متى ستَضُمُّ تُركِيّا شَمالَ سورِيَّا؟

فيما يُركّز نظام بشار الأسد اهتمامه على استعادة درعا، يعمل نظام رجب طيب أردوغان بشكلٍ حثيث على تتريك المناطق التي سيطر الجيش التركي عليها في شمال سوريا ديموغرافياً، إجتماعياً، إقتصادياً وسياسياً، والتي يتوقع الخبراء أن يضمها إلى تركيا كما فعلت أنقرة سابقاً مع سنجق إسكندرونة وأخيراً شمال قبرص.

الرئيس رجب طيّب أردوغان: متى “يبلع” شمال سوريا رسمياً؟

رؤوف بكر*

في سعيها إلى تحقيقِ طُموحاتِها التوسّعية، تنتهجُ تركيا سياسةَ تتريكٍ مَنهجية في المناطق الواقعة تحت سيطرتها في شمال سوريا. ويأخذ هذا الأمر أشكالاً مختلفة -ديموغرافية، واقتصادية، وتعليمية- وحتى تنسيق الإبادة البيئية. ويقوم أساس هذه الاستراتيجية على التطهير العرقي لمئات الآلاف من الأكراد الأصليين وإعادة توطين العرب والتركمان في مكانهم.

تتضمن حزمة أنقرة للتتريك، من بين أمور أخرى، المُطالبات والإدّعاءات التاريخية وتغيير أسماء القرى والساحات العامة. تُقدّم تركيا ووكلاؤها خدماتٍ أساسية مُتنوّعة للسكان المحليين بهدفٍ نهائي هو ربط المدن والبلدات السورية بالمحافظات التركية وجعل سكانها يعتمدون كلياً على تركيا.

في نهاية المطاف، تسعى أنقرة إلى فرضِ أمرٍ واقع، ربما يهدف إلى إعادة ترسيم الحدود في مرحلة ما في المستقبل. إلى متى سيغمض المجتمع الدولي عينيه عن هذه الإمبريالية العثمانية الجديدة الزاحفة؟

إستغلالُ الحرب الأهلية السورية

طوال عقد من الحرب في سوريا، ركّز الصراع بين القوى المُتناحرة على التغيير الديموغرافي كهدفٍ وليس كنتيجة. وفّرت المعارك للأطراف المُتحاربة فُرَصاً نادرة لاجتثاث جذور السكان المحليين الذين ينتمون إلى طوائف أو أعراق خصومهم.

يبدو أن الدول الثلاث اللاعبة حالياً في سوريا، روسيا وتركيا وإيران، وافقت على تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ تُشبه مناطق الحكم الذاتي المُتجانِسة ديموغرافياً. يبدو هذا النهج مُتّسقاً مع حقيقة أن العرب السنّة قد نزحوا من جنوب ووسط سوريا بينما طُرِدَ الأكراد والمسيحيون من الشمال. في الوقت عينه، تم نقل سكانٍ جُدد – تابعين لكل جانب – من مناطق أخرى من أجل إعادة توطينهم في الأراضي المحتلة. كانت هذه الاستراتيجية أكثر وضوحاً في المناطق التي تُسيطِرُ عليها تركيا في شمال وشمال شرق سوريا، والتي خضعت لتغييرٍ شاملٍ ومَنهَجِيٍّ للهوية بالإعتماد على عملية تدريجية باستخدام “القوة الناعمة” لترسيخ نفوذ أنقرة.

شنّت القوات التركية، خلال السنوات الخمس الماضية، أربع عمليات عسكرية أدّت إلى إقامة أربع مناطق حدودية تحت سيطرتها. الأولى كانت عملية درع الفرات في آب (أغسطس) 2016، التي استهدفت ريف حلب الشمالي. الثانية، عملية غصن الزيتون، التي سيطرت من خلالها على ريف حلب الشمالي الغربي في كانون الثاني (يناير) 2018. أما الثالثة فكانت عملية نبع السلام، حيث استولت القوات التركية وحلفاؤها على مناطق شرق نهر الفرات في تشرين الأول (أكتوبر) 2019. وتركّزت هذه العمليات على المدن والبلدات الكردية بحجة ملاحقة قوات سوريا الديموقراطية، التي تتهمها أنقرة بالانتماء إلى حزب العمال الكردستاني الذي يتّخذ من تركيا مقراً له، والمُعترَف به كمنظمة إرهابية في تركيا، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

في العام الفائت أطلق الجيش التركي عملية درع الربيع في محافظة إدلب إثر هجوم عسكري شنّه النظام السوري لاستعادة السيطرة على مناطق واسعة في الشمال الغربي. وانتهى الهجوم باتفاقٍ لوقف إطلاق النار بين روسيا، حليفة دمشق، وتركيا في إدلب في آذار (مارس) 2020.

نتيجة لهذه الإجراءات والعمليات، تُسيطرُ تركيا الآن على أكثر من 8,000 كيلومتر مربع في سوريا، أو ما يقرب من 4,9 في المئة من أراضي الدولة التي مزّقتها الحرب، حيث يتمركز هناك ما بين 12,000 و15,000 جندي تركي. والمدن الرئيسة الخاضعة للسيطرة التركية هي إعزاز ومارع والباب وجرابلس وعفرين ورأس العين وبلدة الراعي.

كما شكلت أنقرة ميليشيات سورية تابعة لها قوامها ما بين 80 إلى 100 ألف مقاتل. يحمل معظمها أسماء تركية وعثمانية، أبرزها “السلطان مراد” و”محمد الفاتح” و”لواء سمرقند” و”سليمان شاه”، كم قامت مجموعة من الشباب المقاتلين في نيسان (إبريل) 2019 إلى تشكيل ميليشيا أطلقت عليها اسم “أحفاد أرطغرل”.

الديموغرافيا والهوية

لدى تركيا خططٌ مُختلفة لتحقيق مُخطّطها. لقد أدّت العمليات العسكرية التركية إلى نزوح ما بين 300 ألف و350 ألف مدني كردي من بلداتهم وقراهم منعتهم أنقرة بعد ذلك من العودة.

وفي الوقت عينه، استقدمت السلطات التركية مئات الآلاف من النازحين العرب والتركمان المدنيين السوريين من ريف دمشق وحمص وحماة ودرعا وإدلب للاستقرار في المنطقة الكردية. جاء هذا الإجراء بناءً على تفاهمٍ تركي-روسي حظي بموافقة إيران والنظام السوري.

قام الأتراك بتوطين عشرات العائلات التركمانية في قرى بالقرب من مدينة عفرين الكردية، ما سمح لها بالاستيلاء على أراضٍ في ريف عفرين وبناء سبع قرى “نموذجية” لتوطينِ عائلاتٍ إضافية من الفصائل الموالية، وبخاصة التركمان. أحد المشاريع الذي يحمل اسم “بسمة” تمّ تنفيذه برعاية جمعية الأيادي البيضاء المدعومة من الكويت، وهو يضمّ مسجداً ومركزاً لتحفيظ القرآن بدعمٍ من جمعية عربية-إسرائيلية هي “العيش بكرامة”. في غضون ذلك، تُفيدُ المعلومات بأن ما يُسمّى بحكومة الإنقاذ، بقيادة الفرع الرسمي لتنظيم “القاعدة” في سوريا، “هيئة تحرير الشام”، تُخطّط لإنشاءِ دائرةِ سجلٍّ مدني ومجالس محلية مُرتبطة بتركيا، وإصدار بطاقات هوية جديدة في المناطق الخاضعة لسيطرتها في إدلب وريفها.

دعا المجلس المحلي المُعَيَّن من قبل تركيا في مدينة رأس العين الكردية بمحافظة الحسكة قرب الحدود العراقية، في تعميمٍ في كانون الأول (ديسمبر) 2020، العراقيين الذين قيل إنهم يقيمون في المدينة وريفها إلى التقدّم للحصول على بطاقات هوية. وبما أنه لا توجد سجلات تُوثّق وجود سكان عراقيين في المنطقة، يبدو أن هؤلاء الأشخاص استقرّوا هناك بدعمٍ تركي. يُشار إلى أن معظمهم من التركمان العراقيين الذين قاتلوا مع الفصائل الإرهابية عبر الحدود وتم منحهم منازل تمت مصادرتها من أصحابها المُهجّرين.

استخدمت أنقرة الحزب الإسلامي التركستاني، وهو فصيلٌ إسلامي من الأويغور تجمَّعَ في إدلب ويُعتَبَر حركة إرهابية، لمحاربة الأكراد وعرضت تعويضاً ووعداً لأعضائه بتوطينهم وعائلاتهم في سوريا. كما اتّخذت تركيا خطوات لمحو الهوية السورية نفسها. فقد صدرت تعليمات للسوريين في ريف حلب بالحصول على بطاقاتِ هوية جديدة تحمل رمزاً خاصاً مُرتبطاً بدوائر السجل المدني في محافظات هاتاي وكِلِس وغازي عنتاب في جنوب تركيا. حتى لوحات تسجيل المركبات والسيارات ورخص القيادة فهي مُرتَبِطة الآن بالنظام التركي.

بالإضافة إلى ذلك، تستخدم تركيا الأقلية التركمانية في سوريا لتنفيذ خططها. في كانون الأول (ديسمبر) 2012، تأسست جمعية التركمان السورية في اسطنبول بهدف إنشاء هيكلٍ تنظيمي لهم. في آذار (مارس) 2013، تم تغيير اسمها إلى مجلس تركمان سوريا خلال اجتماع حضره وزير الخارجية التركي السابق أحمد داود أوغلو، الذي شدّد في خطابٍ على أن بلاده “ستستمر في الوقوف إلى جانب التركمان السوريين تحت أي ظرف من الظروف”. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، نظّمَ المجلس، برعاية أنقرة، حدثاً أطلق عليه اسم “مؤتمر الأمة” في بلدة الراعي، تبنّى خلاله عَلَماً يشير إلى أن الشعب التركماني لديه الآن رمزه الخاص ويجب اعتباره أمة.

وعادة ما تقوم الجمعية، التي نقلت مقرها إلى سوريا في تموز (يوليو) 2019، بتزوير عدد التركمان في سوريا. في غياب الإحصاءات الرسمية، يُعتَبَر الرقم 100,000 تقديراً معقولاً لحجم التركمان هناك. تُضخّمُ الجمعية الرقم بشكل صريح إلى 1,5 مليون على الأقل. يُعتقد أيضاً أن الجمعية مُرتبطة بحركة “الذئاب الرمادية” المُتطرفة في تركيا وتنسق بشكل روتيني مع “هيئة تحرير الشام”.

الزيتون والجوع والفدية

أحد أسلحة الهندسة الديموغرافية التي تستخدمها تركيا في المنطقة هو قطعُ سُبُل عيش السكان الأكراد الأصليين في محاولة لطردهم. تُشكّل محاصيل الزيتون المصدر الرئيس للدخل بالنسبة إلى الأكراد، ومعظمهم من المزارعين، على عكس المستوطنين العرب والتركمان الذين هم في الغالب صغار التجار والحرفيين. تقوم الجماعات المدعومة من تركيا باقتلاع أشجار الزيتون بشكلٍ مُنتظِم وبيعها كحطبٍ للوقود في تركيا.

على الرغم من صعوبة التعداد بشكلٍ دقيق لأشجار الزيتون في المنطقة الكردية، إلّا أن غالبية التقديرات تشير إلى أنه يتراوح بين 12 و18 مليون شجرة، والتي تنتج سنوياً ما بين 60 ألف و 70 ألف طن من زيت الزيتون. وقد وثّق تقريرٌ صادرٌ عن منظمة حقوق الإنسان في عفرين، قَطعَ أكثر من 314,400 شجرة زيتون لـ “تجارة الحطب”، وأشار إلى أن أكثر من ثلث المساحة المُخَصَّصة للزراعة قد احترقت خلال السنوات الثلاث الماضية. علاوة على ذلك، تستولي الجماعات المدعومة من تركيا على جزءٍ كبيرٍ من محصول زيتون الأكراد بقوّة السلاح وتبيعه للتجار الأتراك. في الوقت عينه، مُنِعَ المزارعون الأكراد من بيع زيتهم خارج المنطقة الخاضعة للسيطرة التركية بدون إذنٍ مُسبَق، مما تسبب في انهيار الأسعار.

تبلغ قيمة الزيت المنهوب 150-200 مليون دولار، يذهب رُبعُهُ إلى الجماعات المسلحة وإداراتها المدنية على شكل ضرائب تتراوح بين 10-20 في المئة مقابل السماح للمزارعين الأكراد بقطف بساتين الزيتون الخاصة بهم، والذي يُترجَم إلى أرباحٍ تقارب 15-40 مليون دولار سنوياً.

في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، أكّد وزير الزراعة التركي بكِر باكدميرلي للبرلمان إن 600 طن من الزيتون دخلت البلاد. قال: “لا نريد أن تقع العائدات في أيدي حزب العمال الكردستاني. نريد أن تصل عائدات عفرين إلينا. هذه المنطقة تحت هيمنتنا”. ويعمل التجار الذين يشترون الزيت من المزارعين الأكراد تحت إشراف الجماعات المسلحة التي تضمن شراءها بنصف السعر ونقلها بالشاحنات مباشرة إلى تركيا. يُباع الزيت حتى في الأسواق الأوروبية والأميركية التي تحمل علامة تجارية كمنتج تركي.

وتكشف تقاريرٌ مُتطابقة أن الأتراك يبيعون زيت الزيتون لإسبانيا من خلال عددٍ من الشركات الوسيطة. يتم خلطه بالزيت التركي قبل تصديره تحت أسماء تجارية مُختَرَعة. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، ذكرت صحيفة “يني شفق” (Yeni Şafak) التركية، المعروفة بدعمها المُتشدّد للرئيس رجب طيب أردوغان، أن تعاونيات الائتمان الزراعي التركية كانت تساعد على بيع زيتون عفرين دولياً، وأن “سوق زيتون عفرين، التي تبلغ قيمتها 200 مليون دولار سنوياً، ستُعاد إلى الشعب السوري”.

أداةٌ مُماثلة للهندسة الديموغرافية هي التجويع القسري. منذ بداية العام 2021، عمدت السلطات التركية إلى تجويع المنطقة من طريق تقليص حصة سوريا من نهر الفرات، وهو مصدرٌ رئيس لمياه الشرب وضروريٌّ للزراعة وإنتاج الكهرباء. عددٌ كبيرٌ من محطّات الري على ضفاف نهر الفرات في الجانب السوري خارج الخدمة الآن، ولم يعد توليد الكهرباء مُمكناً بسبب انخفاض تدفق المياه من تركيا من 500 إلى أقل من 200 متر مكعب في الثانية – وهذه الخطوة تؤثر في حوالي 2.5 مليوني سوري.

هذه الإجراءات تنتهك الاتفاقية بين الدول المشاطئة الثلاث – سوريا والعراق وتركيا – وستؤدي في النهاية إلى كارثة بيئية وأزمة إنسانية من شأنها أن تُهدّد الأمن الغذائي في المجتمعات الكردية.

في الوقت عينه، تدفع تركيا والجماعات الموالية لها بآخِرِ الأكراد المُتبقِّين إلى الفرار من خلال مضايقتهم من خلال عمليات الخطف ومطالب الفدية، وهي تكتيكات تُجبر الكثيرين على المغادرة خوفاً على عائلاتهم. وقد كشف تقرير منظمة حقوق الإنسان- عفرين، عن توثيق ما يقارب 7,343 حالة اختطاف خلال السنوات الثلاث الماضية، استهدفت مئات الأشخاص بينهم نساء. وخُطِفَ في العام الماضي 987 شخصاً بينهم 92 امرأة. غالباً ما يتم اختطاف المدنيين واحتجازهم كرهائن ريثما يتم دفع آلاف الدولارات كفدية.

الخدمات والاقتصاد

في ما يتعلق بالخدمات والتمويل، أصبحت المناطق التي تسيطر عليها تركيا مُعتَمِدة كلياً على أنقرة. تُقدّم المديرية العامة للبريد التركي خدماتها في أعزاز ومارع والباب وجرابلس وعفرين والراعي للموظفين الأتراك والمواطنين السوريين، حيث تتعامل مع البنوك والتحويلات المالية والشحن ورواتب المعلمين والموظفين السوريين والجنود الأتراك والشرطة المحلية بالليرة التركية التي أصبحت عملة الأمر الواقع. إفتتحت الحكومة التركية مستشفيات في جرابلس، وإعزاز، والباب، ومارع، والراعي، وأقامت أبراجاً للهواتف الخلوية تملكها شركة “تورك تليكوم” (Turk Telekom) في ريف حلب وإدلب. كما افتتحت “تورك تليكوم” مركز خدمة في إعزاز في تموز (يوليو) 2018 مع مُزَوِّدِ إنترنت عالي السرعة.

في الوقت عينه، قامت شركة الكهرباء التركية العملاقة “أكينيرجي” (Akenerji) ببناء محطة كهرباء في إعزاز وإنشاء شبكة كهرباء أخرى في جرابلس والباب. ويقوم حكّام المحافظات التركية، وهم حكام الأمر الواقع، بتعيين رؤساء المجالس المحلية بينما يتم تمويل المشاريع حصرياً من قبل البنوك التركية التي تُودَعُ فيها أموال كلّ مجلس. حتى تعيين القضاة والمحامين فهو يتطلب موافقة وزارة العدل التركية بينما أخذت مديرية الشؤون الدينية التركية (ديانِت) على عاتقها تجديد مئات المساجد.

من ناحية أخرى، إضطرَّ السوريون في المناطق الخاضعة للسيطرة التركية إلى تسجيل آلاف الشركات في تركيا لتوزيع منتجاتهم. إن عدم القيام بذلك يُعرّضهم لخطر منعهم من العمل. وأنشأ الأتراك مناطق صناعية حرة مُرتبطة بتركيا لتسهيل عمليات الاستيراد والتصدير مع فتح معبرٍ حدودي أُطلِقَ عليه اسم “غصن الزيتون” في آذار (مارس) 2019 لنقل البضائع في كلا الاتجاهين.

وتنصّ شروط اتفاق وقف إطلاق النار في إدلب المُوَقَّع بين أنقرة وموسكو في العام الفائت على احتفاظ تركيا بموطئ قدم في المحافظة. عملياً، هذا يعني أن أنقرة يحقّ لها السيطرة على الاقتصاد المحلي، والشروع في مشاريع استثمارية ضخمة في إدلب، والحفاظ على وجود عسكري هناك.

تَتريكُ التعليم

في قطاعِ التعليم، تستثمر أنقرة بشكلٍ كبير في تتريك جيل الشباب. تم تعديل المناهج الدراسية في الأراضي السورية المُحتَلّة لإحلال عبارة “الحُكم العثماني” محل عبارة “الإحتلال العثماني” للمنطقة. أصبح الآن تعلم اللغة التركية إلزامياً في حوالي خمسمئة مدرسة تضم مئات الآلاف من الطلاب في المرحلتين الابتدائية والثانوية.

لتكثيف سياسة التتريك، فتح الأتراك مدرسة ابتدائية في الباب أطلقوا عليها إسم “مدرسة الرائد الشهيد بولنت البيرق” تيمّناً باسم ضابط في الجيش التركي قُتِل أثناء القتال في المدينة. مدرسةٌ أخرى في بلدة تل أبيض سُمِّيَت “ربيع السلام”، وافتتحت مدرسة ثالثة باسم “مدرسة أنقرة” في رأس العين. في عفرين، افتتح الأتراك مدرسة ثانوية إسلامية على غرار مدارس الإمام الخطيب التركية المثيرة للجدل، والتي تُدرّب الأئمة. وافتُتِحَت مدرسة ثانوية أخرى في جرابلس وسُمِّيت على اسم “أحمد تورغاي إمامجيلر”، نائب حاكم مدينة غازي عنتاب التركية. وقد تمّ ذلك بمساعدة منظمة “الأيدي المسلمة” الباكستانية غير الحكومية ومقرها المملكة المتحدة، وهي مجموعة تُعرّف عن نفسها على أنها منظمة “إغاثة وتنمية”.

خطوةٌ أخرى في مجال التعليم هي منظمة “بيت السلام” الباكستانية. الوكالة الإسلامية ومقرها كراتشي، والتي تقول إنها تُركّز على التعليم والوعظ، هي عضو في اتحاد المنظمات غير الحكومية في العالم الإسلامي، وهو وكيلٌ ل”حزب العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا. في آذار (مارس)، افتتحت المجموعة مدرسة في رأس العين في احتفالٍ حضره حاكم محافظة “سانليورفا” (أورفة)، عبد الله إيرين. في آب (أغسطس) الماضي، دشّنت منظمة “بيت السلام” بالتعاون مع مديرية الشؤون الدينية التركية، مشروعاً سكنياً في بلدةٍ بجنوب إدلب يضم مدرسة ومسجداً. في كانون الأول (ديسمبر) 2019، إفتتحتا معاً مدرسة ابتدائية في إدلب سُمِّيَت مدرسة عبد الحميد الثاني، الذي كان السلطان الرابع والثلاثين للإمبراطورية العثمانية. قبل عام، افتتحت “بيت السلام” تسع مدارس في إعزاز بالتعاون مع وكالة رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ التابعة للحكومة التركية (آفاد). في المجموع، تعمل الآن أكثر من مئتي مدرسة دينية في المناطق التي تُسيطرُ عليها تركيا.

في التعليم العالي، إفتتحت جامعة غازي عنتاب ثلاث كليات: كلية التربية في عفرين، وكلية الاقتصاد والعلوم الإدارية في الباب، وكلية العلوم الشرعية في إعزاز، بالإضافة إلى المعاهد العليا في جرابلس، بما فيها معهد للغة التركية ومدرسة مهنية. تسمح الكليات للطلاب السوريين الذين يرغبون في مواصلة تعليمهم في تركيا إجراء امتحان اللغة التركية (YÖS) في مراكز عبر المناطق التي تسيطر عليها تركيا. وقد افتتحت جامعة حرّان، ومقرها في “سانليورفا”، فرعاً لها في مدينة الباب في حزيران (يونيو) 2018 لتوفير التعليم في ستة أقسام بناءً على منهج تركي.

في الراعي، بناءً على مرسوم وقّعه أردوغان أُنشئت كلية الطب والمدرسة المهنية للخدمات الصحية، المُرتبطة بجامعة العلوم الصحية في اسطنبول. من خلال هذا المرسوم، يُمارس أردوغان سلطته على المناطق التي لا تخضع رسمياً للسيادة التركية. بالإضافة إلى ذلك، تقدم المنظمة غير الحكومية الإسلامية المتطرفة في تركيا، “مؤسسة حقوق الإنسان والحريات والإغاثة الإنسانية”، الدعم المالي واللوجستي لجامعة الشام الدولية في إعزاز التي تضم خمس كليات، بما فيها الشريعة والقانون. في الآونة الأخيرة، تم افتتاح مركز الأناضول الثقافي – الذي يدّعي الترويج للثقافة الأناضولية والتركية – في عفرين وإعزاز. وقد شارك ثلاثة آلاف طالب وطالبة في امتحانات في العام الفائت.

تَغييرُ الأسماء وإعادة كتابة التاريخ

إن وجود تركيا على الأرض واضحٌ ولا لبس فيه. ترفع الدوائر الحكومية والرسمية العلم التركي فوق مبانيها، وتُزَيِّن الجدران بصور أردوغان. في حين أن أسماء الأقسام والمؤسسات مكتوبة باللغتين التركية والعربية، فإن النسخ التركية هي بحجمِ خطٍّ أكبر من العربية.

جرى تتريك أسماء الساحات والحدائق والمدارس. وهكذا تحوّلت ساحة السرايا في عفرين إلى ساحة أردوغان؛ وصار إسم دوار “كاوة الحداد” دوار “غصن الزيتون”، وأصبحت الحديقة العامة في إعزاز الآن حديقة الأمّة العثمانية. كما لم تسلم أسماء المدن والقرى من التتريك. قرية قسطل مقداد بالقرب من عفرين تُسمّى الآن سولجوك أوباسي، وقد تم تغيير اسم قرية كوتانا إلى ظافر أوباسي. وتشير وسائل الإعلام التركية الرسمية إلى الراعي باسم كوبانبي، وهو الاسم العثماني القديم.

يؤكد المسؤولون الأتراك أن المنطقة التي يُسيطرون عليها كانت ذات يوم جُزءاً من الإمبراطورية العثمانية، مُمَهِّدين بذلك الطريق لمزيد من الإجراءات الصارمة. على سبيل المثال، تُكرّر الدوائر السياسية والإعلامية التركية باستمرار أن “الباب” كانت مملوكة لعبد الحميد الثاني. في آب (أغسطس) 2017، قال حفيده، أورهان عثمان أوغلو، أن لديه صكّاً يُثبتُ أن مناطق في شمال حلب والباب تخصُّ عائلته وتعود ملكيتها إليها.

في تموز (يوليو) 2018، أعلنت تركيا عزمها على تحويل منزل في بلدة راجو، شمال غرب عفرين، إلى متحفٍ لأنه استخدمه مؤسّس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، خلال الحرب العالمية الأولى. وأكدت أنقرة أن عفرين نفسها كانت لا تزال تحت الإدارة التركية حتى نهاية العام 1921 (بعد عام من تشكيل سوريا الانتدابية) وأن القبائل التركمانية استقرّت في المدينة منذ القرن الحادي عشر. وصرّح وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، الذي قام في أيار (مايو) من العام الماضي بزيارةٍ غير مسبوقة إلى الراعي، بأن شمال سوريا هو “جزءٌ من الوطن التركي وفقاً لميثاق الملّي (الميثاق الوطني التركي) لعام 1920”.

على مدى العقود الماضية، تلاعب الأتراك بالتاريخ والسياسة بالمثل. حالةٌ نموذجية هي حالة سنجق الإسكندرون، الذي كان في السابق جُزءاً من الانتداب الفرنسي على سوريا وهو الآن جُزءٌ من تركيا يُسمّى هاتاي. في العام 1936، قدّرت مفوضية فرنسية عليا عدد الأتراك في السنجق بنسبة 39 في المئة من إجمالي السكان (85,800 من أصل 222,000).

سعت تركيا بلا كلل إلى ضم الإسكندرون، وأعربت فرنسا عن أملها في أنه من خلال تشجيع الضم، سيؤدي ذلك إلى إبعاد الأتراك عن تحالفٍ مُحتَمَل مع ألمانيا النازية. كان أتاتورك قائد القوات المسلحة التي كانت تسيطر على المنطقة مع اقتراب الحرب العالمية الأولى من نهايتها، وأصرّت أنقرة على أنه ينبغي أن تظل داخل الحدود التركية.

في العام 1937، احتفظ السنجق بمكانةِ منطقةٍ مُتمَيِّزة عن سوريا، ليتم إعلانها “دولة هاتاي” في العام 1938 تحت إشرافٍ فرنسي وتركي مشترك. في العام 1939، بعد استفتاءٍ مُثيرٍ للجدل، صوّت المجلس التشريعي في هاتاي على حل الدولة والانضمام إلى تركيا. خلال تلك السنوات، تم التطهير العرقي المنهجي للعرب والأرمن في السنجق بالتوازي مع نقل عشرات الآلاف من الأتراك لتسجيلهم كمواطنين وناخبين.

مثالٌ آخر هو الغزو التركي لشمال قبرص، بدعوى حماية الأقلية التركية في الجزيرة. بعد ثلاثة أشهر من الغزو في تموز (يوليو) 1974، تم إنشاء إدارة حكم الأمر الواقع في المنطقة الشمالية باسم “الإدارة القبرصية التركية المستقلة”. في العام التالي، بدأت أنقرة استراتيجية على مراحل وأعلنت المنطقة “الدولة التركية الإتحادية لشمال قبرص”، ثم أخيراً، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1983، ما يسمى بـ “جمهورية شمال قبرص التركية”. غضّ الغرب الطرف عن احتلال منطقة أوروبية على أساس أن أنقرة كانت حيوية في مكافحة انتشار الشيوعية في المنطقة. وهذا الأمر ترك الجزيرة مع آخر عاصمة مُقَسَّمة في العالم.

وماذا بعد؟

حتى الآن، تعمل المناطق الخاضعة للسيطرة التركية في سوريا “كخطِّ ترسيمٍ” بين تركيا والأراضي التي يُسيطر عليها نظام الأسد. لم يتم اعتبارها رسمياً بعد أراضٍ تركية، لكنها في الوقت نفسه لم تعد تابعة لدمشق.

قد يكون الهدف النهائي لاستراتيجية التغيير الديموغرافي لأنقرة هو جعل المناطق التي تسيطر عليها تركيا امتداداً طبيعياً لجنوب تركيا. يمكن أن تتمثّل خطتها المستقبلية في تجنيس مئات الآلاف من المستوطنين واستخدام أصواتهم في استفتاء يزعم أنه يُعطي للسكان المحليين خيار تقرير المصير وما إذا كانوا يريدون أن يصبحوا جُزءاً من تركيا.

يُمكن للرئيس التركي أن يُعزّز هذا المشروع من خلال نقل اللاجئين السوريين في جنوب تركيا إلى شمال سوريا. هناك حوالي 1.5 مليون من هؤلاء اللاجئين، ومعظمهم من العرب السنّة، يقيمون عبر الحدود مباشرة، وأكثر من 100,000 منهم أصبحوا مواطنين متجنسين في السنوات الأخيرة. وتُشيرُ التقارير الاستخباراتية أيضاً إلى أن أنقرة قد تُفكّرُ في توطين المغتربين الأتراك من دول آسيا الوسطى، والأويغور الصينيين، واللاجئين الأفغان في تركيا وباكستان، وربما المواطنين الأتراك في سوريا.

إذا تحقّق هدف تركيا فستحصل على هَدَفيَن بسعرٍ واحد. كهدفٍ بعيد المدى، سيخلق المواطنون الجدد، الذين سيكونون من العرب السنة والترك، توازناً ديموغرافياً مع الأكراد، الذين يمثلون المجموعة العرقية المُهيمنة في جنوب شرق تركيا. خلال حملته التي استمرّت عقوداً ضد حزب العمال الكردستاني، شرّد الجيش التركي ملايين المدنيين الأكراد وأُخلِيَت آلاف القرى الكردية من سكانها. كانت تركيا تخشى على الدوام من أن يؤدي التطلع إلى الحكم الذاتي بين أكراد سوريا إلى توجّهات مماثلة بين نظرائهم في تركيا.

لسنواتٍ عديدة، منح الغرب الأتراك مظلة ديبلوماسية لأفعالهم. أعطاهم الضوء الأخضر لاحتلال سنجق الإسكندرون وشمال قبرص كحافزَين لمواجهة النازية والشيوعية. اليوم، قد تحل أنقرة المشاكل التي خلقتها بنفسها من خلال فرضِ كبح جماح التطرّف الإسلامي مع وقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا عبر منطقة عازلة في شمال سوريا – وهي منطقة من المحتمل أن تذوب في تركيا عاجلاً أم آجلاً.

على جدران المناطق االتي تحتلّها في سوريا، كُتبت عبارة “جماعة الإخوان المسلمين بلا حدود” باللغتين العربية والتركية. السؤال ليس ما إذا كانت الدولة التركية تسعى إلى ضم شمال سوريا، بل متى؟

  • رؤوف بَكِر هو صحافي وباحث متخصص في شؤون أوروبا والشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى