مصر: نسخةُ السيسي للإسلام
الدَّعوَةُ التي أطلقها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للتجديد الديني تَندرِجُ في إطار محاولة النظام تثبيت مركزية السلطة في يده، من خلال فرضِ نسخةٍ هَرَمِيّةٍ للإسلام مدعومة من الدولة، ومُتجذّرة في القِيَمِ الاجتماعية المُحافِظة.
ماجد مندور*
في مقابلةٍ تلفزيونية في 23 آب (أغسطس)، دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى “إعادة صياغة فهم المُعتَقَد”، مُعتَبرًا أن المنظومة الإيمانية الحالية موروثة من دون فهمٍ صحيحٍ ولا تفكيرٍ نقدي. يندرج هذا الكلام في إطار عددٍ من التصريحات التي صدرت عن السيسي منذ ارتقائه إلى سدّة الرئاسة، والتي يدعو فيها إلى تجديد الخطاب الديني من أجل التصدّي للتطرّف والتعصّب المذهبي. فعلى سبيل المثال، اعتبر السيسي، خلال المؤتمر الوطني للشباب في أيلول (سبتمبر) 2019، أن تفسيرَ بعضِ النصوص الدينية رجعيٌّ ولم يتطوّر على مرّ 800 عام، ما يُفضي إلى ترويجِ التطرّف والعنف الديني. في الظاهر، يُمكن تفسير الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني بأنها محاولة يبذلها النظام بهدف التصدّي للمُتطرّفين الدينيين العُنفيين، والحدّ من جاذبية الإسلام السياسي، وبالتالي إضعاف جماعة “الإخوان المسلمين”. ولكن حتى لو كانت جُزءًا من الأهداف التي يسعى إليها النظام، فإن الدوافع الأساسية التي يضمرها تذهب أبعد من ذلك. فالنظام يرمي تحديدًا إلى فرض نسخته الخاصة عن الإسلام، وهي نسخةٌ خاضعةٌ لسيطرةِ الدولة ومُتجذّرة في القِيَمِ الاجتماعية المُحافظة باعتبارها أداةً للسيطرة الاجتماعية. تستند هذه السياسة إلى قمع المؤسسات والمُفكّرين الدينيين المستقلّين أو تطويعهم، حتى لو كانوا يتشاركون رؤية النظام عن التجديد الديني. يندرج ذلك في إطار سعي النظام المستمر إلى فرضِ مركزية السلطة السياسية والاجتماعية وتثبيت قبضته عليها، ما يحول دون ظهور مراكز تتنافس معه على السلطة الاجتماعية.
العائق الأساس أمام سياسة التأميم الديني التي ينتهجها النظام هو مؤسسة الأزهر وشيخها أحمد الطيب. فقد بدأت الاحتكاكات بين الطيّب والنظام في مرحلة مبكرة، حين كان الشيخ من الشخصيات البارزة القليلة التي انتقدت فضّ اعتصامَي “رابعة العدوية” و”النهضة” من خلال اللجوء إلى العنف في العام 2013. وتبِع ذلك خلافٌ علنيٌّ بين السيسي والأزهر، حين دعا الرئيس المصري في شباط (فبراير) 2017 إلى إصدارِ تشريعٍ لتنظيم الطلاق الشفوي الذي تُجيزه الشريعة، والحدّ منه. وفي تحدٍّ علني نادر، أصدر الأزهر بياناً ردّ فيه طلب الرئيس مؤكّدًا شرعية الطلاق الشفوي. وشدّد الأزهر، في رفضٍ غير مباشر لدعوات السيسي المستمرة للتجديد الديني، على وجوب ألّا يتعارض التجديد مع الإرث الديني القائم. وقد دفع هذا التحدّي العلني بالنظام إلى محاولةِ الحدِّ من استقلالية الأزهر وإنشاء مؤسسات دينية أكثر مطواعية، وقد أُطلِقت المحاولة الأكثر جدية في هذا الصدد في تموز (يوليو) 2020 مع اقتراح قانون يُنظّم دار الإفتاء، أي المؤسسة الدينية المسؤولة عن إصدار التفسيرات والآراء الدينية. فقد حاول القانون تحويل دار الإفتاء إلى مؤسسة دينية منافِسة للأزهر، لا سيما من خلال وضعها تحت وصاية مجلس الوزراء ومنح رئيس الجمهورية صلاحية تعيين المفتي، بدلًا من الإجراء المعمول به راهناً والذي ينصّ على قيام هيئة كبار العلماء بانتخاب المفتي. وقد سُحِبَ القانون في ضوء المعارضة الشديدة التي أبداها الطيّب ومجلس الدولة، والتي انطلقت من القول بأن القانون يتعارض مع المادة السابعة من الدستور التي تضمن استقلالية الأزهر. وردًّا على سقوط القانون، أصدر السيسي المرسوم الرئاسي 338 في آب (أغسطس) 2021، والذي نصّ على اعتبار دار الإفتاء “ذات طبيعة خاصة”، استنادًا إلى التعريف الوارد في المادة 21 من قانون الخدمة المدنية. وقد أتاح هذا المرسوم للسيسي تمديد ولاية المفتي الحالي سنةً إضافية، رُغمَ بلوغه سنّ التقاعد، ويسمح له أيضًا بتجاوز الأزهر وتعيين خلفٍ للمفتي.
يقترن تطويع الأزهر مع قمع المُفكّرين الدينيين الذين يتشاركون، للمفارقة، هدف النظام المُعلَن بالتجديد الديني، ما يُسلّط الضوء على رغبة النظام في السيطرة وإملاء الخطاب الديني. المثل الأبرز في هذا الصدد هو اعتقال المُفكّر القرآني رضا عبد الرحمن بتهمة الإرهاب في آب (أغسطس) 2020. الفكر القرآني هو فرعٌ من فروع الفكر الديني الذي يعتبر أن القرآن لا الحديث يجب أن يكون المصدر الوحيد للشريعة الدينية. لا يزال عبد الرحمن في الحجز بانتظار مثوله أمام المحكمة. ومن الأمثلة الأخرى حبس المُفكّر الديني البارز إسلام البحيري في تموز (يوليو) 2016 لمدّة عام واحد بتهمة ازدراء الدين. وكان البحيري الذي يُقدّم برنامجًا تلفزيونيًا يحظى بنسبة مشاهدة عالية ويزعم أنه مفكّر ذو اتجاه تحديثي، قد اعترض على التفسيرات الدينية التقليدية واقترح تفسيرات جديدة للنصوص القرآنية والحديث. إذًا، يتبيّن مرة أخرى أن الهدف الحقيقي للنظام ليس التجديد الديني بل السيطرة على الخطاب الديني، بحسب ما يُظهره تعامله القمعي مع مَن يلتقون معه في الترويج للعقائد نفسها لكنهم لا يخضعون مباشرة لسيطرته وليسوا تابعين له.
وشنّ النظام أيضًا حملة قمع أوسع نطاقًا تحت ذريعة حماية “قِيَم الأسرة التقليدية”، واستخدم الاتهامات بـ”ازدراء الدين” في محاولة منه لترويج مبادئ سلطوية ومحافظة جدًا. وهذا بدوره يضمن الامتثال الاجتماعي والإذعان للدولة باعتبارها حامية هذه القِيَم. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) 2020 مثلًا، اعتُقِلَ فنان يؤدّي عروض “ستاند آب كوميدي” ووُجِّهت إليه تهمة “ازدراء الدين الإسلامي وتهديد قِيَم الأسرة المصرية” بعد سخريته من إذاعة القرآن الكريم المملوكة من الدولة وغير التابعة لأي مؤسسة دينية. وتبعه اعتقال مُدرِّس في الإسماعيلية وُجِّهت إليه أيضًا تهمة “ازدراء الدين” بعد اتهامه بالإساءة إلى النبي عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وتمتدّ محاولة فرض هذه القيم الشديدة المُحافَظَة لتشمل أيضًا الضوابط التي تُقيّد النساء، بحسب ما أظهرته قضية حنين حسام ومودة الأدهم المعروفتَين أيضًا بـ”فتاتَي التيك توك”، واللتين حُكِمَ عليهما بالسجن ست سنوات وعشر سنين، على التوالي، في حزيران (يونيو) 2021 بتهمة “الاتجار بالبشر”. وكانت محكمة في القاهرة حكمت عليهما في تموز (يوليو) 2020 بالحبس عامَين بتهمة “التعدّي على القيم والمبادئ الأُسَرية والإخلال بالآداب العامة”، على خلفية بثّهما مقاطع فيديو عبر موقع “تيك توك” تَظهران فيها وهما ترقصان وتطلبان من النساء الانضمام إليهن مقابل بَدَلٍ مادّي. وهذه الأحداث سبقتها أيضًا حملة لفرض هذه القِيَم المُحافظة في المساحة العامة من خلال توقيف الأشخاص الذين ضُبِطوا وهم يتناولون الطعام أو الشراب في العلن خلال شهر رمضان، علمًا بأنها ليست جريمة جنائية بل “إخلال بالآداب العامة”.
إذن، باشر النظام تطبيق سياسة متماسكة وواضحة لتأميم الخطاب الديني في محاولة لفرض سيطرته عليه واستخدامه بمثابة أداة محافظة لتثبيت الاستقرار الاجتماعي. ولا يقتصر ذلك على قمع المعارضين وحتى الحلفاء وتطويعهم، بل يتّسم أيضًا ببذل محاولات واضحة لمنح النظام هالة دينية من الشرعية، وإظهاره في صورة الحامي لهذه القيم. على سبيل المثال، في 22 آذار (مارس) 2020، خلال جائحة كوفيد-19، استُتبِعت الدعوة إلى الصلاة بدعاءٍ بصوت السيسي من أجل حفظ مصر من السوء. وقد بُثّ الدعاء على مدار اليوم عبر وسائل الإعلام الخاصة والحكومية. وبهذا المعنى، مُخطِئٌ مَن يقول إن السيسي هو مصلح ديني، فهدفه الأوحد يتمثّل في فرض سيطرته على الخطاب والفكر والمؤسسات الدينية بطريقة تُتيحُ له التأثير في الفكر الديني في السنوات المقبلة، وهو لا يسعى إلى أن يكون شخصية إصلاحية حقيقية. لا يستند هذا الفكر الديني إلى حرّية المعتقد، بل إنه فكرٌ مُحافظٌ وأبويٌّ وقمعيٌّ جدًا، والأهم من ذلك، شديد السلطوية. وهذا يمنح النظام مستوى غير مسبوق من السيطرة والسلطة الاجتماعيتَين، ويُشكّل في نهاية المطاف عائقًا أمام قضية التجديد الديني الفعلي في السنوات المقبلة.
- ماجد مندور مُحلّل سياسي وكاتب عمود “سجلات الثورة العربية” لدى موقع “أوبِن ديموكراسي” في بريطانيا. يمكن متابعته عبر تويتر على: @MagedMandour
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.