حكومة ميقاتي: طَرقٌ على بابِ الخليج!

محمّد قوّاص*

تُعوِّلُ فرنسا بشكلٍ عاجلٍ على نجاحِ مُبادرتها في لبنان. تعرّضت جهود الرئيس إيمانويل ماكرون في هذا الصدد إلى عثراتٍ لم يكن يتوقّعها، وهو الذي تطلّع إلى ردود فعل فائقة الإيجابية على تحرّكه السريع صوب بيروت بعد ساعاتٍ على كارثة مرفئها. دقّ نافذة فيروز علّه يُحدِثُ في وجدان البلد صدمةً ولم يفلح. كاد الرجل يُسقط لبنان من حساباته ولم يفعل، لا بل إن تشكّل حكومة نجيب ميقاتي يُعتبَرُ انتصاراً لديبلوماسيته الدؤوبة.
جاءت الحكومة نتاجَ توافقٍ ظرفيٍّ بين باريس وطهران جرى قطافه في مكالمة هاتفية بين ماكرون والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. تودّ فرنسا تعزيز نفوذها في المنطقة من خلال تسهيل دورها في لبنان. وتروم إيران الاستناد هذه الأيام على شريكٍ غربي في حمى أزمتها مع الولايات المتحدة. وفق تلك الحسابات سقطت تماماً “المبادرة الفرنسية” بنسختها الأصلية، واكتفت باريس بنسخةٍ بالية جرى تحديثها محلياً خاضعة للشروط التي سبق للأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصرالله، فرضها برفضِ قيامِ حكومةٍ مُستقلّة عن الطبقة السياسية.
وضع اجتماع ماكرون ورئيس الحكومة اللبناني نجيب ميقاتي في قصر الاليزيه في باريس، الجمعة، بعض النقاط على بعض الحروف. رئيس الحكومة اللبنانية متواضع في أهدافه، والرئيس الفرنسي مُدرِكٌ لمحدودية هامش أيّ نجاح ولو نسبي مُمكن أن تُحقّقه حكومة تمّ تلفيقها على عجل.
لا تحظى الشراكة الفرنسية-الإيرانية بسمعة المتانة والصمود والنجاعة. ثم أن موقف الولايات المتحدة متحرّكٌ مُتحوِّلٌ تجريبي الهوى، على منوال ما أفرج عنه، فجأة، قرار واشنطن تعليق قانون قيصر في الشقّ الذي يُوفّر للبنان كهرباء وغاز من مصادر مصرية وأردنية عبر سوريا.
تسعى باريس هذه الأيام إلى ترميم ما تصدّع في نفوذها الدولي بعد صفعة تحالف “أوكوس” الثلاثي بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأوستراليا. تتساءل ال”نيويورك تايمز” عمّا إذا كانت فرنسا ما زالت قوة عظمى. أزاحها الحدث -إضافة إلى إلغاء “صفقة القرن” المتعلقة بالغواصات مع أوستراليا- عن دورٍ ووظيفةٍ ووجودِ سلاحٍ استراتيجي لفرنسا في منطقة المُحيطَين الهادئ والهندي. فحين يتقدّم السلاح الأميركي في تلك المنطقة كما يتقدّم ليُغري سويسرا في أوروبا، فإن سمعة فرنسا تتأثّر دولياً، وطبعاً عربياً، على نحو قد لا يقنع العرب بآليات الحلّ الفرنسي في لبنان.
ما صدر عن المملكة العربية السعودية بشأن تشكيل حكومة جديدة في لبنان لم يُفصِح عن أيِّ تغيير في السياسة المُعتمَدة حيال لبنان أيّاً كانت هوية الحكومة ورئيسها. بالمقابل لم يصدر عن المجموعتين الخليجية والعربية ما بالإمكان أن يُشكّل تحوّلاً إيجابياً راديكالياً يوفّر رافعة حقيقة لحكومة ميقاتي.
وفق ما أُعلن في باريس، فإن ميقاتي يتعهّد بإجراء حكومته الإصلاحات الضرورية، ووفق أولويات باتت معروفة، يمكن أن يقبل بها المجتمع الدولي وخصوصاً الدول المانحة. ورُغمَ عدم وثوق اللبنانيين في قدرة الفريق الوزاري التابع للطبقة السياسية نفسها على تقديم وجبة إصلاحية ذات مصداقية أمام المؤسسات المالية الدولية، فإن بيروت وباريس تُدركان أن غياب العرب عن جهود الحل سيؤدي إلى فشل الحكومة كما فشلت فرنسا في تثبيت نفوذها في هذا البلد.
لا يمتلك الرئيس الفرنسي من الأدوات والرشاقة والقوّة ما بإمكانه التسويق في الخليج لا سيما لدى السعودية لحكومة أعطت طهران الضوء الأخضر لتشكيلها. ولا منطق يدفع بأن تقوم دول الخليج بتمويل تسوية لبنانية جرت صناعتها لتُناسب توقيتاً فرنسياً-إيرانياً مُشتَركاً.
يتصادف الحدث مع رمادية في موقف واشنطن لا سيما لجهّة الإعراب داخل أروقة القرار في واشنطن عن أن لبنان ليس أولوية داخل الأجندة الأميركية في الشرق الأوسط، وأن “وكالة” سياسة مؤقتة أُعطِيَت لفرنسا لإدارة هذا الملف، وأي استمرار في توتّر علاقة باريس وواشنطن على خلفية “صفعة” صفقة أوستراليا قد يُوقف تلك الوكالة أو يُعرقلها.
والواضح أن تمسّك واشنطن بدعم الجيش واستقبال قائده قريباً، وتسهيلها إبرام صفقة الغاز والكهرباء ذات التركيبة المُتعدّدة المصرية-الأردنية-السورية، تهدف إلى منع سقوط البلد، ولا تهدف بالضرورة إلى دعمه وفق قواعد الحكم الراهنة ومسلّمة هيمنة “حزب الله” على قراره.
على قاعدة هذا المشهد الدولي المُترنّح لا شيء يُوحي بأن ضغوطاً دولية بإمكانها دفع الرياض وحلفائها إلى العودة للعب دورٍ أساسي لصالحِ بلدٍ ما زال قراره في طهران. وإذا ما كانت وظيفة هذه الحكومة هي “إدارة الفراغ” بانتظار إجراء انتخابات تشريعية جديدة ونضوج مآلات مفاوضات فيينا مع إيران، فإن للطرف العربي مُبرّراً موضوعياً لتأمل وانتظار أداء الحكومة ومسار الانتخابات المقبلة للبناء عليهما.
وفيما صدر عن طهران والرياض خلال الأيام الأخيرة حرصٌ مُتبادَل على حسن الجوار وتوفير الظروف لإنجاح الحوار الذي ترعاه بغداد بينهما، فإن الواضح أن إيقاع نتائج ما تم التداول به خلال الجولات التي جمعت الطرفين، بطيئة لا تشي بأيِّ تقدّم بأي ملف من ملفات الخلاف، وأوّلها ذلك المستعر في اليمن.
على ذلك لن تنضج ثمار حوار بين السعودية وإيران قبل أن تثمر الفلاحة في فيينا عن نتائج تُخفف أو ترفع من مستوى التوتر في إيران. وعلى ذلك فإن لا شيء إقليمياً أو دولياً سُيتيح لماكرون وميقاتي استدراج مزاجٍ في الرياض يختلف عمّا هو مُعتمَدٌ في السنوات الأخيرة كقاعدة للتعامل مع “الحالة” اللبنانية.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: (@mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى