تركيا بين الغرب والشرق: الثابت والمتحوّل!

محمد قواص*

لم يتسرّب الكثير عن المحادثات التي أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في منتجع سوتشي في روسيا في 29 أيلول (سبتمبر). أظهر الزعيمان أمام كاميرات الصحافيين ارتياحاً من دون أن يُخفّفَ الأمرُ من غموض ما خرج عن اللقاء الذي لم يتبعه بيان مشترك أو مؤتمر صحافي.
عُقِدَت القمة التركية-الروسية على خلفية توترٍ ديبلوماسي واستعراضِ عضلاتٍ مُتبادَل في الساحة السورية. قصفت مقاتلات روسية أهدافاً في مناطق النفوذ التركي شمال سوريا (ريف عفرين). بالمقابل دفعت أنقرة بتعزيزاتٍ لافتة لقوّاتها في المنطقة، فيما تعرّضت مروحية روسية لصاروخ مضاد للطائرات أثناء تحليقها في أجواء قرية الدردارة شمالي تل تمر بريف الحسكة، وأسقطت الدفاعات الروسية طائرة مُسيّرة “مجهولة الهوية” حلّقت في أجواء القاعدة العسكرية الروسية في حميميم.
وفيما فُهم من ذلك التصعيد المتبادل تسخين لعدّة الشغل تحضيراً لاجتماع الرئيسين، إلّا أن الحدث أظهر أيضاً حاجة البلدين إلى الإهتداء إلى نقطةِ توازنٍ مفيدة لمصالحهما في مقاربة المعضلة السورية. تخشى أنقرة من أيّ هجوم كاسح تشنّه قوات دمشق والميليشيات التابعة لإيران بتغطية جوية روسية ضد منطقة خفض التصعيد في إدلب. الأمر ينال من نفوذ أنقرة في شمال سوريا، وسيؤدي إلى موجات لجوء مليونية صوب الأراضي التركية. ومن شأن ذلك مُفاقمة الضغوط الداخلية على أردوغان حول حربٍ تفقد الدعم السياسي والشعبي في تركيا وبات رفضها سلاحاً تشهره المعارضة في تركيا.
تسعى موسكو من جهتها إلى إدارة إيقاع العمليات العسكرية في تلك المنطقة على نحو يجرّ مياه باتجاه خياراتها في دعم نظام بشار الأسد الذي التقاه بوتين في موسكو في 13 أيلول (سبتمبر). لكن روسيا في الوقت عينه غير مَعنية بالاصطدام مع الأمر الواقع العسكري التركي، خصوصاً في ظلّ ضبابية الموقف الأميركي والمجموعة الغربية من مستقبل الاعتراف بالترتيبات الروسية العسكرية والسياسية لسوريا. كما أن موسكو حريصة على عدم خسارة ما كسبته على المستوى الاستراتيجي من خطوات استمالت بها تركيا نحو الاقتراب من روسيا والابتعاد عن الولايات المتحدة والمنظومة الغربية الحليفة.
وعلى الرغم من تقصّد بوتين وأردوغان الابقاء على ظلال الغموض في طبيعة علاقة البلدين هذه الأيام، فإن الأمر يعكس غياب مستويات الحسم النهائي لدى الطرفين لجهة المضي قدماً في تحالفهما ونقله من حيزه الظرفي التكتيكي إلى المستوى الاستراتيجي. والواضح حتى الآن، وعلى الرغم من ذهاب الرئيس التركي بعيداً في شراء منظومة صواريخ ” S-400″ الروسية وبحث شراء منظومة أخرى، فإن موسكو ما زالت غير واثقة من خيارات أردوغان، وبعض منابرها ما زال يرى في سلوك أردوغان الروسي ابتزاز للولايات المتحدة وتدلل على واشنطن.
والحال أن أنقرة وموسكو لم تقرأ بشكلٍ جلي موقف الرئيس الأميركي جو بايدن من نظيره التركي. ولئن يتسرّب من موقف بايدن تصفية حساب وعد بها منذ حملته الانتخابية، ومع ذلك فإن استمرار تراكم ملفات التوتر الأميركي التركي لم يقنع الكرملين بأن واشنطن تُدير الظهر لتركيا الحليف الأطلسي التاريخي، ولا يجد أن أردوغان قادر -حتى انتقاماً من الولايات المتحدة- على الالتحاق نهائيا بقطار الشرق.
سعى أردوغان من على منبر الأمم المتحدة في جمعيتها العامة الأخيرة إلى إطلاق مواقف يفترض أن من شأنها تأكيد انتماء تركيا إلى الحلف الأطلسي والتزامها بخياراته حيال روسيا. من نيويورك كرّر الرئيس التركي في 21 أيلول (سبتمبر) موقف بلاده الرافض للاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم وعدم الاعتراف بأيّ تحوّلات سياسية تجريها موسكو في تلك المنطقة (واحد من كتّاب روسيا قال إن أردوغان سيُعلن يوماً أن القرم تركية). تَواكَبَ هذا الموقف مع الاستمرار في إعلان الدعم لأوكرانيا كما إعلان الاتفاق بين الدولتين على إبرام صفقة تشتري من خلالها كييف طائرات مُسيّرة (بيرقدار) تخرج من مصانع تركيا.
رُغمَ ذلك تجاهل بايدن أردوغان في نيويورك ولم يعقد أي لقاء بينهما. صحيح أن بايدن لم يلتقِ كثيراً من الزعماء ممن حضروا أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام، غير أن واشنطن تعرف أن لـ”الاستعلاء” على أردوغان أثماناً ومعان في العلاقات بين الدولتين. كان الرئيس التركي يحتاج موضوعيا إلى اجتماع -ولو شكليّ- مع الرئيس الأميركي يتسلّح بمفاعيله قبل أيام على قمة ستجمعه مع الرئيس الروسي. كان بايدن يعرف ذلك ولم يفعل.
تستمر إدارة بايدن في انتقاد اقتناء تركيا لمنظومة صاروخية روسية يفترض أنها معادية ولا يجوز أن تتعايش داخل بلد عضو في الحلف الأطلسي. فوق ذلك تستمر هذه الإدارة، وبمناسبة زيارة قام بها وفد الإدارة الذاتية في شمال غرب سوريا بقيادة إلهام أحمد، في تأكيد استمرار الحضور العسكري الأميركي في سوريا ودعم واشنطن للأكراد هناك. وإذا ما أضفنا مجموعة أخرى من الملفات غير الودودة التي تطلقها واشنطن في وجه أنقرة، فإن أردوغان يستنتج جهاراً أن بايدن هو أسوأ رؤساء أميركا الذين تعامل معهم.
يظهر أردوغان وكأنه ينتقل إلى ضفة أخرى بعيداً من واشنطن. يُبلغشبكة “سي أن أن” (CNN) الأميركية في 26 أيلول (سبتمبر): “أود أن يغادروا (القوات الأميركية) سوريا والعراق بلطريقة نفسها التي غادروا بها أفغانستان”. يقترب الرجل من بوتين في الدعوة إلى هذا الانسحاب وإقامة منظومات إقليمية لإدارة المنطقة من قبل بلدانها. غير أنه يسهل ملاحظة أن التحوّل الانفعالي في مواقف أردوغان لم تُقنع نظيره الروسي حتى الآن.
لا يريد أردوغان ان يتخلّى عن انتماء بلاده التاريخي داخل المنظومة الغربية. ينطلق الرئيس التركي من مسلّمة استراتيجية كانت من ثوابت الحرب الباردة تعتبر أن تركيا حجر أساس لا استغناء عنه داخل الحلف الأطلسي. ووفق ذلك الثابت خاض الرجل حملاته القاسية ضد الاتحاد الأوروبي وداخل النطاق الاستراتيجي للبحر المتوسط، وشنّ هجماته ضد الولايات المتحدة. وإذا ما رأى أردوغان أن التصعيد ضد الغرب حقٌّ مُكتسب، فإن تعامله مع الصين وروسيا لم يحظَ بهذه “الأريحية”. فعلى الرغم من مستويات التوتر التي شهدتها علاقات أنقرة وموسكو، فإن لغة أردوغان حيال روسيا ورئيسها بقيت منضبطة، فيما تحاشى الرئيس التركي في موضوع أقلية الإيغور (التي تعود أصولهم عرقياً إلى الشعوب التركية) في الصين إطلاق أي موقف أو لهجة من شأنها إغضاب بكين.
إندثرت الحرب الباردة التي يستند أردوغان على ثوابتها في التعامل مع الغرب. بالمقابل يكتشف أن أبواب البدائل مشروطة ضبابية الأفق يحتاج ولوجها إلى مغادرة اليقين والمخاطرة في ركوب المتحوّل المجهول. في واشنطن مَن يقول أن حجب “الباتريوت” ومقاتلات ” F35″ لا يستهدف تركيا الأطلسية بل تركيا أردوغان. وفي أنقرة مَن يرى أن أزمة البلدين تكمن في بايدن رئيس الولايات المتحدة. على هذا فإن خيار أنقرة لن يكون بين غرب وشرق، بل بين ساكن “سيّئ” وساكن تتمناه أفضل في البيت الأبيض. وقد يساهم لقاء بايدن-أردوغان على هامش قمة مجموعة العشرين في روما آخر هذا الشهر في تدوير الزوايا، وربما لا يريد أردوغان أكثر من ذلك.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: (@mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى