ولادة جديدة لجبران “هذا الرجل من لبنان” ووثائق عنه جديدة
رؤوف قبيسي*
لا يملك الناظر في كتاب باربره يونغ “هذا الرجل من لبنان”، عن جبران خليل جبران، مُصاغاً بالعربية بجهود هنري زغيب، إلّا أن يرفع القبّعة لهذه الشاعرة الأميركية، ولهذا الشاعر اللبناني. وفي حين ان يونغ، نالت عن كتابها ما تستحِقّ من التقدير، بدءاً من العام 1945 الذي شهد الطبعة الأولى من كتابها في الولايات المتحدة، تقتضي الأمانة حالياً الثناء على هنري زغيب، وعلى “مركز التراث اللبناني” في “الجامعة اللبنانية الأميركية”، الذي رعى إصدار صدارالكتاب بحلّته العربية الأنيقة. غالباً ما يحتاج القارئ العربي، وهو يطالع كتاباً ضعيف التعريب، أن يعودَ إلى اللغة الأصلية التي كتب فيها، لفهم مرامي الكاتب ومعانيه حق الفهم، لكن في حال كتاب برباره يونغ هذا، لا يحتاج هذا القارئ إلى أدنى جهد لفَهمِ نصٍّ بهيٍّ مُشرِق، أنفق عليه صاحبه الكثير من الجهد والتعب. ليس ذلك بمستغرب على اي حال، فلغةُ الكتاب نثرٌ مُكَحَّل بنفحةٍ شعرية، والصياغة العربية جاءت قريبة من ذلك، ما يعفي قُرّاء العربية، من اقتناء الكتاب بلغته الأصلية، ويُعطي مَن ليس مُلمّاً بالإنكليزية منهم، فرصةً جديدة للدخول إلى عالم جبران الشاعر والفنّان والإنسان، فرصة ما كانت تتحقق، لو أن المُترجم نفسه لم يكن شاعراً، لأن المسالة ليست معرفة لغة وإن بلغت درجة عالية من الإتقان، بقدر ما هي مسألة فهم شاعر لفضاء شاعر آخر، ما يجعل الطبعة العربية من الكتاب عملاً فريداً من نوعه، ويجعلنا نقول من غير تردّد، إن هنري زغيب أصاب وأجاد، وأتحف المكتبة العربية بسفر نفيس مُفيد لقرّاء جبران ومُحبّيه عموماً، وللعاملين منهم في حقل الدراسات الجبرانية بنوعٍ خاص.
الكتاب ثلاثة أقسام من 600 صفحة، الأوّل في نحو 275 صفحة، هو نص يونغ عن جبران كما عرفته خلال سنواتٍ سبع، هي الأخيرة من حياته. صفحاتٌ كثيرة من هذا القسم الأول هي من صنع هنري زغيب نفسه، وتشتمل على عشرات الحواشي التي تشرح هوية الأشخاص والأماكن التي ذكرتها يونغ، وتركتها من غير تفسير أو إشارة، بحكم أن القراء الأميركيين يعرفونها ولا سبب يدعو لشرحها، لكنها بقيت مجهولة لدى الكثيرين من القرّاء العرب، فجاء هنري زغيب وفكّ رموزها إن صحّ التعبير، ولك ان تُدرِكَ أيّها القارئ الكريم كم من الجهد أنفق الشاعر في هذا السبيل. هذا لجهة النص واللغة والتعريب، يبقى المُثير والشائق في هذا الكتاب الأنيق شكلاً ومضموناً، ما تضمّنه القسم الثاني من رسائل ووثائق لبنانية وأميركية جديدة، عن وجوهٍ جدد من رجال ونساء، كانت لهم أدوار في حياة جبران، ولم نكن نعرف عنهم إلّا النزر اليسير، أو لا شيء على الإطلاق في كل ما كُتِبَ عن جبران في العربية حتى الآن، ما يُعزّزُ قول زغيب “إن جبران لم يمت وما زال يُولَدُ كل يوم”، وانسجاماً مع قول جبران نفسه: “سبعُ مرّاتٍ وُلِدتُ، وسبعُ مرّاتٍ مُتُّ، وها أنا الآن أعيش من جديد”، كما جاء في مؤلفه “يسوع ابن الإنسان”. أهمية هذه الوثائق أنها تُضيءُ جوانب مظلمة من حياة جبران، وما اكتنفها من خيالات وأحلام ومناجاة وظلال، ونزعات أرضية وروحية رسمتها له الأقدار، من يوم وُلِدَ في بلدة بشري شمالي لبنان، سنة 1883، إلى مهجره الأميركي الذي شهد آخر فصل من ملحمة حياته “الأرضية” في العاشر من نيسان (إبريل) 1931.
في حَضرةٍ إلهية
لا يُعتَبَرُ نصّ برباره يونغ عن جبران تأريخاً، هو نظراتٌ فردية في شخصِ جبران وصلت بالشاعرة إلى حدّ أن وضعته في مرتبة القديسين، مثل قولها إنها كانت تشعر معه أنها في “حَضرةٍ إلهية”، وقولها في مكان آخر “إن إسهامَ جبران الساطع في الأدب والفن العالميين يتوسّع حتى ليؤدي إلى شفاء الأمم”، وفي الصفحة 161 تقول “وُلِدَ جبران رسولاً من الله ليُعيد صياغة فهم البشر جوهر الحياة”. تذهب إلى أبعد من ذلك بالقول: “إن جميع التجارب والاختبارات التي عاشتها مع جبران جعلتها تُوقِنُ أن هذا الرجل من نسيجٍ إلهي”. لا تكتفي يونغ بخلع مسوح “القداسة” على جبران، كما لو أن ذلك رأيها وحدها ونظراتها وحدها فحسب، تسحبه أيضاً على المُغتربين اللبنانيين والسوريين في أميركا وتقول: “كان جبران مُختاراً من الله بنَظَرِ مواطنين شبّان من بني جنسه، وُلدوا في الغرب، لأهلٍ جاؤوا من أرضٍ أُمّ”.
يحارُ المرءُ في تفسير هذا الهيام الشديد الذي تُبديه هذه الشاعرة الأميركية نحو جبران، إلى حدِّ وضعه في مصاف القدّيسين والرُسُل. لا علينا مع ذلك أن نرتكب المعصية، ونُسَفّه كلامها عن جبران، ونقول إنه هذرٌ وأضغاثُ أحلامٍ وطلاسم من مجاز وكنايات واستعارات. إن كونها شاعرة، وإيمانها بالخلود وعودة الروح، وبأن الموت ولادة أخرى، وهما إيمان جبران نفسه، جعلها ترى جبران من الداخل، وبعينٍ مُغايرة لعيون العامة من الناس، وترسم صوراً رمزية عنه كواحد من “الأنبياء” الساعين للحق والخير والعدل والجمال. من ثمّ، أليس ابن الفارض هو من أكّد لنا هذه الرسالة قبل مئات السنين بقوله: “كلّ من جاء منّا بالحق قام بالرُسُلية”؟.
بعيداً من هذا النسيج الرمزي، تكشف لنا يونغ، عن جوانب أخرى من شخصية جبران وتقول: “خلف هذا الجبران، الذي يكتب ويُخاطب الكبار، يقف جبرانٌ آخر مُتحفّظ مُنطَوٍ على ذاته”، وفي موقع أخر تشير إلى ما كان لديه من روح النكتة والدعابة. تذكر حادثة طبخ فيها حساء، وجاء بقصعة كبيرة، نثر فيها فُتاتاً من الخبز اليابس المُحمّص، ثم أخذ ملعقة ورسم في القصعة خطّاً وَهمياً وقال لها بكل وقار: “هذا نصفك من الحساء، وهذا نصفي، فلنحتسِ بدون أن ينالَ أحدنا من حصة الآخر”. تقول أيضاً إنه كان أحياناً يتصرّف كطفلٍ يحلو له الرقص، “يضع يده حول خصره ويروح يدور في مكانه كراقصةٍ مُحتَرفةٍ تتغاوى على رؤوس أصابعها”.
الرحلة إلى لبنان
تُطلعنا يونغ عن رحلتها المُثيرة إلى لبنان في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1939، والحرب العالمية على الأبواب، وكيف وجدت بيروت مُعتمة “تضجّ بأفواجِ الجنود الفرنسيين والسنغاليين”. استقبلتها جموعٌ غفيرة، منهم رجال مرموقون كانوا أتراب جبران في المدرسة، جاؤوا يسألوها عن جبران وحياته في أميركا. تذهب إلى بيت جبران في بلدة بشرّي وتزور المتحف الذي يضمّ رسومه وأغراضه. تزور “مدرسة الحكمة “وتُقابل الأب يوحنا مارون الذي يرشدها إلى قاعة الدروس التي كان يجلس فيها جبران. تُشاهد المنبر الذي كان يجلس عليه الخوري يوسف الحداد “الوحيد الذي استفاد جبران من تعليمه” كما أخبرها. تُقابِلُ رجال عِلمٍ وأدب، منهم المؤرخ فؤاد أفرام البستاني، والأمير موريس شهاب، ورئيس الجامعة الأميركية بيارد دودج. تصف بشرّي بكلمات شعرية: “كانت جوهرة جمال بسيط وصدق فطري. كنت انوي العيش جُزءاً من السنة فيها والآخر في بيروت، لكن الحرب دهمتني”.
“وليم بليك القرن العشرين”
الحقّ أن هنري زغيب، رُغمَ افتنانه في نصِّ يونغ المعسول وحبّه جبران، لم يحل هذا بينه وبين أن يكون حيادياً وموضوعياً. ففي حين تقول يونغ إن الفنان الفرنسي رودان قال عن جبران “إنه وليم بليك القرن العشرين”، يُرجّح زغيب أن القول هو قول جبران، نسبه إلى رودان. في مكان آخر من الكتاب تقول يونغ أن جبران أخبرها أنه كانت لدى أمه في بشري مُربّية. يستكثر زغيب على أُمِّ جبران أن كانت لديها مربّية، بسبب ما كانت تعانيه العائلة من فقر وضنك، ويقول ان لا مرجع يذكر ذلك. يعتبر هذا كلّه، من “شطحات” جبران. ينفي أيضاَ ما ذكرته يونغ أن بعض المُتعصّبين أحرقوا روايته “الأجنحة المُتكسّرة” في ساحة بيروت العامة، أو أن تكون الدولة اللبنانية أصدرت قراراً بنفيه، وأن الكنيسة المارونية اصدرت قراراً بتحريمه، دليله عن ذلك “أن مأتمَ جبران في بيروت وبوسطن جرى بجميع الطقوس الجنائزية الكنسية”. يُخالف زغيب ايضاً قول يونغ، إن كاملة عبد السلام رحمة، أم جبران “كانت تُتقِنُ غير لغة”، ويقول إنها كانت أُمِّية، وان شقيقته مريانا كانت أيضاً أُمّية. يحلو لزغيب أن يُسمّي هذا كله “شطحات” جبرانية، أو “أسطرة”، ويقول إن جبران كان يُتِقِنُ هذه “الأسطرة” ليُظهِر شخصيته، مُدرِكاً أن يوماً سيأتي وتُؤلّف باربره يونغ، وماري هاسكل كُتُباً عنه، في سياق ما استحدثه من عبارة سمّاها “الهاجيوغرافيا”، أوعلم الكتابة التقديسية.
يصعب على من ينظر في سيرة جبران أن يُصدِّقَ “كلّ” ما جاء في كتاب يونغ، وأن يكون جبران ذلك المُغتَرّ. كذلك من الصعب التسليم بقول هنري زغيب أن جبران كان ينسج روايات عن نفسه لعِلمِه أن يونع وهاسكل ستضعان كتباً عنه في المستقبل. في رأينا أن جبران كان مُتصالحاً مع نفسه، وليس في حاجة إلى أن ينسج روايات مغلوطة عن طفولته ليرفع من قدر نفسه، ولا سبب يدعو إلى عدم تصديق يونغ أنه لم تكن لوالدة جبران مُربّية تُعينها على تربية أولادها الأربعة، علماُ أن المُربّية في جبال لبنان، في الزمن الذي عاش فيه جبران قد تكون ابنة الجيران، أو فتاة يتيمة تعمل في البيوت، مقابل قروش معدودة لتأكل وتشرب، لا كما نفهمه اليوم من كلمة مُربّية في مُدننا. من الصعب تصديق يونغ أن أم جبران كانت تُتقِنُ لغات عدة، لكن يصعب أيضاً، التسليم بأنها كانت أُمّية كما يقول زغيب. كانت كاملة رحمه ابنة رجل دين هو الخوري أسطفان رحمه، ولا بدّ أن رجل الدين هذا قد أرشد أبناءه في داره، قبل أن يُرشِدَ الرعية في القرية، وعلّمهم مبادئ القراءة والكتابة، لا ليغتنوا أو ليتسلموا المراكز، بل ليفهموا “الكتاب المقدس” في أقل تقدير!
نفهم من الكتاب أيضاً، أن جبران الذي عشق لبنانه وطلب أن يدُفَنَ فيه، وأن تُنقَل مُقتنياته من صور ورسوم إلى بلدته بشري، لم يلقَ من موطنه إلّا الجفاء. عارضته الكنيسة واتهمه بعض رجال الدين، أو بعض دجّالي الدين بالإلحاد. في جلسة مع أندرو غريب، مواطن من لبنان كان يُترجم بعض نصوص جبران العربية إلى الإنكليزية، يقول له جبران:” في لبنان ينشرون لي ولا أعرف. ينقلون مقالاتي وكتاباتي ولا يستأذنونني. يطبعون مؤلفاتي العربية ولا يُرسلون إليّ قرشاً واحداً، بينما أنشر هنا بالإنكليزية فيأتيني مردود من مقالاتي وقصائدي في الصحف والمجلات، ومن كُتبي لدى دار “كنوف”، ولولا بيعي بعض رسومي ولوحاتي، لكنتُ الآن في عَوز”. لقد عرّفنا هنري زغيب، نحن القرّاء اللبنانيين والعرب، بالكثير عن جبران، بقدر ما عرّفتنا يونغ وعرّفت قراءها من الأميركيين، لكن ما يؤسف له حقاً، أن لا أحد من الكتاب والصحافيين اللبنانيين، بدءاً من ثلاثينات القرن الماضي، إلى نهاية الستينات منه، مَن كَلّفَ نفسه وسافر إلى بوسطن للقاء مريانا شقيقة جبران (توفيت في العام 1972)، ليستطلع منها معلومات عن شقيقها جبران، ما كان يمكن نشره في سلسلة مقالات أو كتاب مستقل، أو إلى ولاية جورجيا ويلتقي ماري هاسكل، وهذه توفيت في العام 1964. من حسن الحظ أن ميخائيل نعيمة اجتمع إلى ماري هاسكل، في محطة قطار “غراند سنترال” في نيويورك في العام 1931 بعد عودتهما من مأتم جبران في بوسطن. دام اللقاء ساعات معدودة، أمَدّته هاسكل خلالها بمعلوماتٍ عن جبران، كانت كافية لتُساعده على وضع كتابه عن جبران. أربعون سنة من الإهمال ويا للأسف، وحكومات لبنان مشغولة بالسياسة والخلافات و”طقّ الحنك”. لا مسؤول لبنانياً كلّف نفسه الاهتمام بجبران وإرث جبران، ولا صاحب دار نشر لبنانية، أرسل مندوباً عنه إلى الولايات المتحدة لهذه المهمة. هذا مظهر آخر من مظاهر جفاء لبنان نحو جبران، يجعلنا فعلاً نُقّيم ما يقوم به هنري زغيب و”مركز التراث اللبناني” من أنشطة تحفظ تراث هذا الفنان العظيم من الضياع، وتُخّلده عبر الأزمنة.
جبران والنساء
أمرٌ آخر بقي سرّاً من حياة جبران لم يكشفه الكتاب، وهو ما إذا كانت لدى جبران علاقات جنسية مع النساء. لا تُشيرُ يونغ إلى أيِّ علاقة غرامية. لكن في الفصل الذي عنوانه “بأقلامهم” في القسم الثاني من الكتاب، مقال لفؤاد أفرام البستاني نُشِرَ في مجلة “المشرق” سنة 1939، يقول البستاني فيه إنه سأل يونغ، في أثناء زيارتها لبنان عن جبران والنساء، فأكّدت له أن جبران “كان في جميع علاقاته روحياً سامياً يترفّع عن الشهوات البشرية”، وأضافت:” لا أعرف له علاقة غرامية واحدة. لم يُطلعني قط، وهو أطلعني على الكثير من شؤونه، على أنه أحبّ حب شهوة في حياته”. مهما يكن، ليس في كل ما قرأناه عن جبران إشارة إلى علاقة جنسية بينه وبين امرأة، باستثناء ما يرويه نعيمة في كتابه عن جبران، من أنه تعرّفَ في مطلع صباه إلى سيدة اميركية أُعجِبَت برسومه، وكان يتردّد إلى بيتها، إلى أن جاء يومٌ ودّع معها عذريته، أو “عفّة الصبا وطهارته” على حد قول نعيمة. يقول نعيمة أيضاَ إن ميشلين، المُعلمة الفرنسية التي تعرّف إليها جبران في مدرسة ماري هاسكل، لحقته إلى باريس، فلا يُعقَل أن جبران الذي عرف نسوة كثيرات في حياته، لم تكن له علاقة جنسية مع إحداهن. في الكتاب ذكر لسيدة استفّزت جبران وسألته إن هو عشق امرأة في حياته، فأجابها بغضب” اسمعي ما قد لا تعرفين. أكثر الرجال رهفة جنسية هم المُبدعون. حياتهم الجنسية هبة عذبة رائعة يتمتّعون بها، إنما في جوٍّ من الألفة الحميمة”. عليه نتساءل، ألم يكن جبران ذلك المبدع؟! ألم يعرض على ماري هاسكل الزواج؟ لقد عرف جبران فتيات شاعرات مُرهَفات، أُعجِبنَ به، ولا نشكّ في أنه قد وجد مع إحداهن ذلك الجوّ الحميم الذي تألفه روحه. لا يُعقَل ألّا يكون جبران قد أُغرِمَ بامرأة، وكانت له معها علاقة جنسية. كيف لا وقد أتحفنا بتلك الفصول العذبة الحارة عن الحب، وهو القائل “حتى الروح المُجَنَّحة إلى أقصى الحدود، يصعب عليها أن تهرب من ضرورات الجسد”!
جبران والجنسية الأميركية
أمرٌ آخر لم يَجلِ الكتاب سرّه، هو موقف جبران من الجنسية الأميركية. فهو لم يُقدّم طلباً لنيلها كما فعل معظم رفاقه في “الرابطة القلمية”، إن لم يكن كلهم، ومنهم نعيمة الذي التحق بالخدمة العسكرية في الجيش الأميركي في باريس لمدة سنة مع بدايات الحرب العالمية الأولى، وقد حدّثنا نعيمة عن تلك التجربة من حياته في مذكراته “سبعون”. قد يكون أن روحانية جبران ردعته عن طلب الجنسية الأميركية، لعلمه أن ذلك سيفرض عليه خدمة عسكرية لا تنسجم ومعتقداته، أو أنه أراد أن يبقى لبنانيا صرفاً، أو لبنانياً – سورياً بدافع من حميّة وطنية قومية، أو أنه كان ينوي أن يرحل عن أميركا كما دخلها، أو بدافعٍ خفي من الوفاء لأمّه التي كان يحبها حتى العبادة، والتي جاءت به إلى أميركا بشَرّاوياً، فآثر أن يعود إلى بلاده بشَرّاوياً كما ولدته أمه، ويُدفَن في مسقط رأسه بشرّي.
تكشف الوثائق التي عرضها هنري زغيب أن جبران دخل أميركا مع امه وأخيه بطرس وشقيقتيه، مريانا وسلطانة تحت الاسم العائلي رحمة، وهو الاسم الثاني لأخيه غير الشقيق بطرس رحمة، من زواج أمه السابق من عبد السلام رحمة. أما اسمه الأول، فقد غيّرته له معلمته في مدرسته الأولى في بوسطن من جبران إلى خليل، وهو الاسم الذي اشتهر به في الغرب، بينما بقيت كتاباته العربية ممهورة باسمه الكامل الذي نعرفه، أي جبران خليل جبران. كان جبران معروفاً بالأديب السوري، إلى أن أسست دولة لبنان الكبير سنة 1920، فصارت اللبنانية جنسيته، لكنه بقي يُعّرف عن نفسه بأنه سوري، وفي حالات أخرى بأنه لبناني. هذا في الظاهر، أما ما كان في وجدانه، فمزيجٌ فريدٌ من مُكوّنات لبنانية وسورية وعربية وهندية واميركية وكونية، ذلك ما تفيض به كتاباته لمن يعرف كيف يقرأها.
كثيرةٌ هي المعلومات التي يحفلُ بها القسم الثاني من الكتاب، منها ما هو جديد لم يُنشَر من قبل، ومنها الذي لا يعرفه إلّا القلائل، من ذلك مقال فيه وصفٌ دقيق لمحتويات “الصومعة “، محترف جبران في الشارع العاشر غرباً في نيويورك، بقلم ميخائيل نعيمة، ومقال آخر للمونسنيور منصور إسطفان، وكان زغيب قابله في لبنان في العام 1983، وحفل تكريم جبران في “ديترويت ” أقامها على شرفه، “النادي التقدمي السوري الأميركي” مع صورتين نادرتين، إلى جانب وثائق وصور كثيرة، عن مأتم جبران المهيب في كنيسة سيدة الأرز في بوسطن، ومأتمه في بيروت، ونص وثيقة شراء دير مار سركيس في مسقط رأس جبران في بشري، وهو الدير الذي طالما تمنى جبران أن يمضي فيه بقية عمره، ونفّذته له شقيقته مريانا بعد رحيله. هناك أيضاً نصوص وقصائد لباربره يونغ عن جبران لم ترد في كتاب يونغ، حصل عليها زغيب من دورياتٍ أميركية وصاغها عربياً، من بينها مقال في مناسبة مرور سنة على وفاة جبران، نُشر في مجلة “العالم السوري” لصاحبها سلّوم مكرزل، كما قدم لنا صفحة عن حياتها ونشأتها، وصفحات أخرى مما كتُب عنها بأقلام نعيمة واسكندر نجار، ورياض حنين، وفرجينيا حلو، وجين وخليل جبران في كتابهما الذي وضعاه بالإنكليزية عن جبران، تحت عنوان “خليل جبران – أبعد من الحدود”.
هناك ايضاً مقالٌ ليونغ عن مأتم جبران في بوسطن، وآخر عن مراسم وداع جبران على مرفأ “بروفيدنس” في رحلة العودة إلى لبنان، تلاه فصلٌ آخر عن وصول جثمان جبران إلى بيروت، والرحلة الأخيرة إلى بشري، ومقالات رثاء من رفاق جبران في “الرابطة القلمية”: إيليا أبو ماضي، نسيب عريضة، ندرة حداد، رشيد أيوب، وليم كاتسفليس. من الصور أيضاً، صورة نادرة لغلاف كتاب عنوانه “السنابل”، يضم مُنتخبات من مؤلفات جبران، وهو هدية تكريمية من رفاقه في الرابطة القلمية”، إلى جانب لقاء مثير بين زغيب والنحات اللبناني الأصل خليل جبران، وكان والد هذا الأخير، ابن عم جبران. يحكي زغيب لنا وبمسحة عاطفية، كيف التقى الرجل، وكيف زاره في البيت ووجد عنده كتاباً بالإنكليزية عن مسرحيتين لجبران، “لعازر وحبيبته”، ومسرحية “الأعمى” نقلهما زغيب إلى العربية. في الحديث معه عرف أن جبران كان عرّابه في المعمودية، وعنه يقول زغيب “أنه وضع مع زوجته جين، أهم بيوغرافيا مُفصّلة ومُوَثَّقة عن جبران”.
في الكتاب أيضاَ حوارٌ شائق، أجراه زغيب مع أندرو غريب سنة 1990، وفيه يحكي غريب عن لقاءاته مع جبران ونعيمة، وبربارة يونغ. أما القسم الثالث من الكتاب، فصور مجلات وصحف من الزمن الذي عاش فيه جبران، واغلفة كتب ورسائل، وصورة لماري عزيز الخوري وهي صبية، وأخرى وهي سيدة. كانت ماري الخوري فتاة ثرية وابنة لرجل ناشط في تجارة المجوهرات، وكانت محبة للفن والأدب، وتبتاع من جبران، بين حين وآخر، بعضاً من إعماله الفنية. وكان زغيب نشر مقالا عنها في موقعَي “النهار العربي” و”أسواق العرب” وألقى بعض الضوء على ما كان بينها وبين جبران من علاقة. من الصور أيضاً، صورة للشاعرة جوزفين بيبدي، التي تعرّف جبران إليها في مطلع شبابه، ويُقال إنه ارتبط معها بعلاقة غرامية، وصور لماري هاسكل مع الطالبات في مدرستها، وصورة لمدرسة “كوينسي” التي انتسب إليها جبران، وهو في الحادية عشرة من عمره بعد وصول عائلته إلى بوسطن.
رسائل جبران وماري هاسكل
ولعلّ أهم “كشوفات” الكتاب تلك الفصول المُمتعة، المُتّصلة بالرسائل المُتبادَلة بين جبران وماري هاسكل كما نقلتها فرجينيا حلو، وهي باحثة أميركية من أصول لبنانية ذهبت إلى جامعة “نورث كارولينا” ونبشت الكثير من تلك الرسائل من مكتبة الجامعة. تكتب فرجينيا حلو: ” نهار الإثنين 20 نيسان (إبريل) أمضت ماري طيلة النهار في المحترف تحزم عدداً كبيراً من الرسائل والمخططات والملاحظات والرسوم والمخطوطات. عملت ماري وحدها في المحترف، لأن باربره كانت مُتوَعكة. كانت اقترحت على ماري الاتصال بميشا (ميخائيل نعيمة) في إدارة مجلة “العالم السوري” فجاء نعيمة إلى المحترف الساعة الخامسة مساء، وساعدها بضع ساعات على جمع الرسوم والأغراض، ووضعها في خزانة جعلا لها قفلاً، وجعلا قفلاً آخر لباب المحترف. قبلها بأيام كانت ماري وباربره سحبتا من بين الأغراض المُكدّسة صندوقاً كبيراً، حين فتحتاه وجدت ماري فيه رسائلها إلى جبران منذ عرفته، وأخرى وهو في باريس، ورسائلها حين غادر بوسطن إلى نيويورك. مئات الرسائل كتبتها إليه خلال عشرين عاماً. حين تنبّهت باربره إلى تلك الرسائل وما تُمثّله في حياة جبران، طلبت إلى ماري إتلافها، لكن حين كانت ماري في المحترف لوحدها في 20 نيسان (إبريل)، حزمت تلك الرسائل وودّعت ميخائيل نعيمة وركبت قطار الساعة العاشرة والنصف ليلاً وعادت إلى بيتها في سافانا. بعد أيام كتبت ماري إلى باربره يونغ أنها لا تُوافق على إحراق تلك الرسائل، لأنها كانت دائماً مؤمنة بجبران وبعظمته، تالياً ترى أن هذه الرسائل بما فيها من تفاصيل علاقتهما، تؤرّخ مرحلة أساسية من حياة جبران، ويستحيل إتلاف هذه المرحلة. وفي بيتها بهدوء وغفلة عن زوجها، جاءت برسائلها إليه كما جمعتها وضمّتها مع رسائله إليها وكانت مُحتَفِظة بها جميعاً، وبقيت محفوظة لديها إلى أن أودعتها مكتبة جامعة نورث كارولينا، وهي لا تزال محفوظة بعناية فائقة إلى اليوم”.
تحامل على ميخائيل نعيمة
قلنا في ما سبق، إن هنري زغيب كان موضوعياً في حكمه على نصّ باربره يونغ، ولم يفتنه حبه جبران عن حجب حقيقةٍ رآها، لكنه بدا من ناحية أخرى، كما لو أنه يشارك رأي مَن قال إن نعيمة أساء إلى جبران. فبينما تقول يونغ إن أحد أعضاء الرابطة القلمية خرج عن الإيمان بغايتها، ولم تشأ أن تذكر اسمه، سارع هنري زغيب إلى القول إنه ميخائيل نعيمة “نظراً للود المفقود بينه وبين جبران”، وفق قوله. قد يصحّ قول زغيب أن نعيمة هو من خرج من الرابطة، ولو أننا نشك في ذلك، يبقى أن هذا “الخروج”، وإن حُسِبَ على نعيمة، ما كان يحصل لو بقي جبران حياً، بل حصل بعد رحيله، وهذا أمرٌ طبيعي، لأن جبران رحل في العام 1931، ونعيمة عاد إلى لبنان في العام الذي تلاه، أي 1932. اما قول زغيب “إن الودَّ بين جبران ونعيمة كان مفقوداً” فبعيدٌ عن الحقيقة، في نظرنا على أقل تقدير. قد يكون هنري زغيب بنى موقفه على ما طالعه في كتاب نعيمة عن جبران، ووجد فيه إساءة إلى جبران، وجدها قبله أدباء كبار، مثل أمين الريحاني، وعيسى الناعوري وغيرهما، علماُ أن نعيمة في كتابه ذاك، الرائع لغة وخيالاُ واسلوباً، أراد أن يُصوِّرَ جبران كما عرفه في الحياة الواقعة، لا كمُرشِدٍ أو قديس، كما صنعت باربره يونغ، فأبى أن يُقدِّم عنه صورة “لا وزن بين ظلالها وانوارها” على حد قوله، مُعتبراً أنه لولا تلك الصراحة التي تحدّث فيها عن جبران “لانطمس أجمل ما في حياة جبران، وهو صراعه المستتّب مع نفسه، لينقّيها من كل شائبة، ويجعلها جميلة كالجمال الذي لمحه بخياله، وبثّه بسخاء في رسومه وسطوره”.
ليس صحيحاً أن نعيمة حذف من الترجمة الإنكليزية فصولاً ندم على كتابتها في النسخة العربية، كما يقول بعض منتقديه، خصوصاً ذلك الفصل المتعلق بالسيدة الأميركية، التي كان يختلف إلى دارها في مطلع صباه، والتي كانت بينه وبينها ليلة حمراء، والفصل الآخر المُتعلق بزيارة ميشلين له في باريس، علماً أننا اطّلعنا على النص الإنكليزي، فإذا تلك الفصول هي ذاتها في النسخة العربية. ما كان بمقدور نعيمة أن يكتم كلمة سبق وقالها، وقد رد قبل ذلك على الذين عاتبوه على بوح بعض “أسرار” جبران الجنسية في كتابه قائلاً: “إن أنا كتمت هذه الاسرار، فما معنى الذي أكتبه؟ أأخون نفسي والقارئ وجبران، بكتمان ما ليس مكتوماً في سجل الحياة الكبرى، وإن يكن مستوراً على الناس”! نكاد نقطع على أي حال، بأن ماري هاسكل قد أخبرته عن تلك العلاقات، أو أن جبران نفسه قد أخبره بذلك في سياق الأحاديث الطبيعية التي يتبادلها الرجال عن النساء، أو تلك التي تتبادلها النساء عن الرجال!
لم يكن نعيمة في رأينا حاسداً لجبران، أو أنه أراد أن يهبط بكفة جبران ليرفع من قدر كفته، علماً أن في القسم الثاني من الكتاب مقالاً بالإنكليزية عن جبران كتبه نعيمة في مجلة “ارامكو” ونقله زغيب إلى العربية، يكشف بما يُبدّد أي شك، عن حب نعيمة ووفائه لجبران، لا بل هو من الوضوح أن حمل هنري زغيب نفسه على القول “إنه أجمل ما يُمكن أن يكتب صديق وفيّ عن صديقه الغائب”! نعتقد أنه لو امتد العمر بجبران، إلى ما بعد عام وفاته سنة 1931، لبقي نعيمة في نيويورك صديقاً وأخا وفياً لجبران، وعضواً ناشطاً في “الرابطة القلمية”، لكن رحيل جبران أمضّه وأحزنه وحمله على العودة إلى لبنان في السنة التي تلت. وفي الفصل الذي عنوانه “تخليد جبران” من كتاب نعيمة، جملة تكفي وحدها لأن تكون دليلاً لا يخالطه أدنى شك، عن حبّ نعيمة لجبران وتقديره أدبه، إذ وصفه بأنه “أعظم كاتب ظهر في الشرق منذ أجيال”، قول لم يقله او يكتبه أيٌّ من محبي جبران، والمعجبين بفنه وأدبه حول العالم، بمن فيهم باربره يونغ نفسها!
إن ما سبق من “تحامل “على نعيمة، يمكن قبول بعضه أو كلّه، ولو بشيءٍ من التحفّظ. غير أن الحدّ الذي ضننتُ على العزيز هنري أن يصل إليه في هذا “التحامل”، ولو أنه من صنع غيره، فنُعوتٌ قاسية بحق نعيمة وردت في الكتاب مثل “نزالة وحقارة وقذارة”، لا تليق بكاتبها عيسى الناعوري، ولا بحق كاتب متفرد حاذق مثل ميخائيل نعيمة حتى لو أخطأ، علماً أن كتاب نعيمة يقبل وجوهاً مختلفة في التفسير كما سبق القول، ما لا يجوّز لأي شارح، ان يمتلك الحقيقة بشأنه، أو يدّعي أنه يمسك وحده مفتاح قلب نعيمة ليُبيّن لنا كيف كانت مشاعره نحو جبران وغير جبران من البشر. هناك الكثير من الكتابات التي تؤكد أن أواصر الود بين جبران ونعيمة، لم تنفصم عراها في أي يوم، وبقيت قائمة إلى اليوم الأخير من حياة جبران، تؤكدها بنوع خاص، تلك الرسائل الحميمة بين الأديبين الكبيرين، وعبارة “أخي الحبيب ميشا” التي كان جبران يفتتح بها رسائله إلى نعيمة.
ما كنا في حاجة إلى هذه “المداخلة” الطويلة عن نعيمة، والتي أخرجتنا بعض الشيء من التركيز على كتاب “هذا الرجل من لبنان”، لو لم ترد فيه تلك الكلمات المُجحِفة بحق ميخائيل نعيمة الذي لا تقل مكانته الفكرية والأدبية في نظرنا عن مكانة جبران، أو لو قابلتها في أقل تقدير، عبارات مديح وإطراء في نعيمة وهي كثيرة، من جانب من قرأوا كتابه وأُعجِبوا به، أو من قبل من عرفوا جبران ونعيمة معاً، وشهادة هؤلاء اصدق الشهادات، مثل الشاعر رشيد أيوب، رفيقهما في “الرابطة القلمية”، الذي أثنى على نعيمة وقال: “هكذا فليكتب الكتاب”، أو الشاعر نسيب عريضة، رفيقهما الآخر في “الرابطة”، الذي كتب عنه سلسلة مقالات مُطوَّلة، ذلك ما تقتضيه أمانة عرض النقيض بالنقيض، خصوصاً أن نعيمة لم يعد حيّاً ليدافع عن نفسه ضد ما يُساق إليه من تهم ما برحت بعدُ في دائرة الشك. مهما يكن، لا نجد بعد هذا كله، من التعقيب المضاف على ما ذكرناه، أفضل من قول المعري العظيم” لا تظلموا الموتى وإن طال المدى/ إني أخاف عليكم أن تلتقوا”!
بقي من الحق أن نقول، إن ما أبديناه من نظرات وملاحظات، ليس شيئاً في ميزان النقد، بالقياس إلى أهمية الكتاب، وإلى مقدّري أدب جبران وفنه عموماً، والعاملين منهم في حقل الدراسات الجبرانية بنوع خاص، وأيضاً إلى ما بذله هنري زغيب من جهد في إنجاز هذا الكتاب. الشكر له كل الشكر مع ذلك، والثناء عليه كل الثناء، والثناء والشكر موصولان ايضاً لمركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، لما يبذله هو الآخر من جهود مضنية، حفاظاً على ما هو جميل ونضر في تاريخنا وتراثنا، يضاعف الحاجة إلى ذلك، ما نعانيه في هذه المرحلة الصعبة من حياتنا، المليئة بصور البؤس والبشاعة والمرارة.
يبقى الأمل، أن يحفظ الزمن لهذ ا المركز، ولصديقنا الشاعر هنري زغيب، صنيعهما هذا الطيب الجليل، ويسجله لهما بأحرفٍ من نور.
- رؤوف قبيسي هو كاتب وصحافي لبناني.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في “النهار العربي”.