أعداءُ الجَيِّد

لم يخلُ تدخّل فرنسا في لبنان من الأخطاء، لكن رفضها اتّباع نهج متشدّد تجاه لبنان هو نعمة وليس نقمة.

“حزب الله”: مشكلة المشاكل اللبنانية

مايكل يونغ*

خلال فترة العام والنصف الماضية، تدخّل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أكثر من مناسبة للتأثير في النتائج السياسية في لبنان. فقد فعل ذلك عقب انفجارِ مرفإِ بيروت في آب/أغسطس 2020، ثم في إطار عملية تشكيل الحكومة في وقت سابق من هذا العام، ومُجدّدًا في الآونة الأخيرة حين عمل على إقناع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بضرورة إعادة تفعيل تعاون المملكة مع لبنان.

خلال هذه الجهود، تعرّض ماكرون لانتقاداتٍ حادة مِمّن يُمكن تسميتهم بالـ”متشدّدين”، الذين تبنّوا موقفًا قاسيًا حيال كل الشؤون اللبنانية.  وفي الداخل اللبناني، لامَ بعضُ الأشخاص الرئيس الفرنسي لأنه تعامل مع “حزب الله” كما مع المنظومة الفاسدة. وفي خارج البلاد أيضًا، تعرّض ماكرون لموجةِ إدانةٍ مُماثلة، ولا سيما في أوساط الدوائر المُحافِظة في الولايات المتحدة، تحديدًا لأن فرنسا هي من الدول الأوروبية القليلة التي أبقت قنوات الحوار مفتوحة مع “حزب الله”.

صحيحٌ أن ماكرون أخطأ في العام الفائت حين ظنّ أن النخبة السياسية اللبنانية ستدعم مبادرته الداعية إلى إجراء إصلاحاتٍ اقتصادية وتشكيل حكومة تسعى إلى تنفيذ ذلك. لكن هذا الأمر لا يجب أن يلهينا عن واقعٍ أن لبنانَ محظوظ ٌ بأنه لا يزال يحظى ببعض الاهتمام الفرنسي، لأن لا أحد إطلاقًا يعتبر البلاد أولويةً في الوقت الراهن. إن الاهتمام الفرنسي ضروري إذًا في وقتٍ يرزح اللبنانيون تحت وطأة أزمة مالية واقتصادية تاريخية، بحسب تقديرات البنك الدولي.

الأمرُ المُفاجئ في لغة المُتشدّدين أنه أُحاديُّ البُعدِ للغاية، ومُجرّدٌ من أيِّ تفكيرٍ استراتيجي، أو اعترافٍ بأنّ كل ما تفعله طروحاتهم هو تعزيز مصالح “حزب الله” وإيران. النبأ السار الوحيد أن وجهات نظرهم لم تَرسُم بعد معالم السياسات العامة. لكن هذا الواقع يُمكن أن يتغير سريعًا، ولا سيما في الولايات المتحدة، حيث يمارس هؤلاء المُتشدّدون تأثيرًا كبيرًا على الجناح المُحافِظ من الحزب الجمهوري، ودائمًا ما يكرّرون اللازمة نفسها: فلنضرب بقوّة الآن، ونقلقُ بشأنِ العواقب لاحقًا.

والحجّة الأساسية التي يسوقها هؤلاء مفادها: هناك الدولة اللبنانية وهناك “حزب الله”؛ والدولة اللبنانية خاضعة لسيطرة “حزب الله”؛ وبالتالي، إن تقديم أي مساعدات للدولة اللبنانية لن يؤدي سوى إلى تعزيز قوة الحزب. وقد استخدموا هذه الحجّة للمُطالبة بوقفِ المساعدات المالية للجيش اللبناني ولرفض أيِّ دعمٍ أميركي لخطة إنقاذ يعدّها صندوق النقد الدولي من أجل لبنان. وقد وردت هذه التوصيات، على سبيل المثال، في تقريرٍ صدر في حزيران/يونيو 2020 عن اللجنة الجمهورية للدراسات في الكونغرس الأميركي، وهي مجموعة مؤلّفة من أعضاء محافِظين في مجلس النواب الأميركي. يبدو من المؤكّد تقريبًا أن القسم الذي خصّصه التقرير للبنان صاغه أعضاءٌ في مراكز أبحاث يمينية الهوى، وشكّل تكرارًا للخطاب الذي يتبنّاه أصحاب المواقف المتشدّدة حيال لبنان.

لكن هل هذه الحجّة صحيحة؟ مع أن “حزب الله” يُمارس تأثيرًا كبيرًا في الشؤون الوطنية في لبنان وفي الدولة اللبنانية، فإنه يواجه أيضًا بانتظام مُعارضة مذهبية ويصطدم بالمصالح المؤسّساتية، ما يُسهِمُ في إضعاف هذا الطرح. ثمّةُ مثلان حديثان يُظهران ذلك. الأول هو فشل المحاولات التي بذلها “حزب الله” لأشهرٍ عدّة في وقف تحقيق القاضي طارق البيطار بشأن انفجارِ مرفإِ بيروت. والسبب هو أن المسيحيين، ومن ضمنهم عائلات الكثير من الضحايا، كانوا سيستنكرون ذلك، نظرًا إلى أن مُعظَمَ القتلى والجرحى كانوا من الطائفة المسيحية. في غضون ذلك، قاوم القضاة محاولات عرقلة تحقيق البيطار من داخل الجسم القضائي، ما شكّل لحظة نادرة نجح فيها القضاء في صدّ التدخّلات السياسية.

أما المثل الثاني فهو ما حدث في عين الرمانة في شهر تشرين الأول/أكتوبر. فقد أدّت المظاهرات التي أقامها مناصرو “حزب الله” و”حركة أمل” احتجاجًا على تحقيق البيطار إلى اشتباكاتٍ مُسَلّحة في هذا الحيّ الذي تقطنه غالبية مسيحية، بعد أن دخله بعض الشبان المناصرين للحزبَين هاتفين “شيعة! شيعة!”. وقُتِل شابٌ على الأقل على أيدي أحد السكان. لكن، سُرعان ما نزل إلى الشوارع أعضاء مسلّحون في “حزب الله” و”حركة أمل”، وتمّ إطلاق النار عليهم. ومع أن اللائمة أُنحيت في البداية على أعضاء في حزب “القوات اللبنانية” بأنهم الذين أطلقوا النار، تبيّن لاحقًا أن الجيش هو الذي تدخّل للحؤول دون حدوث اشتباكات طائفية، وفقًا لمصادر مقرّبة من المؤسسة العسكرية. وقد تجاوز “حزب الله” و”حركة أمل” في تلك الحادثة خطَّين أحمرَين: أوّلًا من خلال دخولهم بشكل مُخيف إلى حيٍّ مسيحي، وثانيًا من خلال تجوّلهم في محيط عين الرمانة مُدجّجين بالسلاح. ذُكِرَ أن الجيش توصّل في الليلة التي سبقت تلك الأحداث إلى اتفاقٍ مع “حزب الله” و”أمل” بتجنّب هذه الاستفزازات، ويُعتَقَد أن هذا هو السبب الذي دفعهما إلى لجمِ ردّ فعلهما.

كيف يُمكن تفسير التحقيق الذي يقوده القاضي البيطار واستجابة الجيش في عين الرمانة ضمن الإطار الصارم الذي يتبنّاه المتشدّدون تجاه لبنان؟ ببساطة، لا يمكن ذلك، لأن الحَدَثَين يكشفان عن سلوكٍ لا يتناسب مع التصنيفات التي يُفضّلها أولئك الذين يصرّون على رؤية لبنان إما بالأبيض أو الأسود. أما الفرنسيون، وهذا أمرٌ يُحسَب لماكرون، فيميلون إلى التفكير بطريقةٍ رمادية، علمًا أن هذا اللون هو السائد في لبنان الغارق في التناقضات.

لكن اللونَ الرمادي لا يستهوي “حزب الله”، الذي تبنّى على نحوٍ مُتزايد لهجة حادة في مواجهة أيّ مُعارضة لمشروعه من أجل لبنان. وتعكس مبادرات كتلك التي طرحها الفرنسيون، فضلًا عن المساعدات الأميركية المتواصلة للجيش اللبناني، مُقاربة منطقية أكثر تجاهَ المشكلة اللبنانية تستندُ إلى الاعتقاد بأن على القوى الخارجية التعويل على التغيُّرات التدريجية، نظرًا إلى استحالة إجراءِ تحوّلات جذرية. وفيما يُطالبُ البعض بإنهاء “الاحتلال الإيراني” للبنان، وهي رغبة مُحقّة، إلّا أن إيران مُترَسّخة للغاية في طائفة لبنانية كبرى، لذا لا يمكن لمثل هذه الشعارات أن تحقّق إنجازًا يُذكر.

اليوم، يجب أن تعطي الدول المُعارِضة لمحاولات إيران زعزعة استقرار الدول العربية الأولوية للحفاظ على المكوّنات الخارجة عن سيطرة حلفاء طهران في لبنان وتعزيزها. ويجب أن تُركّز أيضًا على تشجيع الدول العربية التي سحبت يدها من لبنان على بناء قواعد لها في البلاد كي تحدّ من تأثير “حزب الله”. وهذا ما حاول ماكرون إقناع السعودية به، وهو مُحِقٌّ في ذلك. في الوقت نفسه، إذا قرّرت الحكومات العربية الانخراط في البلاد، ستُرغِم إيران على أخذ مصالح تلك الدول في الحسبان وقبول أن لبنان ليس شأنًا إيرانيًا حصرًا.

قد يًنفُرُ اللبنانيون المُتمسّكون بسيادة لبنان من هذه المقترحات، خوفًا من أن تُهَيمنُ جهات خارجية على البلاد. لكنهم، على غرار المتشدّدين، عليهم ألّا يجعلوا من المثالية عدوًّا لما هو جيد. واليوم، باتت السيادة اللبنانية مَحضَ سراب. إذًا، طالما يتعذّر على دعاة السيادة تحقيق النتائج التي يرغبون فيها، عليهم السعي إلى أهدافٍ يُمكن تحقيقها.

في الختام، يجدر باللبنانيين في المعسكر المتشدّد التخلّي عن هذا النوع المزعج من النقاء الإيديولوجي الذي جعلهم غير مُبالين بالمُعاناة داخل بلادهم. فمن خلال المُطالبة باتخاذِ إجراءاتٍ مُشدّدة سياسيًا واقتصاديًا، وبتصميمٍ مُتعنّت، يبدون غافلين عن مصير ملايين الأشخاص الذين وقعوا في براثن الفقر. لقد قدّمت فرنسا وغيرها من الأطراف مساعدات إنسانية – وقد زار بيار دوكان، مبعوث الرئيس الفرنسي لتنسيق الدعم الدولي للبنان، بيروت أخيرًا– على افتراض أن تفكّك البلاد سيُطلِقُ موجةً من الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، لكنه، وبالقدر نفسه من الأهمية، سيسمح أيضًا لإيران بإحكام قبضتها على لبنان.

ماكرون إذًا في مرمى أصحاب المواقف المُتشدّدة حيال لبنان تحديدًا لأنه يرفض مجاراتهم في خططهم الانتحارية. فعلى عكسهم، هو يعارض وجهة النظر القائلة إن تدميرَ لبنان بواسطة الضغوط الخارجية سيؤدي بشكلٍ أو بآخر إلى إضعاف “حزب الله” وإيران؛ وهو لا يعتقد أن تجريد لبنان من التأثير الإيراني هو هدفٌ واقعي، وأن عليه رفض التحدّث إلى المسؤولين الإيرانيين بشأن البلاد. ولا يقبل ماكرون كذلك بسيطرة “حزب الله” على جميع مفاصل الدولة اللبنانية ومؤسساتها، لذا هو يبحث عن فُرَصٍ لإضعاف نفوذ الحزب؛ وهو لا يعتبر أن لبنان، في ظلّ تخلّي الدول العربية عنه، سيكون قادرًا على الحدّ من أنشطة إيران و”حزب الله”.

ما سبق وتقدّم هو عبارة عن خلاصات منطقية تمامًا، وحقيقة أن المتشدّدين يرفضونها تُظهر مدى انقطاعهم عن الواقع اللبناني. صحيحٌ أن المُقاربة الفرنسية لم تكن مثالية، لكنها منطقية ويُمكنُ الدفاع عنها. ويتعيّن على اللبنانيين أن يُرحّبوا بواقعِ أنه لا يزال هناك طرف على الساحة الدولية مُهتَمٌّ في الحفاظ على بلادهم، وأكثر منهم أحيانًا.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى