بيروتُ الحرية… وفضاء ليلى بعلبكي

هنري زغيب*

بعد طول غيابٍ جاءنا خبرٌ، لا منها بل عنها، أَنها غابت هذه المرة غيابَها الأَخير، وَوُورِيَت ثرى منفاها في لندن، بعيدَةً عن بلدتها الجنوبية حُومين التحتا، وبعيدةً عن بيروت التي أَطلقتْها سنة 1958 روائية مغايرةً في ربيعها الرابع والعشرين خضَّت بيروت بروايتها الأُولى “أَنا أَحيا”. وأَرفقَتْها في العام التالي بمحاضرة جريئة على منبر الندوة اللبنانية في 11 أَيار/مايو 1959 بعنوان “نحن بلا أَقنعة” انهالت فيها على المجتمع اللبناني المغلَق الغارق في “تابو” الممنوعات السائدة والمحرَّمات الدينية والعائلية والاجتماعية. وتردَّدت على صفحات الصحافة اللبنانية محاضرة تلك الصبية الثائرة، صوتًا نسائيًّا يكسر قشور البيضة الكبرى التي تختنق فيها حرية المرأَة المنفتحة على فضاءات الحياة، ما لم يكن ممكنًا إِلَّا في بيروت، بيروت فضاء الحرية الوحيد في كل العالم العربي. ولم يهدأْ قلمُها الثائر. سافرت سنتين 1959 و1960 إِلى باريس الطالعة من ثورة 1958 التي قضت على الجمهورية الرابعة وجاءت بديغول الجمهورية الخامسة. وبعودة ليلى إِلى بيروت أَصدرت سنة 1960 روايتها الثانية “الآلهة الممسوخة”، وأَتبعتْها سنة 1963 بكتابها الثالث “سفينة حنان إِلى القمَر” وهو مجموع قصص قصيرة نالت من الأَمن العام الموافقة الرسمية على نشرها. ولكنْ صدر بعد أَشهر مقال في مصر سنة 1964 هاجم الكتاب بتوقيع مستعار، فتنبَّهَت دولتنا الشوساء وأَرسلت شرطة الأَخلاق اعتقلت ليلى بعلبكي وأَوقفَتْها في مخفر حبيش مع النساء الموقوفات بتُهَم أَخلاقية، وسحبَت نُسَخ الكتاب من المكتبات. خضعت ليلى في المخفر لاستجواب ثلاث ساعات طويلة أُحيلت بعدها إِلى المحاكمة بتهمة أَنها في كتابها “سفينة حنان إِلى القمر” أَساءت إِلى الأَخلاق العامة.

وانهالت ردود الفعل على دولة تصادر الكلمة وتحاكم أَهل الأَدب. وبين أَقسى الردود مقال غاضب من أُنسي الحاج في ملحق “النهار” سنة 1964، جاء فيه: “ليلى بعلبكي ذهبَت ضحيةً لأَنها امرأَة ولأَنها معروفة ولأَن رأْيها صريح في النظام البوليسي”. وفي المحكمة، طالبَت النيابة العامة بحبس المدَّعى عليها الآنسة ليلى بعلبكي ستة أَشهر وبتغريمها 100 ليرة. لكن الدفاع عنها كان في قبضة المحامي النسر محسن سليم فامتشقَ لها حكْمًا صارمًا: وقْفُ التعقُّبات بحق المدعى عليها ورفْع قرار المصادرة وإِعادة الكتب الـمُصادَرة إِلى أَصحابها”. وانتصرت بيروت الستينات، بيروت الحرية، بيروت المنبر الذي أَطلق كاتباتٍ ما كان يمكن أَن ينطلقْن من أَيِّ مدينةٍ سواها في كل هذا العالم العربي الوسيع… هكذا صدَحت فترتئذٍ أَقلام إِملي نصرالله وغادة السمان ومنى جبُّور وحنان الشيخ، واستقبلَت بيروت تلك الأَقلام النسائية النضرة، مُحافِظَها وجريئَها، مفسحةً فضاءَها للإِيروتسيم دون البورنوغرافيا. وبقيت أُولئك الكاتبات وفيَّات لبيروت الحرية حتى اليوم، إِلَّا منى جبور التي أَطلقَت صدرها لهواء الجرأَة في روايتَيْها “فتاة تافهة” و”الغربان والمسوح البيضاء” لكن سوداويَّتَها أَدَّت بها إِلى الانتحار.

هذه هي بيروت، الغالية بيروت، الفريدة بيروت، تَحوم فوقها الغيوم السود، يُخال أَنها خَنَقَتْها، لكن بيروت لا تَختنق، تغُصُّ لكنها لا تختنق، وتنقشع الغيوم السود إِلى فضاءٍ صافٍ كتاريخ بيروت، كمَجد بيروت، كنصاعة بيروت في ذاكرة العالم الحضاري.

ليلى بعلبكي التي غادرَت بيروت سحابة نصف قرن، فيما طوَت عامها التاسع والثمانين وغارت في الغياب الأَخير ، إِخالها غابَت وفي قلبها وفاءٌ لفضل بيروت في إِطلاقها قبل خمس وستين سنةً سنونوةً حُرَّةً في فضاء بيروت الحرية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى