ماذا حلّ بكِ يا تونس بعد انتفاضة 2011؟ (الأخيرة)
عبد اللطيف الفراتي*
طرح الفيلسوف والأستاذ الجامعي المُتميِّز محمد بن جاب الله السؤال التالي: ما هو الأفق الذي ينتظر تونس في عهد قيس سعيّد؟
الجواب: كلُّ شيءٍ يبدو ضبابًا كثيفًا لا تُرى من خلاله مَعالِمَ طريقٍ واضحة، الوضعُ في غاية الصعوبة:
أوّلًا: الوضع السياسي تحت ضبابيةٍ مُظلمة، فلا سقف للوضع الاستثنائي، لا حديث عن انتخاباتٍ سابقة لأوانها حتى في أفقٍ مُتوسّط، ولا وضوح رؤية بالنسبة إلى الكيفية التي ستُدار بها البلاد.
ثانيًا: لا حلول مُعلَنة لوضعٍ اقتصادي بما فيه من انخرامٍ كاملٍ للتوازنات المالية.
ثالثًا: هناك تأخّرٌ شديد بالنسبة إلى المُعلَن من مقاومة الفساد، فالحيتان الكبيرة ما زال لم يصلها “الطش”؛ وانعدام السياسة الخارجية، بالمعنى الحقيقي؛ وسمعة دولية في الحضيض.
كم تستطيع البلاد أن تواصل على هذا النسق، بضبابية شديدة في الرؤيا؟ صحيح أن الرؤيا لم تكن واضحة خلال السنين العشر الأخيرة، ولكن 25 تموز (يوليو)، أتاح للكثيرين أن يتنفسوا الصعداء، وأن يتحدثوا عن انبلاج فجر يوم جديد.
وفي خضم معارضة لم تكن ترفع صوتها كثيرًا، كانت النخبة في غالبها مُؤيّدة لتحرّك قيس سعيّد. وكان الأمل قائمًا بأن يُسرّع الخطى، فتبدأ المُحاسبة سريعًا، ويقع الاعلان عن سقف للحالة الاستثنائية، بحيث تتم وبمرسوم تحويرات في المجلة الانتخابية بشأن طريقة الاقتراع، ثم يتم الاعلان عن موعد انتخابات رئاسية وتشريعية في أفق 90 أو 120 يومًا.
ولكن يبدو اليوم أن الرئيس سعيد، يسعى إلى نظامٍ سياسي يُسمّيه أنصاره النظام القاعدي، وهو نظامٌ غير معهود وغير عادل أشبه بنظام اللجان الشعبية، تكون فيه الأحزاب غير ذات محل وبلا دور، وربما تعود المقولة القذافية: من تحزّب خان.
وقد يتطلّب إقرار ذلك وقتًا طويلًا قد يصل بنا لخريف 2024، تبقى فيه البلاد بلا برلمان، وفي ذات الوقت يفقد الرئيس قيس سعيّد أجزاء كبيرة أو صغيرة من الشعبية التي يتمتع بها اليوم .
والسؤال المطروح: هل سنكون في الأعوام المقبلة أنابيب تجارب، كما كنا في العشر سنين السابقة، بنظامِ اقتراعٍ قاد البلاد إلى ما هي عليه اليوم؟
أمامنا فرضيتان، كلٌّ منهما تحتمل وضعين مختلفين:
-إما استكمال العهدة الحالية بدون برلمان، وانتظار 2024 لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في الموعد الذي كان مُفترَضًا لو سارت الأمور على طبيعتها أو الطريق التي كانت مرسومة.
– أو انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، استجابة للضغط الدولي المُطالب ببرلمان وعودة الحياة الديموقراطية.
أما الوضعيتان المختلفتان، فقائمتان على أفرعٍ عدة:
-إنتخابات رئاسية برئيس بعهدة جديدة وبنظام رئاسي يبدو أنه هو المُحبّذ من غالبية الشعب، بدل النظام البرلماني الهجين.
– إنتخابات تشريعية ليس معروفًا محتواها وطبيعتها. إما أن تكون على شاكلة ما هو موجود في الدول الديموقراطية، ولكن بعد تغيير طريقة الاقتراع والاقلاع عن الطريقة النسبية مع أعلى البقايا، والتي يرى فيها الكل سبب أزمة العشر سنين الأخيرة، وفي هذه الحالة ماذا يكون من أمر، إذا لم تكن الأغلبية الرئاسية (بخاصة في نظام رئاسي) مُنسجمة مع الأغلبية ولو النسبية البرلمانية، وهل يمكن التعايش بين رئيس بهذه المواصفات، وأغلبية برلمانية مُعاكِسة لتوجهاته؟
تلك أسئلة حارقة، لا بد أن تتضح الصورة لاحتمال الإجابة عنها.
وفي الأخير فالمستقبل غامض على كل الصعد، والأزمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية قائمة، والمواجهة بين اتحاد الشغل والسلطة من جهة، واتحاد الأعراف ونقاباتهم من جهة ثالثة، تبقى العنصر الوحيد الذي لا مفر منه، في وضع متأزّمٍ ماليًّا، اقتصاديًّا، مُجتمعيًّا، وقبل وبعد الوضع السياسي، في ظلِّ تدهور المقدرة الشرائية، غير مقدور على إصلاحها، و هي العلامة البارزة لنتائج تصرّف حكّام العشر سنين الماضية الذي تنسبه غالبية الشعب لحركة “النهضة”، والذي دفعت ثمنه السياسي في انتظار اللاحق.
على أن الأكثر حَرقةً، كيف ستوجد البلاد طبقة جديدة من رجال الأعمال والمقاولين، وقد أنهى قيس سعيّد ما بقي من وجودها، بعد دمار العشر سنين الماضية، ومن أين سنأتي بالمستثمرين الذين لا يولدون بين يوم وليلة؟
- عبد اللطيف الفراتي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي تونسي مخضرم. كان سابقًا رئيس تحرير صحيفة “الصباح” التونسية.