طُغيانُ التَوَقُّعات: ربحُ المعركة وخسارةُ الحرب، من أوكرانيا إلى إسرائيل

يُمثِّلُ طُغيانُ التوقّعات مشكلةً صعبة بالنسبة إلى الدول القوية. لكن في بعض الأحيان، يكونُ النقدُ الذاتي ضروريًا لصُنعِ السلام.

يحيى السنوار: طُغيان التوقّعات قد يساعده في النهاية كما ساعد “حزب الله” في العام 2006..

دومينيك تيرني*

في أوائل العام 2022، أشادَ معظم العالم بالقوات الأوكرانية البطلة التي صَدّت القوّاتَ الروسية خارج أبوابِ مَدينتَي خاركيف وكييف. أعلن رئيس الوزراء البريطاني آنذاك بوريس جونسون: “إنها أفضل ساعة في تاريخ أوكرانيا، والتي سوف نتذكّرها ونرويها لأجيالٍ مقبلة”. وقال المستشار الألماني أولاف شولتس: “لقد أظهر جنودها شجاعةً هائلة”. وفي خطابٍ ألقاه في وارسو، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أنَّ “القوات الروسية واجهت ندّها بمقاومةٍ أوكرانية شجاعة وشرسة”.

بعد مرورِ عامَين على ذلك، يُقاومُ الجنود الأوكرانيون مرّةً أخرى الهجمات العسكرية الروسية الضخمة، وهذه المرة في دونيتسك، ولوهانسك، وأماكن أخرى. ولكن الآن هناك عددٌ أقل بكثير من الهتافات. بدلًا من الاحتفال ببسالة أوكرانيا، يُوَبّخُ العديدُ من المراقبين البلاد لأنها لم تُحَوِّل دفّةَ الأمور واتَّجَهَت إلى الهجوم. في تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، على سبيل المثال، أدلت رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني بتصريحاتٍ كاشفة لاثنينِ من الروس (اللذين كانا يتظاهران بأنهما مسؤولان في الاتحاد الأفريقي): “هناك قدرٌ كبيرٌ من الإرهاق، ولا بدَّ لي من قول الحقيقة من كافة الجوانب. نحن نقترب من اللحظة التي يفهم فيها الجميع أننا بحاجة إلى مخرج”. ربما تتمكّن أوكرانيا مرّةً أخرى من صَدِّ مُعتدٍ أكثر قوة. مع ذلك، تبدو هذه النتيجة الآن وكأنها وصلت إلى طريقٍ مسدود، إن لم تكن هزيمة.

إنَّ التحوّلَ العالمي في التصوّرات هو مثالٌ على طُغيانِ التوقّعات – أو كيفَ يُمكِنُ للافتراضاتِ حولَ مَن سييربح في الحرب أن تؤدّي إلى تحريف الأحكام حولَ مَن سينتصر. لا يقومُ المراقبون الخارجيون، الخبراء والأشخاص العاديون على حدٍّ سواء، بتقييم النتائج العسكرية بمجرّدِ إحصاءِ المكاسب والخسائر في ساحة المعركة. بدلًا من ذلك، يقومون بمُقارنةِ هذه النتائج بتوقّعاتهم. ونتيجةً لهذا فإنَّ الدولَ من المُمكِنِ أن تخسرَ أراضيها وتَظلُّ تُعتَبَرُ فائزة إذا تفوَّقت في أدائها. يمكن لدولٍ أن تستولي على أراضٍ وتُوصَفُ بأنها خاسرة إذا لم تُحقق التوقعات. إنَّ الاستنتاجات الناتجة حول الرابحين والخاسرين، مهما كانت منحرفة، يمكن أن ترتَدَّ وتُشكّلَ ساحةَ المعركة. على سبيل المثال، فقدت أوكرانيا أراضيها خلال الأسابيع الأولى من الغزو الروسي. لكن دفاع كييف الحازم على نحوٍ غير متوَقَّع أكسبها مساعدة غربية واسعة النطاق، الأمر الذي ساعدها على تحرير العديد من المدن في الأشهر التالية.

إنَّ طُغيان التوقّعات يعمل أيضًا في حربٍ كبرى أخرى: الحملة الإسرائيلية على غزة. عندما بدأ هذا الصراع، أطلقَ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وعدًا عظيمًا بأنَّ بلاده سوف “تسحق وتُدمّرُ” حركة “حماس”. وكان من الخَطَإِ الإعلان عن أنه سيقضي على الجماعة بالكامل. ف”حماس” هي إيديولوجية، عديمة الشكل، مُشَتَّتة ومنتشرة، ومُدَجَّجة بالسلاح، وهذا ما يعني أنه يكاد يكون من المستحيل على إسرائيل أن تلغيها أو تُزيلها كلّيًا. إن تعهّدَ نتنياهو يجعل من الصعب للغاية أن يُنظَرَ إلى إسرائيل على أنها الرابح الواضح في الحرب. عندما تتعارَضُ التوقّعات مع الواقع، غالبًا ما تتبع ذلك أزمة. إنَّ خيبة الأمل الإسرائيلية من حرب نتنياهو يمكن أن تُسبّبَ صدمةً زلزالية في السياسة الإسرائيلية.

النصوّر والواقع

في البداية، قد يبدو أن مفتاحَ النجاحِ في الحرب هو إظهارُ ثقةٍ كبيرة بالنصر. ففي زمن الحرب، قد يكون التفاؤل عاملًا مُضاعِفًا للقوّة، في حين قد تكون الانهزامية مُعدِية. إذا اعتقد الجميع أن أحد الطرفَين سيفوز بالمعركة، فقد ينتصر حقًا، في نوعٍ من النبوءة ذاتية التحقّق. في كتابه الحرب والسلام، على سبيل المثال، جادل ليو تولستوي بأنَّ القوات الروسية فرّت من الفرنسيين في معركة أوسترليتز في العام 1805، على الرُغم من معاناتها من خسائر مُماثلة، لأنَّ القوات الروسية كانت تُعاني من أزمة ثقة. كتب تولستوي: “قلنا لأنفسنا إننا نخسر المعركة، وقد خسرناها بالفعل”.

لكن تصوّر النجاح الأكيد يُمكن أن يكون خطيرًا أيضًا. إنَّ الحُكمَ على مَن يربح ومَن يخسر في الحرب أمرٌ غامضٌ للغاية، وقد يتّخِذُ الناس قراراتهم من خلال مُقارنَةِ نتيجة ساحة المعركة بنقطةٍ مَرجعية (تعسّفية إلى حد ما) – توقعاتهم. ونتيجةً لذلك، فإنَّ الرابحَ في الصراع قد لا يكون له أي علاقة بالنتيجة على الأرض.

لنتأمّل هنا ما حدث في العام 1975 عندما استولت قوات “الخمير الحمر”، الجماعة الشيوعية في كمبوديا، على السفينة التجارية “ماياغويز” وطاقمها الأميركي المؤلف من 39 فردًا. رَدًّا على ذلك، أطلقت واشنطن مهمة إنقاذ تحوّلت إلى كارثة. قُتل 41 جنديًا أميركيًا، وأُصيبَ أكثر من 50 آخرين، وتُرك ثلاثةٌ من مشاة البحرية الأميركية بطريق الخطَإِ في كمبوديا، حيث تم القبض عليهم وإعدامهم. تمّ إطلاقُ سراح طاقم السفينة “ماياغويز”، لكن ليس بفضل مهمّة الإنقاذ. لقد تبيَّنَ أن قائدًا محلّيًا من “الخمير الحمر” قد أسرَ الأميركيين عن طريق الخطَإِ، وأمرَه كبارُ المسؤولين الكمبوديين بإطلاق سراحهم حتى قبل بدء الغارة الأميركية. ولم تسفر الغارة إذن سوى عن وقوعِ إصابات.

لكن في الولايات المتحدة، رأى الأميركيون أنَّ الغارة كانت بمثابةِ نجاحٍ كبير. وفي أحد استطلاعات الرأي، رأى 79% من الناس أن تعامُلَ الرئيس الأميركي جيرالد فورد مع الأزمة كان “ممتازًا” أو “جيدًا”، مقابل 18% اعتبروه “فقط عادلًا” أو “ضعيفًا”. لقد ارتفعت معدّلات الموافقة الإجمالية لفورد. كانَ أحدُ الأسبابِ الرئيسة لهذا الارتفاع هو انخفاضُ توقّعاتِ الأميركيين بشأن قدراتهم العسكرية. كانت فيتنام الجنوبية سقطت للتو في أيدي القوات الشيوعية، وبالتالي كانت ثقة الولايات المتحدة في حالةِ انحسارٍ منخفضة. لذلك، كان الأميركيون سعداء برؤية واشنطن تُقدّمُ أداءً قويًا على ما يبدو. وفي أحد استطلاعات الرأي، اتفق 76% من الأميركيين على أنه “بعد خسارة فيتنام وكمبوديا، لم يكن أمام الولايات المتحدة خيار سوى اتخاذ إجراءات حاسمة، بل وحتى المخاطرة بحربٍ أكبر، لاستعادة السفينة وطاقمها”.

على النقيض من ذلك، يُمكِنُ للتوقّعات العظيمة أن تُثيرَ خيبةَ أملٍ كبيرة. في العام 1967، بدأ الرئيس الأميركي ليندون جونسون “حملة التقدّم” لإظهار أنَّ الولايات المتحدة كانت تنتصر في فيتنام. ونشرت الإدارة كميات كبيرة من الإحصائيات لإثبات أن الشيوعيين كانوا هاربين، مما عزّز ثقة الأميركيين. وارتفع الدعم الشعبي على نحوٍ كبير. ولكن بعد ذلك، في كانون الثاني (يناير) 1968، شنّت القوات الشيوعية “هجوم تيت” وهاجمت كل مدينة رئيسة تقريبًا في جنوب فيتنام. من الناحية التكتيكية، كان “تيت” كارثة بالنسبة إلى الشيوعيين، حيث أوقعت القوات الأميركية والفيتنامية الجنوبية خسائر فادحة في قواتهم. لكنَّ الأميركيين -بعد أن قيل لهم إنَّ خصومهم بدأوا يفقدون قوّتهم- رأوا الهجوم بمثابةِ هزيمة.لذا تراجعت ثقة الرأي العام الأميركي في الحرب. بالنسبة إلى الشيوعيين، أصبحت الخسارة في ساحة المعركة بمثابة فوز استراتيجي، لأنها وضعت الولايات المتحدة على طريقٍ طويل للانسحاب.

داوود مقابل جالوت

بالنسبة إلى أوكرانيا، كان طُغيان التوقّعات في البداية لصالحها. بعد الغزو، كانت كييف هي المُستَضعَفة، حيث قدّرَ المسؤولون الحكوميون الأميركيون أنَّ روسيا قد تجتاح معظم أنحاء البلاد في غضون أيام قليلة. وعندما فشلت روسيا في الاستيلاء على العاصمة، أُعجِبَت الدول الغربية بأداء أوكرانيا، الأمر الذي شجّعها على تقديمِ المزيد من المساعدات المادية. وفي المقابل، أطلقت أوكرانيا سلسلةً من الهجمات المُضادة الناجحة التي حرّرت ما يقرب من نصف الأراضي التي استولت عليها موسكو.

لكن في هذه الأثناء، كانت كييف مُثقَلة بتوقّعاتٍ كبيرة. بدأ المراقبون الغربيون يشيرون إلى أنَّ أوكرانيا قد تقوم بطريقةٍ أو بأخرى بطَردِ روسيا المُمَزَّقة من جميع الأراضي التي استولت عليها في العام 2022 – وربما حتى الأرض التي استولت عليها موسكو في العام 2014. بعضُ المُحلّلين، مثل إليوت كوهين، الأستاذ بجامعة جونز هوبكنز والمسؤول السابق في وزارة الخارجية، قال إن الهجمات الأوكرانية قد تؤدي إلى انهيار الجيش الروسي. ومن جانبها، شجّعت الحكومة الأوكرانية مثل هذا التفكير والتصور. تعهّدَ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأنَّ أوكرانيا ستُحرِّرُ كلَّ أراضيها وتُقاتل “حتى النهاية” بدون “أي تنازل أو تسوية”. وأشار كبار المسؤولين الأوكرانيين صراحة إلى أنَّ سلسلةً من الهزائم الروسية قد تُجبِرُ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التنحّي عن السلطة.

لكن هذه التوقّعات كانت غير واقعية على الإطلاق. تكبّدت روسيا عشرات، أو حتى مئات، الآلاف من الضحايا، لكنها كانت لا تزال أقوى بكثير من أوكرانيا. كان ناتجها المحلي الإجمالي تسعة أضعاف حجم جارتها، وكان عدد سكانها أكثر من ثلاثة أضعاف عدد سكان أوكرانيا. بعد تعرّضها للنكسات، حشدت موسكو المزيد من القوات، وأمضت أشهرًا في زرع الألغام وإعدادِ دفاعاتٍ أخرى، وتعلمت استخدام الطائرات المُسيَّرة بشكل أكثر فعالية. ونتيجةً لذلك، عندما شنّت أوكرانيا هجومًا مُرتَقَبًا في حزيران (يونيو) 2023، واجهت مقاومة شرسة. وسرعان ما تعثّرت جهودها.

في الغرب، أدّت التوقّعات المُبالَغ فيها بشأنِ نجاحِ كييف الوشيك إلى خيبةِ أملٍ واسعةِ النطاق إزاءَ الهجومِ المُضاد الأوكراني، فضلًا عن التكهّنات القاتمة بشأن مستقبل الحرب. قال السيناتور الجمهوري رون جونسون في كانون الأول (ديسمبر): “أعرف أنَّ الجميعَ يريدُون أن تنتصر أوكرانيا. أنا لا أرى الأمر كذلك”. وقد وَجَدَ أحد استطلاعات الرأي للأوروبيين في أوائل العام 2024 أنَّ عشرة في المئة فقط توقّعوا انتصار أوكرانيا في ساحة المعركة، في حين توقّعَ 20 في المئة انتصار روسيا وتوقّع 37 في المئة التوصّلَ إلى اتفاقٍ وسط. بل إنَّ المسؤولين الأميركيين والأوروبيين -الذين يشعرون بالقلق من وصول الحملة إلى طريق مسدود وأن كييف تُعاني من نقصٍ في الرجال والعتاد- تحدّثوا مع أوكرانيا حول مفاوضاتٍ للسلام.

وقد تُرجِمَ هذا المزاجُ المُظلِم إلى شكوكٍ مُتزايدة بشأن تقديم المساعدة لأوكرانيا. في تشرين الأول (أكتوبر)، على سبيل المثال، وصف السيناتور الجمهوري مايك لي الصراعَ بأنه “حربُ أميركا الجديدة الأبدية”. في كانون الأول (ديسمبر)، قال رئيس مجلس النواب مايك جونسون: “يبدو أن ما تطلبه إدارة بايدن هو مليارات الدولارات الإضافية بدون إشرافٍ مناسب، ولا استراتيجية واضحة للفوز، ومع عدم وجود أيٍّ من الإجابات التي أعتقد أن الشعب الأميركي يستحقّها”. وفي كانون الثاني (يناير)، أعلن رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو أنَّ السبيلَ الوحيد لإنهاء الصراع هو أن تتخلّى أوكرانيا عن بعض أراضيها.

بالنسبة إلى أوكرانيا فإنَّ الشكوكَ المُتزايدة تُشَكّلُ بطبيعةِ الحال خبرًا سيِّئًا. لكن هذا التحوّل المُتشائم يأتي مَصحوبًا ببطانة فضية: فقد يجعل كييف تبدو مرة أخرى وكأنها داوود يقاتل جالوت ويُخفّضُ التوقّعات بالنسبة إلى المستقبل. إذا كان الأمر كذلك، فقد يحتفل المحللون بتحدّي أوكرانيا وينتقدون الوتيرة البطيئة للتقدّم الروسي. في نهاية المطاف، على الرُغم من قوّتها الأكبر، لا تزال روسيا تكافح من أجل الاستيلاء على أراضٍ أوكرانية، وقد تمتعت كييف بانتصاراتٍ واضحة في بعض ساحات الحرب – مثل استهداف البحرية الروسية في البحر الأسود. ويظل قتال روسيا إلى حد منعها من التقدم بمثابة إنجازٍ هائل بالنسبة إلى أوكرانيا. وهنا تستطيع كييف أن تُديرَ توقّعاتها بشكلٍ أفضل من خلال الجمع بين الثقة في نجاحها في الأمد البعيد والتقييم الواقعي للصعوبات التي تواجهها في الأمد القريب. على سبيل المثال، يتعيَّن على أوكرانيا أن تُوَضِّح لصنّاع القرار السياسي وجمهورها العالمي أنها دولة مُستَضعَفة إلى حدٍّ كبير تُقاتِلُ ديكتاتورًا وحشيًا وربما ثالث أعظم جيش في العالم، ولكنها رُغم ذلك سوف تكون لها الغلبة في كفاحها من أجل الاستقلال في نهاية المطاف. قد تساعد هذه القصة في فتح المزيد من المساعدات الغربية.

المبالغة في الوعود وعدم تحقيقها

خلافًا لأوكرانيا، تتمتّعُ إسرائيل بعقودٍ من الخبرة في التعامل مع طُغيانِ التوقّعات، بدءًا بحرب “يوم الغفران” أو “حرب أكتوبر” في تشرين الأول (أكتوبر) 1973. خلال ذلك الصراع، هزمت إسرائيل أخيرًا الجيشَين المصري والسوري، ولكن الإسرائيليين رُغمَ ذلك نظروا إلى الحملة باعتبارها كارثة مُكلفة. بعد انتهاء القتال، أنشأت البلاد لجنةً لتحديدِ الأخطاء التي حدثت، واستقالَ كبار المسؤولين في قوات الدفاع الإسرائيلية. وكذلك فعلت رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مئير.

كانَ الإسرائيليون مُتشائمين جُزئيًا لأن حربَ “يوم الغفران” كانت بمثابة فشلٍ استخباراتي للحكومة. لكنَّ السببَ الأعمق هو أنَّ الإسرائيليين كانوا يُعلّقون توقّعاتٍ عالية على جيشهم، وهي توقّعات تضرُبُ بجذورها في تجارب الماضي. في حربِ الأيام الستة في العام 1967، هزمت إسرائيل بسرعة تحالفًا من الدول العربية، ما دفع الإسرائيليين إلى الاعتقاد بأنَّ جيشهم كان في الواقع لا يُقهَر. ومن خلال هذه العدسة، بدت المعركة الأصعب في العام 1973 وكأنها هزيمة. (ساعدت الثقة المُفرِطة الإسرائيلية في العام 1973 أيضًا في التسبّبِ في فشل الاستخبارات، لأنَّ الإسرائيليين افترضوا أنَّ الدول العربية لن تجرؤ أبدًا على الهجوم). وفي مصر، من ناحية أخرى، أدّت كارثة العام 1967 إلى خفض مستوى النجاح بشكل كبير في العام 1973. وما زال المصريون يحتفلون ب”حرب أكتوبر” باعتبارها نصرًا على الرُغم من خسارتهم في الأخير في ساحة المعركة.

وتكرّرَ هذا النمط في العام 2006، عندما قاتلت إسرائيل “حزب الله” ــالجماعة المسلّحة المدعومة من إيران ــ في الأراضي اللبنانية. قتلت إسرائيل المئات من مقاتلي “حزب الله” خلال الحرب، وبعد ذلك، أصبحت الحدود الإسرائيلية-اللبنانية أكثر هدوءًا حيث تم استبدال قوات “حزب الله” بالجيش اللبناني وقوات الأمم المتحدة. لكنَّ الإسرائيليين ما زالوا يعتبرون أنَّ نتيجةَ الحرب كانت هزيمة. لقد افترضوا أن بضعة آلاف من مقاتلي “حزب الله” لن يكونوا قادرين على مواجهة الجيش الإسرائيلي الجبار، وأنَّ الجماعة المسلحة سيتم تدميرها. لذلك، شعر الإسرائيليون بالغضب عندما نجا “حزب الله” واستمرَّ في إطلاق الصواريخ على أراضيهم. وقال وزير الدفاع السابق، موشيه أرينز، إن إسرائيل منحت “”حزب الله” نصرًا في لبنان”. وأشارت استطلاعات الرأي في ذلك الحين إلى أن غالبية الإسرائيليين أرادت استقالة رئيس الوزراء إيهود أولمرت (على الرُغم من بقائه في السلطة لبضعة أعوام أخرى). وعلى نحوٍ مُماثل لحرب “يوم الغفران”، أنشأت الحكومة الإسرائيلية لجنةً رسميةً للتحقيقِ في الأخطاء التي حدثت.

اليوم قد يُشَجّعُ طُغيان التوقّعات الإسرائيليين على النَظَرِ إلى حربهم في غزة باعتبارها حربًا فاشلة. ف”حماس”، مثلها كمثل “حزب الله”، أضعف كثيرًا من إسرائيل من الناحية المادية، الأمر الذي يُعزّزُ ثقة إسرائيل في أنَّ القوات الإسرائيلية لا بدَّ وأن تنتصر بسهولة. وقد عمل المسؤولون الإسرائيليون على تعزيز هذه التوقّعات من خلالِ تقديمِ وعودٍ عالية السقف، مثل إعلان نتنياهو أنَّ الحربَ في غزة سوف تنتهي بانتصارٍ إسرائيلي أشبه بانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وأعلن في شباط (فبراير) أنه “لا يوجد حلٌّ آخر لإسرائيل سوى النصر الكامل والنهائي”. ومن المُغري بالنسبة إلى نتنياهو أن يستخدمَ مثل هذا الخطاب لحَشدِ الدعم، والإشارة إلى العزم، وتبرير استثمار الأرواح. لكنَّ أهدافَ الحرب المتطرِّفة والوعود بالنصر جعلت الإسرائيليين يشعرون بخيبة الأمل من خلال الإشارة إلى أنَّ النتيجة الوحيدة المقبولة هي الانتصار التام. ويتطلّبُ النصر إما إخراج “حماس” بالكامل من غزة أو إجبار المنظمة على الاستسلام. وهما أمران لن يتحقق أيٌّ منهما على الأرجح.

لقد أصبح من الواضح على نحوٍ متزايد أن هزيمة “حماس” ليست بالأمر السهل. “حماس” هي منظمة عميقة الجذور تعملُ من خلال شبكاتٍ عائلية وعشائرية. وهي جُزءٌ من “محور المقاومة”: شبكةٌ من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية التي تضمُّ إيران، و”حزب الله”، والحوثيين في اليمن، وميليشيات مختلفة في العراق وسوريا، وكلّها قادرة على تزويد مقاتلي “حماس” بالدعم الديبلوماسي والمادي. كانت أمام “حماس” أشهرٌ (أو سنوات) لإعداد الأنفاق والدفاعات الأخرى في غزة. ونتيجةً لذلك، وعلى الرُغم من الخسائر التي تكبّدتها “حماس”، إلّا أنها ليست قريبة من التدمير. وتزعم إسرائيل أنها قتلت 13 ألف من نشطاء “حماس”، ولكن قد يكون لدى الجماعة 30 ألف مقاتل أو أكثر في المجموع. وقد ارتفع التأييد ل”حماس” بين الفلسطينيين في الضفة الغربية. وربما لم يعد أمام إسرائيل الوقت الكافي لإحداث المزيد من الضرر، فهي تتعرّض لضغوطٍ من الدول العربية لإنهاء الصراع، وانتقدت الولايات المتحدة بشكل متزايد عدد الضحايا الفلسطينيين. وقد حذّرَ الرئيس الأميركي جو بايدن نتنياهو، على سبيل المثال، من شنِّ غزوٍ واسع النطاق لرفح، وهو ما قال نتنياهو إنه ضروريٌّ للقضاء على “حماس”. حتى أنَّ بعضَ كبار المسؤولين الإسرائيليين يشعر بالقلق إزاء القتال الذي لا نهاية له، ويدركُ أنه من المستحيل تحقيق النصر الكامل. في كانون الثاني (يناير)، قال غادي آيزنكوت، وهو عضو بارز في حكومة الحرب الإسرائيلية، عن الحملة ضد “حماس”: “مَن يتحدث عن هزيمةٍ مُطلَقة لا يقول الحقيقة”.

على النقيضِ من ذلك، تستفيدُ “حماس” من طُغيانِ التوقّعات. باعتبارها الطرف الأضعف في الصراع، فقد يرى المراقبون أنَّ بقاءها في حدِّ ذاته يُشكّلُ نوعًا من النصر، تمامًا كما حدث مع “حزب الله” في العام 2006. وفي المدى الطويل إذن فإنَّ الحملة التي تشنّها إسرائيل قد تؤدي عن غيرِ قصدٍ إلى تعزيز قوة خصمها أو خلق منظمة جديدة وأكثر خطورة.

بالنسبة إلى إسرائيل، فربما فات الأوان لإعادة ضبط التوقّعات، خصوصًا وأنها لم تكن الطرف المُستَضعَف قط (خلافًا لأوكرانيا). ومن المرجح أن ينظر الإسرائيليون إلى الحرب باعتبارها حملة مُكلفة وفرصةً ضائعة، وربما باعتبارها هزيمةً كبرى. وتشير استطلاعات الرأي في إسرائيل إلى أنَّ الثقة في أمن البلاد آخذة في التراجع. وقد تكون لتصوّرات الفشل عواقبُ وخيمة على السياسة والمجتمع الإسرائيليين. في داخل البلاد، يمكن أن تكون النتيجة عقلية الحصار، وتصلب السياسة الإسرائيلية، والبحث عن كبش فداء. لكن ذكريات الخسارة من الممكن أيضًا أن تُحفّزَ رغبةً أعظم في تقديم تنازلاتٍ للفلسطينيين، تمامًا كما أدت الهزيمة في العام 1973 إلى جعل الإسرائيليين أكثر استعدادًا لمقايضة الأرض بالسلام مع مصر. إنَّ طُغيان التوقّعات يُمثّلُ مشكلةً صعبة بالنسبة إلى الدول القوية. لكن في بعض الأحيان، يكون النقد الذاتي ضروريًا لصنع السلام.

  • دومينيك تيرني هو أستاذ كلود سميث للعلوم السياسية في كلية سوارثمور، وزميل أقدم في معهد أبحاث السياسة الخارجية، ومؤلف كتاب “الطريق الصحيح لخسارة الحرب: أميركا في عصر الصراعات التي لا يمكن الفوز بها”. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @domtierney

  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى