إهراءاتُ الحِسِّ الوطني

راشد فايد*

هَدمُ ما بقي من إهراءات بيروت، أو عدم هدمه، ليس هو القضية. وعلى عادة اللبنانيين، نتيجة تجاربهم مع الطبقة السياسية، فإن السؤال الأبدي تجاه أيِّ قانونٍ جديد، أو مشروع تتبنّاه الدولة، أو اتفاق مع دول أخرى أو مؤسسات دولية، هو: من يقف خلف المُقتَرَح، وما هي الأرباح التي سيجنيها “الملاك الحارس” الذي يُروِّجُ له؟

مثالُ ذلك قرارٌ مفاجئ لوزير الثقافة، محمد وسام المُرتضى، يوم  الجمعة الفائت، يقضي بحماية إهراءات القمح في مرفإِ بيروت من الهدم بإدخالها على لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية، وتحذيره المفتوح من إجراء أيِّ تغييرٍ في وضعها الحالي إلّا بعد موافقةٍ مُسبَقة من وزير الثقافة.

جاء قرار الوزير بعد 10 أيام على قرارٍ لمجلس الوزراء، يوم 10 آذار (مارس)، وافق فيه على توصيات اللجنة الوزارية المُكَلَّفة بدراسة موضوع مبنى إهراءات القمح المُعَرَّض للسقوط في مرفإِ بيروت، ووضع التصوّر العملي ‏لتنفيذها.

المُضحِك المُبكي أن الوزير المُرتضى لا يُناقض قرار الحكومة مُجتمعةً فحسب، بل ويناقض نفسه، إذ كان حاضرًا في الإجتماع ولم يُسَجِّل أي اعتراض، ما يُعزِّزُ التساؤلات عن الجهة، أو الجهات، المُرَشَّحة للإستفادة من المُماحكات التي سيُدخلها جواز الهدم، أو عدمه، وصولًا إلى تلزيم الأمر إلى شركات وراءها شركات، ثم إلى تلزيم إعادة البناء على الطريقة نفسها، والمُحاصصات ذاتها.

للمفارقة، إهتم الوزير في قراره لما سمّاه بالبُعدِ التاريخي لمبنى الإهراءات واعتبرها من “التراث الإنساني” وتناسى أنها موقع مجزرة فاق عدد ضحاياها الـ200، وإذا كان من سبب لحفظها فيُفترَض أن يكون استكمال التحقيق في الجريمة وتسريعه، قبل أيّ أمر آخر، وهو ما لم يَبدُر من الوزير نفسه، بل أظهر نقيضه، قبل ذلك، حين هدّد مجلس الوزراء، في 13 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ‏باصطحاب الوزير السابق المُدَّعى عليه في ملف انفجار مرفإ بيروت علي حسن خليل إلى كورنيش المنارة مُتحَدِّيًا أن يتجرّأ أحدٌ على توقيفه.

ربما يبرر “غفلة” الوزير عن الشهداء وأهلهم، استحياؤه من الجمع بين حماية “أخيه” في “حركة أمل” الوزير المُتَّهَم بالتقصير، وبين أن يكون إلى جانب ضحايا الانفجار. لكن إذا كان الأمر كذلك، فأمورٌ كثيرة تَستلزِمُ استنفارَ الحسِّ الإنساني، إلى جانب الوطني، لدى الطبقة السياسية، التي لم تتعاطَ مع نتائج تفجيرِ مرفإِ بيروت، وانفجار الصمت الشعبي في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 بالمستوى الواجب من المسؤولية، وكأن ما يشهده لبنان يخصّ شعبًا آخر، ما يسمح لهرم السلطة بأن يُمعِنَ في تشتيت انتباه المواطنين عن مكامن الأزمات التي لن ينسى التاريخ مسؤوليتهم عنها، ولو أنهم يُمعنون في مماراة أدوارهم، وتمويه تورّطهم بتراشق المسؤولية، والإتهامات بالنفعية، التي، لغزارتها، يستحيل أن تسقط بمرور الزمن، عبر الأجيال، وتحول غلاظة وطأتها دون عبورها غربال الأيام.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى