروق أَولادنا معاناةً تَسري مع حليب أُمهاتهم، فيُعيدونها إِلينا بتعابيرهم الشخصية. فها هي ذي في المعرض طائرات ورقية، وزجاج يتشظَّى في الهواء وسْط ورق مصفوف في أَشكال تتكلَّم لغةً بلغَت مشاعرنا وهي تحكي قصصًا مُوجعة عن تلك المأْساة، وتستحضر هول صدمات متوالية عاشها لبنان، من العدوان الإِسرائيلي منذ 1967 إِلى صيف 2006، وجاء انفجار مرفإِ بيروت ليُعيد إِلى الأَذهان أَهوالًا مفجعة واعتداءاتٍ تركت ندوبًا عميقة وجراحًا غائرة في الأَجساد والنفوس. ورافقت العَرض وثائقُ صوتية مجموعة من مكان الانفجار تستحضر هول صدمات متتالية متراكمة أَعادتها إِلى ذاكرتنا أَصوات الانفجارات وصراخ النساء والأَطفال في تلك اللحظات المشؤْومة.

ذاكرة جيلنا الجديد

معرض نَيَاد رجْعُ صدى المآسي الـمُعاشة، عن قُرب أَو عن بُعد، وخصوصًا حين يأْتي النداء المُستغيث من الظُلم الحامل مخزونَ الأَلم المطويّ في حنايا جيل شاب لم يعش المعاناة إِلَّا من ارتدادات مشاعر أَهله وأَخبارٍ وصورٍ متناثرة، كم يتردد صداها في نفسي، أَنا الحاملة لبنان طوال حياتي في أَرض المهجر، وأُحاول إِرجاع بعض الدَين إِليه عبر أَعمالي العلْمية والبحثية، منها أُطروحتي عن التثاقُف مثال اللبنانيين في فرنسا، ومنها كتابي عن الهجرة وتحدِّياتها وإِشكالياتها، ومنها تكريس حياتي للدفاع عن حقوق الإنسان في هذا العالم العربي الممزَّق والسليب.

وها هم أَبناؤُنا، وفي معظمهم مفخرتنا، يُومِئُون لنا على طريقتهم بأَنهم يتفاعلون مثلنا مع أَوجاع أرضنا الأُم وتردُّداتها في نفوسنا. نحاول أَلَّا نكشف عنها كي لا نحمِّلهم معاناتنا، لكنهم، في أَوقات يختارونها، يفاجئُوننا بكشْفهم عنها في أَساليبهم الخاصة الخلَّاقة المؤَثِّرة، كما ليقولوا لنا: “ها إِننا نُعيد لكم الوفاء على طريقتنا، ونعاهدُكم بأَلَّا نخون الذاكرة، ولا نفقد الذكرى ولا نضيِّع الرسالة”.

  • الدكتورة فيوليت داغر، كاتبة لبنانية تعيش في باريس، اختصاصية في السيكولوجيا، وناشطة في حقوق الإِنسان.
  • الصوَر بكاميرا زايا حمدي المصورة الرسمية لـ”جمعية النجدة الشعبية الفرنسية”. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى