ڤان غوخ عاشقًا فاشلًا
هنري زغيب*
غالبًا ما تنعكس سيرةُ الرسام مزاجًا وعاطفةً على مسيرته الفنية خُطُوطًا وأَلوانًا ومواضيع. كذا كانت حال ڤنسنت ڤان غوخ (1853-1890).
تاعسًا عاش حياته، وتَعِسًا أَنهاها. عرف علاقات نسائية لكنه لم يعرف الحب. وفي بعضها صدمه صَدُّهُنَّ بقسوة. كان اختياره النساءَ خارج المـأْلوف. فهو نشَأَ في البيت تحت سلطة والد قسيس پروتستانتي متعصب حازم، فعاش ممزَّقًا بين احترامه النساء عفيفًا عاجزًا عن بلوغهن، وحاجته إِلى عاطفة حميمة مع امرأَة لا تستقوي عليه. وتصدف أَنَّ مَن عرفهنَّ وأَحبَّهُنَّ كنَّ أَكبر منه سنًّا.
أَولُ ثلاث نسوة قاربهُنَّ كنَّ: كارولين (سنة 1872)، أُوجيني لْوَايـيـه (سنة 1873)، كورنيليا ڤوس سْتْريكِر (سنة 1881)، وإِذ هو مولود سنة 1853 كان في التاسعة عشرة حين قارب أَول امرأَة. وثلاثتهنَّ صَدَدْنَه.
كارولين سْتْريكِر:
كانت وشقيقتها آنّيت نسيبَتَيه من جهة أُمّه. ما إِن قارب كارولين حتى صدَّتْه وما لبثَت أَن تزوَّجت شابًّا من أَصدقائها، فيما آنّيت أَصبحت صديقة شقيقه الأَصغر تيودورُس (تِيُو) الذي اتفق معها على الزواج لكنها مرضَت فترةً وتُوُفِّيَت.
أُوجيني لْوَايـيـه:
كانت أُوجيني في التاسعة عشرة حين عرفها. وهي ابنةُ مديرِ مدرسة للصبيان ومالكِ البيت الذي استأْجر فيه غرفةً حين كان يعيش في لندن سنة 1873 يتدرَّب لدى “مؤَسسة غوپِـيل لتسويق الأَعمال الفنية”. عاش معها صداقة عفيفة لكنَّ أُوجيني كانت على علاقة سريّة مع صموئيل بلومان مستأْجِرِ الغرفة قبل ڤان غوخ. وحين اكتشف الحبَّ بين أُوجيني وعشيقها سقَط في حزنٍ فاجعٍ خلخَلَ مزاجه وحياتَه وراحت تَصدُر منه تصرفات غريبة.
كورنيليا (كي) سْتْرِيكِر:
هي أَيضًا نسيبةُ ڤان غوخ )ابنة خالته). تكبره بسبع سنوات، ولها ولد. عقدَ علاقةً معها بعد وفاة زوجها. حين تقرَّبَ منها أَكثر وعرَض عليها الزواج صعَقَتْهُ بجوابٍ حادّ: “لا. أَبدًا. مستحيل”. لكنه لم يرتدع ولا انكفأَ عن إِعادة المحاولة مع أَن عائلته وعائلتها كانتا تعارضان هذا الزواج. سافر إِلى أَمستردام وقصد بيتها. كان الجميع إِلى المائدة وقتَ الغداء إِلَّا هي. تكلَّم مع أَبيها جوهانس پاولوس سْتْريكِر فكان جوابه حازمًا كذلك: “إِبتعِد عن ابنتي”. وغادر الفنان المدينةَ مكسُورَ الخاطر حزينًا.
كلاسينا ماريا المطرودة:
يَثْبُت من سيرة ڤان غوخ أَنه كان دومًا ينجذب إِلى “نساءٍ يُدينُهنّ رجالُ الدين بقسوة، ويُحَقِّروهنَّ ويَطردُوهنَّ من المواعظ الدينية مُتَّهِمينَهُنَّ بالفسق والعهر والفجور”، كما كتب في إِحدى رسائله إِلى شقيقه تيو. وبالفعل ارتبط سنة 1882 بعلاقة مع كلاسينا ماريا هورنيك (1850-1904) وهي بغيٌّ صادفها في الشارع، لها طفلة وكانت حبلى. رفضَتْها أُسرته فعاش معها بكتمانٍ نحو سنة ونصف السنة. لكن علاقته بها كانت مضطربة جسديًّا وعاطفيًّا تتقاذفها المشاكل بينهما. حين رأَتْه منصرفًا كلِّيًّا إِلى رسْمه ولوحاته عادت سيان (كلاسينا) بضغط من أُمها إِلى مزاولة البغاء كي تُؤَمِّن معيشتها. وبضغط من أُسرته تخلَّى عنها وعن ولديها وانصرف عن فكرة الزواج منها. وانتهت منتحرةً غرقًا في نهر شِلْتْ سنة 1904.
مارغو ذات الهلْوسات:
سنة 1884 الْتحق ڤنسنْت بأَهله في نْيُونِن (غربي هولندا). هناك تعرَّف بجارته في الحي مارغو: السيدة مرغريتا بيغيمان (1841-1907). ومع أَنها كانت تكبره باثنتَي عشرة سنة رضيَت بالزواج منه لكن شقيقتَها اعترضت على الزواج لأَن مارغو تعاني من نوبات عصبية غريبة ومخيفة. وبالفعل،كانت ذات يوم من أَيلول/سپتمبر 1884 تمشي وإِياه فأَصابتها نوبةُ هلْوَسَةٍ مفاجئَةٌ جعلَتْها تقول له إِنها حزينةٌ لسماعها وشايةً تتَّهمها بالتعرُّض للاغتصاب. قالتها وسحبَت من جيبها قارورة سُمٍّ كي تتجرَّعه وتنتحر. خاف عليها وعاد بها إِلى البيت، وكانت تلك الحادثة إِيذانًا له بأَن يتخلَّى عن فكرة الزواج منها. بعد سنوات، وكان ڤنسنت انتقل إِلى فرنسا، سأَل عنها شقيقه تيو في رسالة إِليه فأَجابه أَنها تزوَّجت من نسيب لها. وفي رسالة لاحقة إِلى تيو (سنة 1889) كتب إِلى تِيُو أَنها اشترت لوحتين من أَعماله.
غوردينا آكلةُ البطاطا:
في نْيُونِن أَيضًا ارتبط بعلاقة مع غوردينا دو غْرُوتْ، ابنة مزارع معروف في المدينة. بعد فترةٍ بان حَمْلُها فتهامس الجميع في المدينة أَن ڤنسنت والد الجنين. لكنه أَنكر ذلك ولاحقًا تبيَّن أَنه فعلًا لم يكن. غضبَ كاهن الرعية من تلك الوشوشات فوَعَدَ بدفع مبلغ من المال لمن يرفُضن أَن يكنَّ موديلًا لڤنسنت. وهو وضع في نْيُونِن نحو 200 لوحة، أَشهرُها لوحته “آكلو البطاطا” (1885) وفيها (إِلى اليمين) تظهر غوردينا “بأَنفها البارز وشفَتَيها الغليظتين” كما كتب في إِحدى رسائله إِلى شقيقه تِيُو.
أُغوستينا صاحبة المطعم:
كثُر اللغط حول العلاقة بين ڤنسنْت بأُغوستينا سيغاتوري صاحبة مطعم “الطبلة” في پاريس (بولڤار كْليشِي). امتدت تلك العلاقة من كانون الأَول/ديسمبر 1886 حتى أَيار/مايو 1887. وهي كانت موديلًا لأَكثر من رسام، بينهم كورو ودولاكْرْوَى ومانيه. ويذكر صديقه الرسام پول غوغان أَن ڤنسنت كان مولَعًا جدًّا بأُغوستينا لكنها كانت منصرفةً عنه بمشاكل كثيرة. ويُضيف غوغان أَن أُغوستينا كانت تقدِّم له وجبات مجانية لقاء لوحاتٍ معظمُها طبيعةٌ صامتة وزُهُور. وهي نظَّمت في مطعمها أَول معرض له في پاريس (1887) وكانت آخرَ امرأَة في حياته العاطفية. فبعد تَوَالي العلاقات العاطفية الفاشلة، انتقل إِلى آرْلْ سنة 1888 وانصرف إِلى الرسم ومعاشرة الغانيات حتى كان 29 تموز/يوليو 1890 يوم أَطلق النار على بطنه وتوفِّي بعد يومين آخذًا معه آخر خيباته، كما ورد في مقالٍ لي سابقٍ (“النهار العربي” – 28 أَيار/مايو 2021) والذي ختَمْتُه بآخر كلمات قالها لشقيقه تِيُو وهو يحتضر: “لا تتَّهموا أَحدًا. أَنا شئْت أَن أَنتحر فأَظل أَنزف حتى أَموت”. وحتى اليوم لم ينكشف سبب موته، وقد لا ينكشف، إِنما – برغم خلله العقلي الذي أَدَّى إِلى موته – ستبقى ساطعةً عبقريتُه الفنيةُ بما أَطلعَتْ ريشتُه من روائع خالدة على الزمان”.
ولعلّ فشلَه في الحب برغم تعدُّد علاقاته العاطفية، انعكس في لوحاته انصرافًا انطباعيًّا إِلى رسم الطبيعة، على قتامةٍ صَبَغَت معظم أَعماله في معظم مراحل حياته القصيرة (37 سنة).
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.