أزمَةُ ديونٍ سيادِيِّة ضخمة تُهدِّدُ العالم
في العام 2020، شهدت 51 دولة –بما فيها 44 من الاقتصادات الناشئة– تخفيض تصنيفاتها الائتمانية السيادية. لقد ارتفع حجم الديون السيادية المُتعثِّرة بنسبة 48 في المئة من العام 2019 إلى العام 2020.
لينا موصلي*
في منتصف شباط (فبراير) الفائت، أصدر البنك الدولي تحذيرًا: بلدانٌ عدة مُنخَفضةُ الدخل الأكثر تضرّرًا من الوباء هي الآن على شفا أزمةِ ديونٍ خطيرة، ما يُعقّد الانتعاش الاقتصادي العالمي من جائحة كوفيد-19.
في حين أن المخاوف بشأن العبءِ المُتراكِم للديون السيادية وإمكانية حدوثِ أزمةِ ديون كانت موجودة منذ سنوات، فقد أدّى الوباء إلى تفاقم الوضع غير المُستَقِرّ أصلًا للعديد من البلدان مُنخفضة الدخل، وكشف عن عيوبٍ أساسية في الهيكل الحالي لإعادة هيكلة الديون السيادية. من المرجح أن تُصبِحَ هذه العيوب أكثر وضوحًا في العام 2022، حيث يساهم الغزو الروسي لأوكرانيا في ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء العالمية، فضلًا عن المخاوف العامة بشأن التخلّف عن سداد الديون السيادية.
حذّر الخبراء من أزمةِ ديونٍ مُعَلَّقة منذ سنوات. شهدت البلدان النامية مُنخَفِضة الدخل زيادة أعباء خدمة ديونها من 3.3 في المئة من الإيرادات الحكومية في العام 2012 إلى 9.4 في المئة من الإيرادات الحكومية في العام 2019. وبحلول الوقت الذي ظهر فيه وباء كوفيد-19، كانت حكومات العديد من البلدان المُنخفضة والمُتوسّطة الدخل قد راكمت بالفعل مبالغ كبيرة من الدين العام. إن مُطاردةَ المستثمرين في القطاع الخاص للاستثمارات ذات العوائد المرتفعة سمحت للعديد من بلدان الجنوب العالمي إصدار سندات سيادية، غالبًا للمرة الأولى، والقيام بذلك بمعدلات فائدة منخفضة نسبيًا. وفي العقد الذي سبق الوباء، وسّعت الصين نشاط الإقراض الثنائي بشكل كبير، غالبًا تحت مظلّة مبادرة الحزام والطريق.
في أوائل العام 2020، كان المراقبون يخشون أن يصبح الوضع أكثر خطورة بالنسبة إلى العديد من البلدان مُنخفضة ومُتوسّطة الدخل. في الواقع، في العام 2020، شهدت 51 دولة –بما فيها 44 من الاقتصادات الناشئة– تخفيض تصنيفاتها الائتمانية السيادية. لقد ارتفع حجم الديون السيادية المُتعثِّرة بنسبة 48 في المئة من العام 2019 إلى العام 2020.
كتدبيرٍ لسدِّ الفجوة خلال المرحلة المبكرة من الوباء، أطلقت حكومات مجموعة العشرين “مبادرة تعليق خدمة الديون” (Debt Service Suspension Initiative)، والتي حددت 73 دولة على أنها مؤهّلة لتعليقٍ مؤقت لمدفوعات الفائدة إلى الدائنين الرسميين الثنائيين، بحكم مستوى دخل الفرد ومستوى ديونها. المبادرة، التي استمرت من أيار (مايو) 2020 حتى كانون الأول (ديسمبر) 2021، قدّمت أكثر من 10.3 مليارات دولار لتخفيف أعباء ديون 40 دولة مؤهّلة.
ولكن بعيدًا من حلّ أزمة الديون السيادية، ربما تكون مبادرة تعليق خدمة الديون قد أخّرتها وأجّلتها فقط. أوّلًا، كانت المبادرة، كما يشير اسمها، تعليقًا لتكاليف خدمة الدين، بدلًا من التنازل عن الفوائد أو المدفوعات الرئيسة. اشترت البلدان التي استفادت من مبادرة تعليق خدمة الديون لنفسها بعض الحيّز المالي، لكنها الآن بحاجة إلى استئناف خدمة ديونها بانتظام. تستحق المدفوعات المُعَلَّقة على فترة تتراوح بين أربع وست سنوات، في حين يجب دفع أي شيء مستحق بدءًا من كانون الثاني (يناير) 2022 في الموعد المُحَدَّد.
ثانيًا، من المُرجّح أن تزداد تكاليف خدمة الديون بالنسبة إلى العديد من الحكومات، ليس فقط بسبب انتهاء إعفاء مبادرة تعليق خدمة الديون، ولكن أيضًا لأن العديد من الحكومات تحمّلت ديونًا إضافية في العامين 2020 و2021. في الواقع، أشار صندوق النقد الدولي أخيرًا أن العام 2020 تميّز بأكبر زيادة في عام واحد في المخزون العالمي للدين العام منذ الحرب العالمية الثانية.
وتعكس هذه الزيادة في المديونية، جُزئيًا، زيادةً مُتعَمَّدة في التمويل المُقَدَّم إلى البلدان المُنخَفِضةِ الدخل من المؤسسات المالية المُتعدّدة الأطراف، بما في ذلك مبلغ قياسي للإقراض الطارئ من صندوق النقد الدولي. وبالمثل، قام الدائنون الثنائيون الرسميون بتوسيع نطاق إقراضهم، ما عوَّضَ إلى حدٍّ ما انخفاض قدرة العديد من البلدان على الوصول إلى أسواق الائتمان الخاصة في العامين 2020 و2021. ولكن مع ارتفاع أرصدة الديون، تأتي تكاليف خدمة ديون أعلى. وبالنسبة إلى العديد من البلدان التي لا تزال تواجه معدّلاتٍ مُنخفِضة من التلقيح ومعدّلات إصابة كبيرة، فمن المرجح أن تستمر الطلبات المالية المُوَسَّعة على الحكومات.
ثالثًا، تم تطبيق مبادرة تعليق خدمة الديون فقط على الائتمان الرسمي الثنائي الذي قدمته حكومات مجموعة العشرين، ما يعني أنه من المتوقع أن تستمر الحكومات المؤهلة في مبادرة تعليق خدمة الديون في خدمة ديونها للدائنين مُتعدّدي الأطراف، على الرغم من أن صندوق النقد الدولي قد عوّض عن متطلبات خدمة الديون لأفقر البلدان من خلال “الصندوق الاستئماني لاحتواء الكوارث وتخفيف أعباء الديون” (Catastrophic Containment and Relief Trust). ربما الأهم من ذلك، أن دائني القطاع الخاص لم يُقدّموا تخفيفًا في خدمة الديون، على الرغم من بعض الأمل في ربيع العام 2020 في أن يفعلوا ذلك. واختارت حكومات عدة، والتي كانت مؤهّلة للحصول على إعانة مبادرة تعليق خدمة الديون، عدم طلبها، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى مخاوف من أن وكالات التصنيف الائتماني قد تُخفّض التصنيف السيادي للحكومات المشاركة، ما يزيد من تكلفة التمويل المُستَنِد إلى السندات.
رابعًا، نظرًا إلى أنهم يُمثّلون حصة متزايدة من الديون السيادية في العديد من البلدان، فإن دائني القطاع الخاص غالبًا ما يكونون الآن محوريين لتخفيف عبء الديون وإعادة الهيكلة. في العقد الذي سبق الوباء، سعى العديد من حكومات البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل إلى الحصول على التمويل من خلال إصدار سندات. وقد تم تسهيل ذلك من خلال إضفاء الطابع المهني على مكاتب إدارة الديون، وكذلك من خلال بحث المستثمرين عن العائد الجيد في بيئة عالمية ذات عوائد منخفضة. بحلول العام 2019، كان 62 في المئة من ديون البلدان النامية مُستَحِقّة لدائنين من القطاع الخاص، إرتفاعًا من 43 في المئة في العام 2000.
ما يزيد من تعقيد تخفيف عبء الديون حقيقة أن المستثمرين من القطاع الخاص، على الرغم من كونهم مجموعة مهمّة من الدائنين، هم في الغالب مجموعة واحدة فقط من بين كُثُرٍ للبلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. أفاد البنك الدولي في تقريره الصادر أخيرًا عن التنمية في العالم أن الحكومات التي تسعى إلى إعادة هيكلة الديون، في المتوسط، لديها أكثر من 20 من الدائنين المُتمَيِّزين، والذين يمكن أن يشملوا مؤسسات مالية مُتعدّدة الأطراف ودائنين رسميين ثُنائيين وحملة السندات من القطاع الخاص والبنوك التجارية الخاصة.
قد يسمح هذا التنوّع في الدائنين للحكومات بالسعي إلى أنواعٍ مختلفة من التمويل لأغراضِ متعددة. لكنه يُعقِّدُ أيضًا حلّ أزمات الديون، حيث يميل الدائنون غالبًا إلى “التسرّع بالتوجّه إلى قاعة المحكمة”، سواء كأفراد أو في مجموعات، عندما تظهر بوادر مشاكل.
تنعكس التوتّرات بين الدائنين الخاصين والرسميين في التوتّرات بين الدائنين الثنائيين التقليديين والوافدين الجدد مثل الصين والهند. أدى صعود الصين على وجه الخصوص إلى دور دائنٍ رسمي ثُنائي، بشكلٍ مباشر وعبر مجموعة متنوّعة من كيانات الإقراض التابعة للدولة، إلى تغيير ديناميكيات إعادة التفاوض بشأن الديون. تُدينُ البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط مجتمعة بالديون للصين اليوم أكثر بثلاث مرات مما كانت عليه في العام 2011. وتختلف هذه القروض من حيث شروطها، بما في ذلك أسعار الفائدة وفئات العملات وآجال الاستحقاق. لكن الصين غالبًا ما تكون غامضة إلى حدٍّ ما بشأن نشاط الإقراض، ما يُثيرُ المزيد من المخاوف بين صانعي السياسات ويزيد من تعقيد عملية إعادة الهيكلة.
كما لا تستطيع الدول ذات السيادة الوصول إلى إجراءات الإفلاس أو استخدامها، والتي تسمح في السياق المحلي عمومًا بحل الأزمات بشكلٍ مُنَظَّم من طريق توزيع عبء إعادة الهيكلة أو التخلّف عن السداد بشكلٍ عادل بين الدائنين. على الصعيد الدولي، الإفلاس غير موجود كآلية للديون السيادية، على الرغم من المحاولات السابقة لإنشاء واحدة. بدلاً من ذلك، قد تتردّد الحكومات في مطالبة مجموعة واحدة من الدائنين بإعادة الهيكلة، خوفًا من إثارة الذعر في قطاعات السوق الأخرى. أو تجد الحكومات نفسها تتفاوض مع مجموعات مختلفة من الدائنين وربما تعقد صفقات مختلفة، حتى أن بعض الدائنين يميل إلى الصمود من أجل انتزاع السداد الكامل. والنتيجة هي أن الحكومات قد تؤخّر إعادة الهيكلة التي لا مفرّ منها، بدلاً من التحرّك نحو إعادة تفاوضٍ مُنَظَّم بشأن أعباء ديونها.
كانت هناك بعض الجهود الأخيرة لمساعدة البلدان على شفا أزمة ديون. لإنشاء خطة أوسع لإعادة هيكلة الديون السيادية للدائنين الرسميين، أعلن رؤساء البنوك المركزية لمجموعة العشرين ووزراء المالية عن إنشاء إطار عمل مشترك في منتصف العام 2021. وأشاروا إلى أهمية إشراك دائني القطاع الخاص في تخفيف عبء الديون وإعادة هيكلتها؛ في الواقع، يفترض الإطار أن الدائنين من القطاع الخاص سيشاركون في المفاوضات ويقبلون شروطًا مُماثلة. ومع ذلك، كان التقدم بطيئًا، والتأخير في تخفيف الديون يزيد من مخاطر التخلف عن السداد السيادي.
لم يجلب الوباء معه انهيارًا فوريًا في التدفقات المالية إلى البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل كما كان يُخشى في البداية. على العكس من ذلك، فقد جلب زيادة في تدفقات رأس المال –الدين العام– بالنسبة إلى كثيرين. ولكن مع تشديد الدول الغنية الآن لسياساتها النقدية استجابةً للمخاوف المُتعلّقة بالتضخم، فقد تجد البلدان النامية نفسها تواجه شروطًا أكثر صعوبة للحصول على تمويل جديد، أو حتى تقنين الائتمان.
يضاف إلى هذه التحديات المشاكل التي طال أمدها في هيكل الديون السيادية، لا سيما عدم القدرة على التنسيق بين الدائنين الذين غالبًا ما تكون لديهم مصالح متنوعة، اقتصادية وغير ذلك. من المرجح أن تتطلّب معالجة الآثار المستمرة للوباء في العالم النامي مراجعة هذا الهيكل، على الرغم من صعوبة تحقيقه.
- لينا موصلي هي أستاذة في كلية الشؤون العامة والدولية في جامعة برينستون الأميركية بالإضافة إلى قسم السياسة فيها. تركز على سياسات الاقتصاد العالمي، بما في ذلك الاقتصاد السياسي للاقتراض السيادي وآثار علاقات سلسلة التوريد العالمية. يمكن متابعتها عبر تويتر على: thwillow@
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.