هل قُضِيَ الأمرُ في تونس؟

عبد اللطيف الفراتي*

كنّا مجموعة من الأصدقاء نجتمع مرّة كل أسبوع في مكتبي في البيت، حيث نُطلقُ العنان للنقاش حول شؤون تونس السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وآخرها كان حول ما إذا كان ما زال هناك شكٌ في أن ما حصل من إلغاء دستور 2014 قد انتهى أمره، أم هل إن الذين ما زالوا يأملون في عودة ما يُسمّونه بنهاية الانقلاب أخذت  تلوح ملامحها، وستكون لهم الغلبة.

وكالعادة تناقشنا طويلاً، فيما كنتُ على غير عادتي صامتاً، أنتظر تبلور الأمر في ذهني لأدلو بدلوي.

فعلاً استداروا نحوي سائلين عن رأيي في الأمر.

فكرتُ مَليّاً قبل أن أقول: إن ما حدث مساء 25 تموز (يوليو) ينبغي أن يُوضَعَ في إطاره، وللأسف فلا أحد في البلاد تفطّن لأمرٍ مُعَيَّن، هو أن كلمة رئيس الدولة ألقاها على الشعب مُحاطاً بالقيادات العسكرية والأمنية العالية المقام، أي مصحوبة بمظاهر القوّة.

فَعَلَ ذلك سابقاً الرئيس الحبيب بورقيبة عندما أعلن قيام الجمهورية في 25 تموز (يوليو) 1957، واجتماع المجلس القومي التأسيسي لم يكن سوى إخراجٍ ذكي، حيث ضمّ  قوة جهاز الدولة خصوصاً العسكري، لا سيما أنه كان وزيراً للدفاع فضلاً عن رئاسة الحكومة، إضافةً إلى وضعه للرجل الذي يثق به الطيب المهيري في وزارة الداخلية. وقد فعل ذلك زين العابدين بن علي ليلة 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1987 من وزارة الداخلية وبعد تحييد الجيش الذي كان أحد أبنائه، وكرّر ذلك محمد الغنوشي يوم 14 كانون الثاني (يناير) 2011 في ظلّ سلطة الأمن الرئاسي الذي كان تحت إمرة الرئيس، ولكن أعداداً منه جاؤوا من الجيش ويحملون الرتب العسكرية.

تم تحضير الخطاب الرئاسي لحلّ الحكومة وإقالة رئيسها هشام المشيشي، وتجميد مجلس النواب ورفع الحصانة عن أعضائه، ووضع مقرّه تحت حراسة الدبابات… بعد يوم اندلعت فيه أحداث جسام، استهدفت بالخصوص حزب “النهضة” ومقرّاته، بالتدمير والحرق ونهب وثائقه، التي لم تفض بأسرارها حتى اليوم.

ومن وجهة نظر العارفين بالثورات وحتى الانتفاضات، فإن خطاب الرئيس قيس سعيد كان قبل الأوان، فلو تُرِكَ الأمرُ للجماهير سواء كانت تلقائية أو بدعوة مُعَيَّنة ومُنظَّمة، لخرجت في الغد، ولازداد الدفع ” الثوري قوة”، ولكن يبدو أن رئيس الجمهورية سارع لاتخاذ قراراته من دون إعدادٍ لخطواته التالية..

قلتُ، واستنتاجي شخصي، أن كلّ ما حدث، كان مُخطّطاً لخطواته الأولى، وليس مصادفة أن تكون القيادات العليا للقوات الحاملة للسلاح موجودة في القصر، ورئيس الحكومة هو الآخر في القصر لتحييده حتى لا  تقوم سلطتان في البلاد فتتشتت، وبمحضر رئيس حكومة لا هو في العير ولا في النفير، وقابل للاستسلام بدون مقاومة، فلم يُعرَف عنه أنه رجل سياسة، ولا رجل نضال ومواقف.

إذن كان الرئيس مسنوداً من جهة، ومُتأكّداً من أنه مُسيطرٌ على كل شيء.

وإذ لا يبدو أنه تم الإعداد للخطوة فإنه كان ضرورياً أن يتلمّس طريقه بكل حذر، ويُبطئ ربما أكثر من اللزوم في اتخاذ الخطوات التالية.

واليوم وقد استتبّ له الأمر، وجسّ نبض الداخل والخارج، فإنه أقدم على إلغاء الدستور، وحرمان النواب من الحصانة ومن مرتباتهم، وهو اليوم لا يتوقّع ردّ فعلٍ خارجياً أو داخلياً. خارجياً باعتبار أن البلاد ستبقى في الصورة أي على الطريق ذاته إقليمياً ودولياً، وداخلياً بانقسام المعارضة التي لن يكون في حاجة إليها لأنه يتوقع للبلاد مساراً آخر يراه، ليس قائماً على الديموقراطية التمثيلية بل “الديموقراطية ” القاعدية التي زينها له بعض مستشاريه من الماركسيين المتطرفين.

ولعلّ الطبقة السياسية القائمة والتي تعتبر نفسها زبدة النخبة، لم تستوعب الدرس بعد، فالرئيس استعاض عن الشرعية الدستورية بمشروعية شعبية مرتكزاتها ما أفرزته عمليات سبر الآراء بمستوى بين 80 و90 في المئة من المؤيدين، الذين لا يعرفون إلى أين يقودهم رئيس الدولة، ويكتفون بعنصرٍ واحدٍ أنه خلصهم من طبقة سياسية “موبوءة” و”فاسدة”، ومن حركة “النهضة” التي سئموا بسرعة من سياساتها  (10 سنين)، حيث قادت البلاد (للواقع ليس بمفردها)  من انحدارٍ سريعٍ نحو الهاوية.

  • عبد اللطيف الفراتي هو كاتب وصحافي تونسي. كان سابقاً رئيس تحرير صحيفة “الصباح” التونسية. يُمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى