سَرابُ النَزعَةِ الدوليّة الليبرالية
تُشيرُ ردود الفعل الغربية المُتباينة جدًّا حيال المعاناة في أوكرانيا والعالم العربي إلى هوّة عميقة بين الثقافات.
مايكل يونغ*
كَشَفَ النزاعُ الأوكراني، بغضِّ النظر عمّا يُقال عنه، نَمَطَ التَفكيرِ السائد في عددٍ كبيرٍ من المجتمعات الغربية. فحين ننزع عنه طبقات الغضب والاستنكار من الغزو الروسي، نُدرِكُ أن الرسالة لا تتعلّق فعليًا بصوابية الديموقراطية الليبرالية في وجه السلطوية، بل بالانتقائية حيال أولئك الذين يجب أن تنطبق عليهم القِيَمُ الليبرالية.
كانت النزعةُ الدولية الليبرالية ردَّ فعلٍ على سياسات القوة في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، وقامت آليّتها الأساسية على السعي خلف إرساء توازن في القوى. فنَشرُ الحكم الديموقراطي الليبرالي ومُمارسة الديبلوماسية المفتوحة، في تجسيدٍ للانفتاح الذي نصبو إليه لدى البشر، أمرٌ في غاية الأهمية. وبما أن القِيَمَ الليبرالية هي قِيَمٌ كونية في نتائجها الأخلاقية، يجب إذًا تطبيقها في مختلف أنحاء العالم، ولا سيما أن النظام الدولي القائم على منظوماتٍ ديموقراطية هو، على ما يُزعَم، أكثر استقرارًا من النظام القائم على علاقات القوة التي تفتقر إلى الأخلاق.
لكن النزعة الدولية لا تقتصر على الليبرالية الغربية، فالشيوعية ومعظم الأديان الكبرى يقومان أيضًا على اندفاعاتٍ دولية قوية. ومع اندلاع النزاع الأوكراني، برزت رسالة مُتمايزة في الغرب، مفادها أن الدفاعَ عن أوكرانيا هو دفاعٌ عن الديموقراطية الليبرالية بحدّ ذاتها. وقد ردّد المسؤولون الأوكرانيون بحنكة هذه الرسالة، مُعتَبرين أن القِيَمَ الكونية التي يعتزّ بها الغرب كثيرًا تفقدُ معناها إذا لم يجرِ الدفاع عنها في أوكرانيا. وكانت لهذه الرسالة أصداءٌ قوية في أوساط الجماهير الغربية.
لا يستطيع أحدٌ أن يلومَ الأوكرانيين على استغلال نظرة البلدان الغربية المُتعالية إلى نفسها. لكن، من المُستَغرَب كم كانت ردود الفعل الغربية باهتة حين انتفضت المجتمعات العربية ضد أنظمتها السلطوية في العام 2011، ثم في مراحل لاحقة خلال العقد الفائت. ربما يُعزى ذلك إلى شعورٍ لطالما كان سائدًا في الغرب بأن العالم العربي ليس مُستَعدًّا فعليًا للديموقراطية، وبأنه لا يمتلك تقليدًا ديموقراطيًا. لقد عبّر الكاتب، الاقتصادي والفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما، في كتابه “أميركا عند مفترق طرق” (America at the Crossroad) عن وجهة النظر هذه حين كتبَ أن المجتمعات العربية لا تملك المؤسسات اللازمة من أجل “الانتقال من التَوقِ غير المُتبلوِر للحرية، إلى منظومةٍ سياسية ديموقراطية راسخة وذات أداء جيّد تترافق مع اقتصادٍ حديث”.
وقد أبدى الكاتب الأميركي المحافظ “لي سميث” تشكيكًا مُماثلًا في المؤهّلات الديموقراطية لدى العرب، وانتقد في كتابه “الحصان القوي: النفوذ والسياسية وصِدام الحضارات العربية” (The Strong Horse: Power, Politics, and the Clash of Arab Civilizations) إيمان الولايات المتحدة بالديموقراطية العربية. فقد كتب قائلًا: “لم يفهم العرب مبادئ الحُكمِ التمثيلي، لكن رزمة الحرية التي قدّمها البيت الأبيض لم تتضمّن تعليماتٍ حول كيفية سير الديموقراطية في الواقع. بدلًا من ذلك، قُدِّمت مثلما تُوزَّع الألعاب في صبيحة عيد الميلاد، أو مثل جهاز “آيفون” تُرِك للعرب أن يتدبّروا بأنفسهم أمر تشغيله”.
يمكن الخوض في سجال حول ما إذا كان فوكوياما وسميث على حق، لكن بعد انقضاء عقدٍ على انتفاضة المجتمعات العربية ضد حكّامها السلطويين، لا يزال كُثُرٌ في الغرب يسخرون من فكرة قيام عالمٍ عربي ديموقراطي. هذا مفاجئ، لأن الغرب تكبّد أكلافًا طائلة لذلك. وهو مُفاجئ أيضًا لأن تفكير المُشكّكين مُتناقِضٌ ودائري. يكمن التناقض في أن القبول بأن المجتمعات العربية ليست مُستَعدّة للديموقراطية يُسهِمُ بطريقةٍ غير مباشرة في توطيد الأنظمة الديكتاتورية، ما يُقلّصُ أكثر احتمالات تحقيق الديموقراطية. ويُعتَبَرُ هذا المنطق دائريًا لأن الافتراض بأن مجتمعات الشرق الأوسط غير مستعدة مؤسّسيًا للديموقراطية لا يُسهِمُ إلّا في تشجيع السلطويين على العمل من أجل إبقاء مجتمعاتهم غير مُستعدة مؤسّسيًا للديموقراطية.
يُفهَم، في ضوء هذا الإبهام، لماذا طُبِّقت هذه الرسالة الدولية بسهولة كبيرة في أوكرانيا، بينما كانت محمَّلة بالقيود والمحاذير عند التعاطي مع العرب أو المسلمين. وفيما تتوالى فصول الحرب في أوكرانيا، أقام بعض المراقبين مُقارنةً بين هذَين الواقعَين، حتى لو أن نصيبَ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كان في أغلب الأحيان عبارة عن تلميحات تنمّ عن استعلاء وازدراء من بعض المراقبين. لنتذكّر هؤلاء المراسلين الذين حاولوا، في بداية الحرب الأوكرانية، أن يشرحوا أن النزاعَ في أوكرانيا صادمٌ جدًّا لأنه يدور في أوروبا “المُتَحضِّرة”، وليس في دول (“غير مُتحضّرة” كما ألمحوا ضمنيًا) مثل العراق وأفغانستان حيث “يحتدم القتال منذ عقود”.
مع ذلك، يتوقع المرء أن تكون النزاعات الدائرة منذ عقود أمرًا صادمًا. لكنه ليس كذلك على ما يبدو. لقد أصبح حوالي 7 ملايين سوري لاجئين منذ العام 2011، وسط لامبالاة الغرب نسبيًا، ما عدا الجهود التي بذلها الاتحاد الأوروبي لضمان عدم دخول اللاجئين إلى الأراضي الأوروبية. وحين خالفت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل هذا النهج في العام 2015 مُعلنةً أن بلادها ستفتح أبوابها أمام اللاجئين، كاد الاتحاد الأوروبي أن يَنقَسِمَ فيما رفضت الدول طلبها باستقبال اللاجئين أيضًا. في غضون ذلك، أسفر النزاع السوري عن مقتل 350,000 شخص، في حين أن حرب اليمن أدّت إلى مقتل 233 ألف شخص، وتهجير 4 ملايين يمني، وتعريض أكثر من 5 ملايين شخص لخطر المجاعة.
لم تُثِر هذه الأحداث المأسوية ردودَ فعلٍ في الغرب يمكن أن تُقارَن مع حجم التضامن الذي أبدته الدول الغربية مع أوكرانيا. لا بل حتى حين استخدم النظام السوري الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين في آب/أغسطس 2013، أظهر استطلاع لصحيفة نيويورك تايمز/ شبكة سي بي أس نيوز أن 60 في المئة من الأميركيين المُستَطلَعة آراؤهم يُعارضون إطلاق عملية عسكرية للردّ على بشار الأسد، على الرغم من أن 75 في المئة من هؤلاء أعربوا عن اعتقادهم أن الأسد استخدم بالفعل هذه الأسلحة المحظورة.
من السهل التنديد بردودِ فعلٍ كهذه باعتبارها “عنصرية”، لكن هذا لا يُخبرنا بالكثير. فالعنصرية راسخة في كل الثقافات أكثر ممّا يعترف الناس. لكن ما يُخبرُنا به هذا الأمر هو أن الخطاب ذا النزعة الدولية الذي طبع معظم القراءة الغربية للمأساة الأوكرانية لا يمتّ إلى ذلك بصلة. فبالنسبة إلى أشخاصٍ كُثُر في الغرب، إن حقوق الإنسان والاعتبارات الإنسانية، مثل القِيَم الديموقراطية الليبرالية، ليست مُهمّة إلّا عندما تشمل الشعوب التي يتماهى معها هؤلاء الأشخاص.
وهذا أمرٌ مُخزٍ ومؤسِف. فللحظة قصيرة، خُيِّلَ لنا أن الحماسة الأخلاقية حول حرب أوكرانيا ستؤدّي إلى إعادة إحياء النزعة الدولية الليبرالية في عالمٍ تلوّثه النزعات القومية الضيّقة. لكن ذلك لم يحدث. لهذا السبب، قد يكون حان الوقت ربما للتفكير بأن النزعات القومية التي يتخوّف منها المواطنون الكوزموبوليتانيون قد لا تُشكّل التهديد الأساسي. فمسارُ العولمة سيؤدّي إلى انحسار أحلام الانكفاء القومي. لكن، بدأت تستبدلها نسخةٌ أخرى من النزعة القومية، ذات طابع حضاري أو ثقافي، قائمة على تعاطف الناس بشكل أساس مع أولئك الذين يتشاركون معهم الخصائص الثقافية نفسها، على حساب القِيَمِ الكونية. وقد يُسبّب ذلك مشكلةً أكبر لأنه يشمل كياناتٍ جغرافية أوسع نطاقًا. وهذا كان فحوى مفهوم “صدام الحضارات” لصامويل هانتنغتون، ولم يحدث شيءٌ يُذكَر يدفعُ إلى التشكيك به.
كثيرًا ما يلجأ أولئك الذين يقارنون التعاطف الغربي مع محنة أوكرانيا اليوم باللامبالاة النسبية التي أبداها الغرب تجاه العرب والمسلمين خلال العقد الماضي، إلى اقتباسٍ شهير للصحافي والروائي البريطاني جورج أورويل من روايته “مزرعة الحيوانات”. فقد بدت جملته الشهيرة عن أن جميع الحيوانات مُتساوية، إلّا أن بعضها أكثر مساواة من غيره، طريقةً جيدة للسخرية من ازدواجية المعايير الغربية. لكن إذا استبدلنا كلمة “الحيوانات” بكلمة “الثقافات”، نقترب أكثر من حقيقة ما يجري في عالمنا اليوم.
- مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.