نقدات عابر سبيل (1): أديب اسحق قبَسٌ مَنْسِيّ

الجزء الأول من منظوماته (الإسكندرية – 1895)

عبدالله نعمان*

من الأدباء مَن إذا قَضى تنافسَ الخطباءُ في تأبينه وتسابقَ الشُّعراءُ في تعداد مآثِره. ومنهم مَن إذا قضى ماتَ جسدًا وروحًا وأثرًا، لا يتناولُه دارسٌ ببَحث ويبخلُ عليه المؤرِّخون بمَقال تعريف. أديب اسحق من شلَّة مكرَّسة أغفلَها الدَّارسون فثَوَت آثارُها معها. هنا نفْضُ بعض الرماد عنه.

هــو

أرمنيُّ الأصل، سوريُّ المولِد، لبنانيُّ النَشأة، وُلدَ في دمشق (21/1/1856)، تلقَّى علومَه في مدارسِها الابتدائيَّة، ثمَّ انتقلَ إلى بيروت مواصلًا دراستَه في معهد الآباء اليسوعيِّين. عملَ كاتبًا في ديوان الحكومة ونشَر في جريدتَي “التقدُّم” و”ثمرات الفنون” (1874) البيروتيَّتَين. شرعَ يؤلِّفُ ويُترجمُ للمسرح، تعرَّفَ إلى سليم النقاش وسافرَ معه إلى الإسكندريَّة ومثَّلا رواياتٍ عربيَّة. وللنهوض بالمسرح العربيِّ الفتيّ انتقلا إلى القاهرة، جالَسَا جمال الدين الأفغانيّ واستمَعا إليه فكانت تجتمعُ في داره ضُمَّةٌ كـمحمَّد عبده وسعد زغلول ومحمود البارودي، اكتسبَ منهم أَديب وتسرَّبت إليه روحُ الثورة والعمل البَنَّاء لتحرير البلاد من المُستَعمرين، فأصدرَ جريدةً أسبوعيَّةً سمَّاها “مصر” (1877)، ثمَّ أنشأ جريدةَ “المَحروسة” مع صديقه سليم النقاش (1879)، لكن الحكومة العثمانيَّة عطّلَت الجريدتَين.

صُدِمَ الأديبُ الشابُّ بهذا الإجراء التَّعَسُّفيّ فغادر إلى باريس (1880) وأصدرَ جريدتَه الثَّالثةَ “مصر القاهرة”، وراحَ يتَّصلُ بأدباء فرنسَة ويكتبُ في صحفِها مُدافعًا عن قضايا الشرق فلفتَ إليه مثقَّفين أُعجِبوا بمقدرتِه الخطابيَّة وذكائه المُلتَهب وحافظتِه المُتَوقِّدة على صغر سنِّه، حتَّى قال فيه “ڤيكتور هوغو” جملتَه الشَّهيرة: “هذا نابغةُ الشَّرق”. لكنَّ مُناخَ باريسَ لم يلائمْ أديبَنا الطَريّ العُود فأُصيبَ بداء الصدر، وعادَ إلى بيروتَ ومنها إلى القاهرة للاستِشفاء فعُيّن فيها ناظرًا ديوانَ التَّرجمة والإنشاء (ديوان المَعـارف) ثمَّ كاتِبًا ثانيًا في مجلس النُّوَّاب. وبعودته إلى بيروت ترأَسَ جمعيَّةَ “زهـرة الآداب” ثمَّ انتقلَ إلى بلدة الحَدَث وفيها توفّي سنة 1885 ولَمَّا يبلغ الثلاثين.

طبعة حديثة من “الدُرر” مع مقدمة من مارون عبود

ثقافتُه

حصَّلَ أديب ثقافةً واسعةً شاملة مميزة بين أقرانه في النصف الثاني من القرن التاسعَ عشر. كان عبقريًّا فذًّا، قالَ الشِّعرَ في العاشرة، وأتقنَ العربيَّةَ والتركيَّةَ والفرنسيَّةَ قبل إتمامه العقدَ الثاني. خطيبٌ شهيرٌ، سياسيٌّ حاذق، مواطنٌ صادقٌ، شاعرٌ مُجيدٌ، ناثرٌ بليغ، خطيب قدير تنقادُ له الجملُ بسهولةٍ وسلاسة، ومرونةٍ وبلاغة، حتى أنّ سعد زغلول ذكرَه بين الذين تأثَّرَ بهم خطابيًّا. وكانَ أوَّلَ مَن هذَّبَ لغةَ الصِّحافة وجعلَها متينةً من غير تعقيد، رصينةً من غير ابتذال.

آثارُه

ملأ أَديب إسحق حياتَه القصيرةَ بأعمال أدبيَّة فألَّفَ وترجمَ واقتبسَ روايات. من آثاره: “نزهةُ الأحداق في مصارعِ العشاق” و”تراجم مصر في هذا العصر”. عرّب مسرحيَّاتٍ كثيرةً، أشهرُها “أندروماك” و”شارلمان” و”الباريسيَّة الحسناء” (1884). جمعَ شقيقُه عوني منتخباتٍ من مقالاته وخطبه ومنظوماته في كتاب “الدُرَر”، فجاءَت فعلًا دُرَرًا صافيةَ العبارة، ساميةَ المعنى، متينةَ الأسلوب، فصيحةَ البيان.

أدبُه

ركّز في مقالاته على النُصح والإرشاد والتحذير من مَغبَّة الجَهل. وغالبًا ما كان يبدأ مقالَه ببيتٍ من الشعرِ الحكميّ، كقولِه:

إذا كنتَ ذا رأيٍ فكُـن فيـه مُقْدِمًا            فإنَّ فسـادَ الـرَّأي أن تَتَردَّدا

أو قوله:

فمَن عــاشَ في ذلٍّ فذلك ميـتٌ  ومَن مـاتَ عن فضلٍ فذلكَ خالـدُ

أسلوبه متانةٌ في التعبير، دقَّةٌ في الوصف، اعتناء شديد بالجزئيَّات والتفاصيل. من ذلك: “هو معتركٌ أومضَت فيه بروقُ المرهفات، ولعلعَت رعودُ المدافع، فتلَتْها غيوث الكرات، وسكرَتِ السيوفُ بخَمرٍ من الدم فعربدَتْ في الرؤوس، وعقدَ العثيرُ لملك الموت سرادقًا مطنبًا بالقنا، والخيلُ ساغبةٌ تقبلُ ثقالًا وتعودُ خفافًا، وكأنَّها – وقد أعياها الفارسُ حيًّا – قد غضبَت على الإنسان فداسَتْ هامتَه انتقامًا. وقد استحيتِ الشمسُ من خشونة الإنسان فاحتجبَتْ بحجاب الضباب، وتململَتْ الأرضُ من أعماله، فزلزلَتْ زلزالَها، وكادَت تُخرجُ أثقالَها، فارتعدَ الرعديدُ وثبُتَ الصنديد، ونادى مُنادي الحرب: “مَن فرَّ من الموت وقَع، ومَن كانَ ينوي أهلَه فلا رَجع”.

ولأديبٍ خطراتٌ فلسفيَّةٌ عميقة. يرى أنَّ الإنسانيَّةَ “صفة تقومُ بمَن ضعفَ فيه الميلُ الحيوانيُّ فقويَ الميلُ الإنسانيّ، وهي الترفُّعُ عن الحاجات الحيوانيَّة إلى المطالبِ العقليَّة، وتجريد النفس عن دنيْءِ شهواتِها لرفعها إلى سامي غاياتِها”. وأمَّا الحربُ في عُرفه فهي “باعِث الهولَ والكرب، أوَّلُها شكوى وأوسطُها نجوى وآخرُها بلوى”.

ووعى أديب سبب تقهقر أمَّته وفقدانها مجدَها السالف، فكتب بغَير وَجَل: “هي البصائرُ غشِيَها وهْمُ الكمالُ في العادات، ودعوى العصمة في التقليد، فاحتجبَتْ عنها حركةُ الخواطر في بلاد الغرب، فسارَ الناسُ ونحنُ واقفون، وحرَّكتْهم عواملُ الغيرة وضمائرُنا مبنيَّةٌ على السُّكون”. وهكذا، أفنى أديب اسحق حياتَه في سبيل توحيد الصفوف، والسير بالشعب في مَعارج الرّقيّ والتمدُّن، إذ “لا عزَّ للوطن إلاَّ بالأُمَّة، ولا وجدانَ للأمَّة إلَّا بالحرِّيَّة”.

قصائده

الشعر نظمَه أديب في السَّوانح. لم يبرع به لكنه حمَّلَه حسًّا مرهفًا وعاطفةً صادقة، فجاء شعرُه سلِسًا، كثيرَ الحكَم، رقيقَ التَّعبير، لا تكلُّفَ فيه، على أن معظمه نثر منظوم. من ذلك قولُه المَعروف:

قتــلُ امــرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تُغتَفَـرْ

وقتــلُ شعـبٍ آمِنٍ مسألةٌ فيها نَظَـرْ

والحقُّ للقوَّة لا يُعطاه إلاَّ مَن ظَفَرْ

وله في الدفاع عن المرأة الشرقيَّة وقفاتٌ ساطعة كما نصوص وليّ الدين يَكَنْ ونظراتُ جبران. ومن خيرة شعره قصيدةٌ في حقيقة المرأة، منها:

حَسـبَ المــرأةَ قــومٌ آفـةً مَن يُدانيـها من النَّـاس هلــكْ

ورآهــا بعضُهم أمنيةً ملكَ النعمــةَ فيها مَن ملَـكْ

فتمنَّــى معشرٌ لو نُبـذت وظـلامُ الليل مشتـدُّ الحلَـكْ

وتمنَّــى غيرُهـم لو جُعلَــت في جبين اللَّيــث أو قلب الفلَـكْ

وصوابُ القَول لا يجهلُه حاكــمٌ في مسلك الحـقِّ سلَـكْ

إنَّمـا المرأةُ مــرآةٌ بهـا كلّ ما تنظـرْه منــك ولَـكْ

فهي شيطانٌ إذا أفسدتَها وإذا أصلحتَها فهــي ملَـكْ

كانت كتاباتُ إسحق ملهبةً لا تشفق فأثارَتْ حفيظةَ الحكَّام، ومنهم محمّد سلطان باشا الذي أمرَ بسجنه، فبعثَ إليه أديب بقصيدةٍ عارضَ فيها أبا فراس الحمداني في قصيدته المشهورة “أقول وقد ناحَتْ بقربي حمامة”، قال فيها:

أمولاي هـذا نظْمُ حُـرّ وتِلْـوَه    كلامُ سجيـن أوثقتـه المــآثِـرُ

أَتَوْه بنُكـر، وهو للخير مرتجٍ    وجازوْه بالخـذلان وهو منـاصرُ

أيُبعَد ذو فضل ويُدنى منافِـقٌ    ويُسجَن وافٍ حين يطلـَق غادرُ؟

ويُكْرَمُ جاسوسٌ عن الصّدق حائـدٌ  ويُظلمُ هُمّامٌ على الحـقِّ سائِـر؟

لذا قضتِ الأيَّـام ما بيـن أهلِـها    “مَعائبُ قومٍ عند قومٍ مفاخــرُ”

غيابه الباكر

قضى أديب حياةَ ثورةٍ دائمةٍ وتمرُّدٍ عارم، فثارَ على التقاليد والسخافات البالية، وحاربَ الأمجادَ المتوارَثَة، ودعا إلى مواكبة تيَّارات الحضارة الحديثة. سخَّرَ قلمَه للدفاع عن الشعوب المظلومة، والحقوق المَهضومة، وإيقاظ الهِمَم المريضة المتكاسلة، وإثارة الحَمِيَّة الوطنيَّة في النفوس المستعبَدَة المستذَلَّة. ودعا إلى ذلك في كلِّ حرف خطَّه وفي كلِّ بيت نظمَه، وكانَ شعارُه دائمًا “رُبَّ حياةٍ تكونُ في الموت، ورُبَّ موتٍ يجيءُ من طلب الحياة”.

* عبدالله نعمان كاتب لبناني يعيش في فرنسا منذ نصف قرن. له مؤَلفات بالعربية والفرنسية، منها بالعربية “الحركات العلمانية في العالم العربي”، وبالفرنسية موسوعة “لبنان تاريخ أُمَّة غير مكتملة” (3 أَجزاء حجمًا كبيرًا في 2220 صفحة).

* يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى