“تحويل غزة إلى رماد”: “البروباغندا” الإسرائيلية مقابل العالم

رمزي بارود*

لقد غَيَّرت غزة المُعادلة السياسية في فلسطين.

علاوةً على ذلك، من المرجح أن تؤدي تداعيات هذه الحرب المُدَمّرة إلى تغيير المعادلة السياسية في الشرق الأوسط برمّته، وإعادة مركزية فلسطين باعتبارها الأزمة السياسية الأكثر إلحاحًا في العالم لسنوات مقبلة.

منذ قيام إسرائيل، بتيسير من بريطانيا وبحماية من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، كانت الأولويات إسرائيلية بالكامل.

“الأمن الإسرائيلي”، و”التفوّق العسكري لإسرائيل”، و”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وغيرها الكثير، هي التي حددت الخطاب السياسي الغربي حول الاحتلال الإسرائيلي والفصل العنصري في فلسطين.

إنَّ هذا الفهم الأميركي الغربي الغريب لما يُسَمَّى صراعًا، والذي ينص على أن الظالم لديه “حقوق” على المُضطَهَدين، قد مكّنَ إسرائيل من الحفاظ على احتلالها العسكري للأراضي الفلسطينية والذي استمرَّ لأكثر من 56 عامًا. كما إنه مكّن إسرائيل من إهمال جذور هذا “الصراع”، أي التطهير العرقي لفلسطين في العام 1948، وحق العودة للاجئين الفلسطينيين الذي حُرموا منه لفترة طويلة.

في هذا السياق، تمَّ رفض كل مبادرة فلسطينية-عربية للسلام، حتى أن “عملية السلام” المُفتَرَضة، أي اتفاقيات أوسلو، تحوّلت إلى فرصةٍ لتل أبيب لترسيخِ احتلالها العسكري، وتوسيع مستوطناتها، وحصار الفلسطينيين في ما يشبه “بانتوستان” من المساحات المُهينة والفصل العنصري.

بعض الفلسطينيين، سواء أغرته الهبات الأميركية أو حطّمه الشعور بالهزيمة، اصطفَّ للحصول على ثمار السلام الأميركي-الإسرائيلي، والفتات المُثيرة للشفقة من الهيبة الزائفة، والألقاب الفارغة والسلطة المحدودة، التي منحتها إسرائيل نفسها وحرمته منها.

ومع ذلك، فإن الحرب الإسرائيلية على غزة بدأت بالفعل في تغيير الكثير من هذا الوضع الراهن المؤلم. إن تأكيدَ إسرائيل المستمر على أن حربها القاتلة هي ضد “حماس”، وضد “الإرهاب”، وضد الأصولية الإسلامية … ربما يكون قد أقنع أولئك الذين هم على استعداد لقبول الرواية الإسرائيلية للأحداث كما هي. لكن مع تراكم جثث الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، والآلاف منهم من الأطفال، في مشارح مستشفيات غزة، وفي الشوارع بشكلٍ مأسوي، بدأ السرد يتغيّر.

إن جثث الأطفال الفلسطينيين المسحوقة، وعائلات بأكملها لقيت حتفها معًا، تقف شاهدةً على وحشية إسرائيل، وعلى الدعم غير الأخلاقي من حلفائها، وعلى وحشية النظام الدولي الذي يكافئ القاتل ويوبّخ ويُقاصص الضحية.

من بين جميع التصريحات المُتَحَيِّزة التي أدلى بها الرئيس الأميركي جو بايدن، ربما كان التصريح الذي أشار فيه إلى أن الفلسطينيين يُكذّبون بشأن إحصاء قتلاهم هو الأكثر لا إنسانية.

ربما لم تُدرك واشنطن ذلك بعد، لكن تداعيات دعمها غير المشروط لإسرائيل ستكون كارثية في المستقبل، خصوصًا في منطقة سئمت الحرب والهيمنة والمعايير المزدوجة والانقسامات الطائفية والصراع الذي لا نهاية له. لكنَّ التأثيرَ الأكبر سيكون محسوسًا في إسرائيل نفسها.

عندما ألقى السفير الفلسطيني لدى الأمم المتحدة، رياض منصور، خطابًا عاطفيًا قويًا في 26 تشرين الأول (أكتوبر)، لم يستطع حبس دموعه، الأمر الذي جعل الوفود الدولية في الجمعية العامة للأمم المتحدة يصفّقون بدون توقف، ما يعكس الدعم المتزايد لفلسطين، ليس فقط في الأمم المتحدة، ولكن في مئات المدن والبلدات، وفي زوايا لا حصر لها من الشوارع حول العالم.

عندما ألقى سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان، الذي كان رأس الحربة في الكثير من الأكاذيب التي نشرتها تل أبيب، خصوصًا في الأيام الأولى للحرب، كلمته، لم يُصفّق أحد.

من الواضح أن الرواية الإسرائيلية قد انهارت، وتحطّمت إلى ألف قطعة. والواقع أن إسرائيل لم تكن معزولة إلى هذا الحد من قبل. وهذا بالتأكيد ليس “الشرق الأوسط الجديد” الذي تنبأ به نتنياهو في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 أيلول (سبتمبر).

وبسبب عجزها عن فهم كيف تحوّلَ التعاطف الأولي مع إسرائيل بسرعة إلى ازدراء صريح، لجأت إسرائيل إلى التكتيكات القديمة.

في 25 تشرين الأول/أكتوبر، طالب إردان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس بالاستقالة لأنه “غير مؤهّل لقيادة الأمم المتحدة”. إن جريمة غوتيريس التي يُفتَرَض أنها لا تُغتَفَر هو إشارته إلى أنَّ “هجمات “حماس” لم تحدث من فراغ”.

بالنسبة إلى بإسرائيل والرعاة الأميركيين، لا يجوز لأيِّ سياقٍ أن يلوِّثَ الصورة المثالية التي خلقتها إسرائيل للإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة. في هذا العالم الإسرائيلي المثالي، لا يجوز لأحد أن يتحدّث عن الاحتلال العسكري، أو الحصار، أو غياب الأفق السياسي، أو غياب السلام العادل للفلسطينيين.

ورُغمَ أنَّ منظمة العفو الدولية قالت في بيانها إن كلا الجانبين ارتكبا “انتهاكاتٍ خطيرة للقانون الإنساني الدولي، بما في ذلك جرائم حرب”، إلّا أنَّ إسرائيل ما زالت تهاجمها، مُتَّهِمَةً المجموعة بأنها “مُعادية للسامية”.

لأنه، في تفكير إسرائيل، لا يُسمح حتى لجماعة حقوق الإنسان الدولية الرائدة في العالم وَضع الفظائع في غزة في سياقها أو الجرأة على الإشارة إلى أن أحد “الأسباب الجذرية” للصراع هو “نظام الفصل العنصري الإسرائيلي المفروض على جميع الفلسطينيين”.

لم تعد إسرائيل تتمتع بالقوة المطلقة، كما تُريدُنا أن نعتقد. لقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن “جيش إسرائيل الذي لا يقهر”، وهي العلامة التجارية التي سمحت لإسرائيل بأن تصبح، اعتبارًا من العام 2022، عاشر أكبر مُصَدِّرٍ عسكري دولي في العالم، تحوّلَ إلى نمرٍ من ورق.

وهذا هو أكثر ما يُثيرُ غضبَ إسرائيل. لقد قال عضو الكنيست السابق، موشيه فيغلين، في مقابلةٍ مع صحيفة “آروتس شيفا-إسرائيل ناشيونال نيوز”: “لم يعد المسلمون خائفين منّا. ولاستعادة هذا الخوف، دعا السياسي الإسرائيلي المتطرف إلى حرق “غزة وتحويلها إلى رماد فورًا”.

لكن لا شيءَ يمكن أن يحوِّلَ غزة إلى رماد، حتى لو كان أكثر من 12 ألف طن من المتفجّرات التي ألقيت على القطاع في الأسبوعين الأولين من الحرب قد أحرقت بالفعل ما لا يقل عن 45 في المئة من الوحدات السكنية في القطاع، وفقًا لمكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة. إن غزة لن تموت لأنها فكرة قوية راسخة في قلوب وعقول كل عربي ومسلم وملايين البشر حول العالم. وتتحدى هذه الفكرة الجديدة الاعتقاد السائد منذ فترة طويلة بأن العالم يحتاج إلى تلبية أولويات إسرائيل وأمنها وتعريفاتها الأنانية للسلام وجميع الأوهام الأخرى.

يجب أن يعود النقاش الآن إلى حيث كان ينبغي أن يكون دائمًا، أي أولويات المُضطَهَدين وليس الظالمين. لقد حان الوقت أن نتحدث عن الحقوق الفلسطينية والأمن الفلسطيني وحق الشعب الفلسطيني، بل واجبه، في الدفاع عن نفسه. لقد حان الوقت لنتحدث عن العدالة، العدالة الحقيقية، التي تكون نتيجتها غير قابلة للتفاوض: المساواة، الحقوق السياسية الكاملة، الحرية وحق العودة.

لقد أخبرتنا غزة بكل هذا وأكثر من ذلك بكثير. وقد حان الأوان لكي نستمع ونُصغي.

  • رمزي بارود هو صحافي فلسطيني-أميركي ورئيس تحرير ” فلسطين كرونيكل”. ألّف ستة كتب كان الأخير منها، الذي شارك في تحريره إيلان بابي، هو “رؤيتنا للتحرير: القادة والمثقفون الفلسطينيون المشاركون يتحدثون علنًا”. وبارود هو أيضًا زميل أبحاث كبير غير مقيم في مركز الإسلام والشؤون العالمية (CIGA). يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: ramzybaroud.net

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى