مِن تحت هالأَرزِه لآخِر هالدني

هنري زغيب*

تتقاطر يومًا بعد يوم أَخبارٌ مفرحةٌ عن استعداد لبنان هذا الصيف لاستقبال الآلاف من أَبنائه المهاجرين، يعودون إِليه، ولو أَسابيعَ وميضةً، يَستذْكرون ويَذْكُرون ويتذاكَرون أَيامهم في حِضن أَرضهم الأُم، غيرَ مُغْفِلين أَن يَلْعنوا طبقة سياسية فاجرة سبَّبَت انسلاخهم عن مِنديل جدَّة، وقُبلةِ أُم، ورضى والد، وزوغةِ أَهلٍ وأَصدقاء، وحنينٍ إِلى كروم العنب والتين وخبْز البرَكة وعروسة الزعتر.

مع هذا التقاطُر، يتوقَّع العارفون تحريكًا ملحوظًا في الدورة الاقتصادية والمالية هذا الصيف، ما يُنعش ولو جُزئيًّا أُوكسيجين هذا الاختناق الذي يحاصر الشعب ولا يطال السياسيين.

“تحريكًا ملحوظًا” قلتُ؟ وإِنني قاصدُها، لأَن أَموال المهاجرين كانت دومًا، ولو من بعيدٍ، داعمًا أَساسيًّا دورةَ الحياة المحلية اليومية اقتصاديًّا وماليًّا، فكيف والدعمُ حضوريٌّ هذا الصيف، وبالكثافة المتوقَّعة!

هذا لأَقول إِن لبنان، منحسرةٌ عنه طبقةٌ سياسيةٌ فاجرة عاهرة، قادرٌ على النهوض، ولو انطلاقًا، بأَيدي أَبنائه وهمَّتِهم وإِخلاصهم ودَعمهم، ووقْف هذا الصيت السياسي البَشِع بأَنه بلدٌ شحَّادٌ على أَرصفة الدُوَل، باكيًا بَكَّاءًا متباكيًا منتظرًا دعم البنك الدُوَلي وصندوق النقْد الدُوَلي وإِعاشات الدُوَل ومساعدات الحكومات وفُتات ما يسخو علينا به حاكمٌ أَو نظام، حتى بات لبنان – ويا لجُرم السياسيين – بين أَفقر خمس دُوَلٍ في العالم مهدَّدةٍ بالجوع تنتظر الإِعانة والإِعاشة وفتافيتَ ما تتصدَّق عليه الشعوب.

هل هذا لبنان؟؟ هل هكذا لبنان؟؟ لا. أَبدًا. هوذا سينهض هذا الصيف، ولو جُزئيًا، على أَكتاف أَبنائه الرائعين، يتقاطرون إِليه من أَقاصي الدنيا مُثْبتين أَنَّ الإِنسان اللبناني فريدٌ مفْرَدٌ متفرِّدٌ، ناجحٌ في كل العالم، وقادرٌ أَن يُنَجِّح وطنَه بقْدرة جبَّارة.

الإِنسان اللبناني، نعم، قادرٌ على استنباط الحلول لأَن عبقريتَه هي بنتُ لبنانَ العبقري، ولأَنه ساطع ناجح في جميع بقاع الدنيا، ولأَنَّ أَحدًا لم يَــرَ لبنانيًّا شحَّادًا في أَيٍّ من شوارع البلْدان، ولأَن الإِنسان اللبناني هو رأْسمالُ بلاده أَينما حَلّ، ولأَن الإِنسان اللبناني متمكِّنٌ من النهوض ببلاده حين سُلطتُها الحاكمة المتحكِّمة تتيحُ له أَن يُبدعَ ويَستنبطَ ويحِلَّ ويُنقذ، بعيدًا عن محاصصات “بيت بو سياسة” وقَرَفهم وتَوَزُّعِهم خيراتِ البلاد بينهم وبين نَسْلهم وأَزلامهم وغباء ببَّغاويــيـهم.

ها هم عائدون، ولو ومضَةَ صيف، عائدون بفرح اللقاء، عائدون بِنِيَّة الإِسهام في نهضة الوطن، عائدون إِلى كلِّ دسكرة وضيعة ومدينة في وطنهم الأَول الرائع، في أَرضهم الأُمِّ الحانية، عائدون إِلى مهرجانات بعلبك وبيت الدين وكل نقطة ضوءٍ ستُطْلِق زوغةَ فرحٍ في ليالي لبنانَ الساطعةِ البهاء، عائدون مدفوعين بــإِيمانهم أَنَّ لبنان قابلٌ جدًّا للحياة بعد مَوَاتٍ سبَّبه له السياسيون، قابلٌ للنهوض من جهنَّمه إِلى فردوسِ ما كانَهُ قَبْلًا قِبلةَ الشرق وقُبْلة الجمال، عائدون إِلى جباله السُمْر الفيَّاضة الخير، وإِلى بحره الفيروزيّ الأَلق على شواطئه المذَهِّبة بسنابل السعادة، عائدون إِلى قراه الـمُتَعَنْقِدَة في دوالي الجبال وحنايا الوديان، عائدون إِلى أَرض العنفوان والكرامة تَزرعُ شهداء وتَحصد أَبطالًا فيتكوكبُ الجنى وتتكاثرُ أَكوامُ الحصاد على بيادر البركة.

كبيرٌ إِيمانُنا بالإِنسان اللبناني الناجح في العالم، القادرِ على إِنهاض أَرضه وشعبه بعبقريةٍ لبنانية فريدة تستنبط الحلول وتُعْلي البنيان اللبناني إِداريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وماليًّا واجتماعيًّا، شرط أَن تَختفي الثعالبُ من الكروم، وتنقرضَ الذئاب من الساحات، وينتهي زمنُ الأُفعوانيات السامَّة في شرايين الوطن.

عائدون بلى، همُ الذين عمَّروا نهضةً في بلدان الآخرين، مستعدُّون أَن يأْتوا كي يُعَمِّروا بلادَهم بِـهِمَّة الرجال الرجال، كما يليقُ بهم ما اختصَرَه عاصي ومنصور الرحباني بصَدْحة الخالدة فيروز: “مِن تحت هالأَرزِه لآخِر هالدني… نَهر الرجال يْسافر ويسْقي الدني… إِيدين وينْما كانْ عَمْتِشْقَع الحيطانْ… وتكتُب إِسم لبنان بكلّ أَرض مْلَوَّنِه… من تحت هالأَرزِه لآخِر هالدني”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى