تَفَكُّكُ الحُلُم اللبناني

مايكل يونغ*

تتواصل الجهود في لبنان لتشكيل حكومة جديدة – وهي عملية مستمرة منذ تشرين الأول (أكتوبر) الفائت بدون نجاح. إذا فشلت عملية التأليف مرة أخرى، ولم يتم اتخاذ خطواتٍ لبدءِ برنامج إصلاح لتأمين المساعدات المالية الدولية للاقتصاد المُنهار، فسوف يتسارع تفكّك البلد، الأمر الذي قد يوصلنا إلى عدم التمكّن من الحديث عن كيانٍ مُشترَك يُدعى لبنان.

قد تظهر زيادة التشرذم والإنقسام فيما تفقد الدولة المزيد من القوة والتماسك. وقد تبدأ الأحزاب الطائفية، في أماكن تواجدها الجغرافي، إدارة أمن تلك المناطق وربما تسعى في النهاية إلى فعل الشيء نفسه بالنسبة إلى الشؤون الاقتصادية المحلية.

في 20 أيار (مايو) الفائت، حدث تطورٌ كاشف. سعى حزب “القوات اللبنانية” إلى منع السوريين في المناطق ذات الغالبية المسيحية من التصويت في الانتخابات الرئاسية في بلادهم، والذين خططوا للإقتراع لمصلحة الرئيس السوري بشار الأسد. ردُّ الفعل لم تكن له علاقة كبيرة بالانتخابات. وبدلاً من ذلك، سعى حزب “القوات اللبنانية” إلى إظهار سيطرته على شوارع المناطق المسيحية، حيث نشر شباناً من محازبيه لمنع مظاهر الدعم لنظام الأسد.

كانت أفعال هؤلاء المحازبين تهدف إلى إظهار وجود إطارٍ لقوّة حماية محلية إذا لزم الأمر، حتى في نهاية المطاف ميليشيا. كان حزب “القوات اللبنانية” يُلمّح إلى أنه ما زال قادراً على الدفاع عن المناطق ذات الغالبية المسيحية، كما كان خلال سنوات الحرب الأهلية.

قد لا تكون الحسابات عسكرية في هذه المرحلة. لا يتعلق الأمر بالتحضير للصراع بقدر ما يتعلق باتخاذ إجراءات وقائية في حال لم تعد الدولة قادرة على ضمان سلامة المواطنين. وبالفعل، غالباً ما يفشل رجال الأمن، الذين يتقاضون رواتب لا تساوي شيئاً الآن، في الاستجابة عند استدعائهم للتدخّل في النزاعات.

هناك ميلٌ بين كثير من الناس لربط ما يحدث بتجربة الحرب الأهلية. يعتقدون أنه إذا نشأت مجموعات الدفاع عن النفس خارج نطاق الدولة، فستتبعها حربٌ أهلية وصراعٌ طائفي.

في حين أن هذا لا يمكن استبعاده، لكنه لا يبدو أمراً قريب الوقوع أو لا مفرَّ منه. مع إضفاء الطابع المؤسسي على أنشطة مجموعات الدفاع عن النفس الطائفية، قد تتعارض مصالحها بالفعل مع مصالح الجماعات الأخرى، مما يخلق توتّرات. ومع ذلك، من المُمكن أيضاً، إن لم يكن أكثر، أن نرى شيئاً مُختلفاً – شكلٌ من أشكال التفكّك الوطني الزاحف وغير الرسمي، من دون آثارٍ عسكرية، يحل تدريجاً ويتعمّق على حساب فكرة الدولة المُترابِطة.

من المثير للقلق أن العديد من اللبنانيين لا يبدون مُلتزِمين بشكل خاص بالحفاظ على دولة لبنانية مُوَحَّدة. هذا يختلف باختلاف المجتمع، ولكن بالتأكيد في العديد من المناطق المسيحية، يُنظَر إلى فكرة الفصل أو الإنفصال بشكل عام على أنها شيءٌ إيجابي لسببين: يُدرك المسيحيون أنهم أقلية مُتقلِّصة؛ والبعض يعتقد أنه لأن لبنان تحت سيطرة “حزب الله” وإيران، فمن الأفضل الابتعاد عن مثل هكذا وضع.

من جهّته، سلّط ردّ فعل “حزب الله” على الأزمة الاقتصادية الضوء على الطبيعة المُتصَدِّعة لكيفية بدء الأحزاب السياسية في التكيّف مع الوضع. يقوم الحزب ببيع سلع إيرانية مدعومة في مناطقه، فضلاً عن تقديم تسهيلات ائتمانية خارج سلطة الدولة. في حين أن تأثير مثل هذه الخطوات في المجتمع الشيعي الأوسع لم يتّضح بعد، فإن رسالة الحزب واضحة: سنعتني بأنفسنا ولا يهمّنا حقاً بما يحدث لبقية المجتمع اللبناني.

ومع ذلك، هناك أيضاً عوامل تلعب ضد الانفصال الكامل. قد يكون لدى “حزب الله” دولارات تُمكّنه من الانخراط في مثل هذه الأنشطة – سواء تم توفيرها من قبل إيران أو مُموِّلين آخرين، أو من أنشطة تهريبه في الخارج. لكن معظم الأحزاب الطائفية الأخرى لديها القليل من المصادر المُستدامة للعملة الأجنبية. بعبارة أخرى، إذا بدأت الجيوب أو المناطق ذات الغالبية الطائفية في التبلور، فمن المرجح أن يكون تطوير اقتصاداتٍ عاملة أكثر تعقيداً، إذا كان ذلك مُمكناً.

هذا يعني أن الشروط الاقتصادية الأساسية للانفصال ليست مضمونة. من الأرجح أنه وسط التشرذم الفعلي، سيصبح “حزب الله” مُحرّكاً إقتصادياً وطنياً رئيساً. إذا نفد احتياطي الدولة من العملات الأجنبية – لبنان شبه موجود – فمن المُتصَوَّر أن “حزب الله” يُمكن أن يضمن الضروريات الحيوية مثل استيراد الوقود، على سبيل المثال، وبيعه إلى أجزاء مختلفة من البلاد. في الواقع، سيبدأ اللبنانيون في هذه الحالة تمويل الحزب بدلاً من إيران.

ومع ذلك، من غير الواضح ما إذا كان “حزب الله” سيسمح للبنان بالتفكّك. قد يُفضّل بقاء الدولة لإضفاء الشرعية على دوره. لكن هذا لا يعني أنه سيُعارض نظاماً مُقَسَّماً وأكثر تجزئة إذا أصبح ذلك أمراً لا مفرّ منه. مثل هذا الأمر قد يُجبر الأحزاب الطائفية على امتصاص السخط الشعبي، بحيث يتم توجيه قدرٍ أقل من الغضب ضد “حزب الله”، وتسهيل استراتيجية الحزب القائمة على فرِّق تسُد.

السؤال الحقيقي هو: إذا تجزَّأ وتفكّك النظام وأصبح ذلك راسخاً ومُتأصّلاً ، فهل يُمكن إعادة لبنان على الأسس ذاتها كما كان في السابق؟ هناك خطرٌ حقيقي يتمثل في ضرورة إيجاد عقدٍ اجتماعي جديد ليحل محل العقد الذي ساعد الانهيار الاقتصادي على تقويضه الآن.

أصبح العقد الاجتماعي الحالي، رُغم وصفه بأنه ميثاقٌ بين مختلف الطوائف، نظاماً يُوزّع الثروة الوطنية بين الزعماء الطائفيين وأفلس البلاد. إن إحياء هذا الترتيب مستحيلٌ اليوم. إما أن يجد اللبنانيون إجماعاً جديداً حول رؤيةٍ للدولة، أو أن القوى النابذة في بلادهم ستستمر في دفع المجتمع في اتجاهات مُتباينة. حتى لو بقي لبنان واحداً، فلن تختفي تلك الديناميات.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى