عَقدان على مُبادَرَةِ السَلامِ العربية: أيُّ دُروس

الدكتور ناصيف حتّي*

عَقدان من الزمن (بعد أيامٍ قليلة) مرّا على وِلادَةِ مُبادرة السلام العربية في القمّة العربية التي انعقدت في بيروت في ٢٨ آذار (مارس) ٢٠٠٢، والتي أطلقها المغفور له الملك عبدالله بن عبدالعزيز. المُبادرةُ قدّمت رؤيةً شاملةً وشُجاعةً لتسوية النزاع العربي-الإسرائيلي، حيث قامت على مبادئ وأهداف الأمم المتحدة في التسوية السلمية للنزاعات وعلى القرارات الدولية ذات الصلة. قامت على مفهوم السلام الشامل والعادل والدائم والترابط الواقعي، أو التكامل الفعلي بين الأبعاد الثلاثة التالية في تحقيق السلام: السلامُ في قضايا تتعلّق بالهوية الوطنية لشعبٍ مُعَيَّن، والحقُّ في التعبير عن هذه الهوية عبر إقامة الدولة المستقلة أو تحرير أرضٍ ما زالت مُحتَلَّة. من دون ذلك يبقى النزاعُ مَفتوحًا أيًّا كانت التوازنات القائمة على الأرض في شأن هذا النزاع، وأيًّا كانت القدرة على احتوائه أو تهميشه لفترة تقصر او تطول. ويبقى مُنكَشِفًا للتوظيف في كافة أنواعِ الاستغلال السياسي تحت عنوان الدفاع عن “القضية” لأهدافٍ ومصالح استراتيجية وسياسية لا علاقة لها بالضرورة بتلك القضية. وتاريخُ الصراعاتِ والأزماتِ التي قامت واستمرّت وخفتت واستيقظت في العالم وفي المنطقة مليءٌ بالدروس والعِبَرِ في هذا الخصوص.

كيف تبدو الصورةُ اليوم؟ أزماتٌ و”حرائق” كثيرة في المنطقة أدّت إلى تغيّر الأولويّات الإقليمية عند مُجمَلِ الأطراف ولو بدرجاتٍ مُختَلِفة وإلى “تهميش” مَوقِعِ هذا النزاع وإسقاطه عن جدول الأولويّات الإقليمية الضاغطة. واستمرّ الحديثُ عنه بشكلٍ عام في ديبلوماسيةٍ “إعلاميةٍ” كلامية لا تُشكّلُ أيَّ فعلٍ على أرضِ الواقعِ الإقليمي. واستمر الجمود في هذا الملف سيّد الموقف.

“مُثلّثُ بِرمودا” الذي اختفى في إطاره هذا النزاع، الذي كان في صلبِ جَدوَلِ الاولويّات الإقليمية، كما أشرنا سابقًا، ولو وُظِّفَ كثيرًا لقضايا أخرى مُتعدِّدة، وبعضها لا علاقة له “بالقضية” أساسًا، يتشكّل من التالي :

أوّلًا، غيابُ الاهتمام الإقليمي، وبالتالي الدولي، بشكلٍ شبه كُلّي بهذا “الملف”، كما اشرنا سابقًا؛

ثانيًا، سياسةٌ إسرائيلية يحكمها اليمين المُتشدّد، بشقَّيهِ الديني والاستراتيجي، حاملُ عنوان تحقيق حلم إسرائيل الكبرى، واعتبار أن الحلَّ يقوم على “الاقتصاد مُقابل الأمن”، أي بعض المساعدات للشعب الفلسطيني مقابل السلام أو القبول والاعتراف بالواقع الذي يهدف ويعمل على تحقيق ذلك الحلم؛

ثالثًا، مزيدٌ من التفكّك والخلافات والوهن في الجسم السياسي التنظيمي الفلسطيني، الرسمي والعام، وغياب الاستراتيجية الوطنية الفلسطينية الشاملة في الرؤية والجامعة  في الحركة .

نسمَعُ الكثير عن محاولاتِ إحداث مُصالحة فلسطينية بين المُكَوِّنات التنظيمية الرئيسة، ولو دون ذلك الكثير من العوائق السياسية والمصلحية، وهناك أكثر من ضرورةٍ لإعادةِ إحياءِ وتَفعيلِ مؤسّساتِ السلطة الفلسطينية عبر الانتخابات المُختلفة والمُنتَظَرة لإعطائها الشرعية الوطنية المطلوبة قبل الشرعية الدولية الضرورية، ودون ذلك أيضًا الكثير من التحدّيات في البيت  الفلسطيني. لكن ذلك لا يلغي، أو لا يُبرّرُ، أن يبقى الجمود الذي يطبع هذا “الملف” الإقليمي المهم جدًا، كما أشرنا، سيّد الموقف وذلك عبر توظيفه بأشكالٍ وعناوين مختلفة في صراعات المنطقة. ذلك كلّه يستدعي العمل على إعادته إلى جدول الأولويّات الإقليمية في ظلّ المُعطيات والتطوّرات الإقليمية والدولية رُغمَ أنها قد تحمل الكثير من التوتّرات وذلك للعمل على احتواء هذه الأخيرة وعدم مدِّها بمزيدٍ من الحماوة والشرارة لإشعال بعض “الملفات” المُشتَعلة أساسًا.

جرى الحديث في الماضي القريب عن ضرورة إعادة تفعيل دور الرباعية الدولية، وجرى الحديث أيضًا عن توسيع هذه الرباعية لضم قوى دولية وعربية إليها على ضوء المُعطيات الجديدة، وبُغيَةِ تعزيزِ دورها .

ولكن في خضمِّ انفجارِ المواجهة الغربية-الروسية حول أوكرانيا، صار من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، العَمَلُ على إحياءِ دور الرباعية الدولية في المدى المنظور، وقبل التوجّه الفعلي نحو الانخراط في مسارِ الحلِّ السياسي للأزمة في أوكرانيا. وقد يكون الحلّ الأكثر واقعية اليوم، طالما أنّ الجمودَ يسمحُ بخلقِ مُعطياتٍ على أرضِ الواقع، كما أشرنا سابقًا، تزيد من العوائق أمام أيِّ عمليةِ سلام فعلية وبالتالي فعّالة في المنطقة، من خلال تفعيل مبادرة الرباعي العربي الأوروبي، وتوفير الدعم من قبل الأمم المتّحدة لهذا الدور، وكذلك من طرف المنظمات الإقليمية المَعنية مثل جامعة الدول العربية والاتحاد الاوروبي. يُساهِمُ ذلك بإعادة وضع “الملف” على جَدولِ الأولويّات في المنطقة رُغمَ ازدحامِ هذا الجدول بالقضايا الساخنة. ولكن يبقى ذلك أكثر من ضروري، رُغم كافة الصعوبات والتعقيدات، التي أشرنا إليها، إذا أردنا مُقاربة شاملة وهي أكثر من ضرورية من منظورٍ واقعيٍّ لتحقيق الأمن والسلم والاستقرار في المنطقة .

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى