مُذَكَّرات محمد فايق مُهَندِسُ الإعلام الناصري، (الأخيرة)، عن لبنان: أخفى القبيحَ وأظهرَ الحَسَنَ

صدرَ عن “مركز الدراسات العربية” في بيروت في تموز (يوليو) 2023 كتاب مذكرات محمد فايق وزير الإرشاد القومي (الإعلام) في مصر في عهد جمال عبد الناصر بعنوان “مسيرة تحرر”.

غلاف كتاب مذكرات محمد فايق “مسيرة تحرّر”.

سليمان الفرزلي*

كانَ الوَسَطُ الصحافي اللبناني، خلال الحقبة الناصرية، يعرفُ مدى اهتمام جمال عبد الناصر بما تنشره صحف بيروت، وكان الملحق الصحافي المصري في العاصمة اللبنانية، أنوَر الجمل، أنشط إعلامي في العاصمة اللبنانية، بين جميع المُلحَقين الآخرين، عربًا وأجانب. كانَ لأنوَر الجمل حضورٌ، وكان له نفوذٌ، وكان له أسلوبٌ مُتَمَيِّزٌ في العلاقات العامة. طبعًا، كان رأسماله الأوّل الدعوة الناصرية، لكنَّ الدعوةَ على أهمّيتها، تَلزَمُها دعاية أيضًا، والدعايةُ يَلزَمُها مال، فكانَ أنوَر الجمل يُنفِقُ على الدعاية بمقدارٍ قليل لأنه لم يكن بتصرّفه مال كبير، بينما أصحاب المال الكبير كانوا ينفقون عن سعةٍ ومن غير طائل.
لسنواتٍ عديدة بقي أنور الجمل على المسرح الإعلامي اللبناني النجم الأول. ومع أنه بقي في الخدمة خلال عهد أنور السادات، فقد أفل نجمه لأنَّ الدعوة الساداتية كانت ممجوجة وغير مُقنِعة من جهة، ولأنَّ الدعاية بالمال الكبير انتقلت مصادرها إلى أهل البترودولار.
بل إنَّ الدعوةَ والدعايةَ الناصريتَين، في أواسط الستينيات من القرن الماضي، ضعفتا كلتاهما عندما دعا عبد الناصر إلى مؤتمر القمة الأوّل في القاهرة (بين 13-17، كانون الثاني/يناير 1964)، تحت شعار وحدة الصف العربي. وهنا تنفست الصحافة الناصرية في بيروت الصعداء لأنَّ بعضَ أصحاب الصحف اللبنانية المحسوبين على عبد الناصر اشتاقَ إلى المال الكبير، فاتَّخذَ من وحدة الصف معبرًا إلى الصف الآخر. وأذكرُ عندما كنت أعمل في دار الصياد في العام 1964، كان عميد الدار الراحل الأستاذ سعيد فريحة في مكتبه، وقد بلغه نبأ دعوة عبد الناصر إلى مؤتمر القمة، فمررت به بمَحضِ المصادفة فوجدته يكاد يرقصُ طربًا لذاك الخبر، وقال لي: “لقد انتظرتُ هذه اللحظة طويلًا. لو لم يدعُ عبد الناصر إلى هذا المؤتمر، لكنتُ أنا سأفعل ذلك”.
وفي محطّاتٍ عديدة من مذكراته، يذكر محمد فايق وقائع، لا أهمّية لها في السياق العام للمواضيع الأساسية، غايتها إظهار مدى اهتمام جمال عبد الناصر بالشؤون اللبنانية. ويؤكد محمد فايق، ما كُنّا نعرفه في الوسط الصحافي اللبناني من أنَّ عبد الناصر كان يحرص على قراءة الصحف اللبنانية كاملة كلَّ يوم، وكانت تصله كلَّ يوم. كان يقرأ الجرائد اللبنانية بنسخها الورقية المُباعة في الأسواق، وليس من خلال التقارير أو الخلاصات المختصرة.
ففي المقطع الرابع من الفصل التاسع بعنوان “عبد الناصر والصحافة اللبنانية” يقول محمد فايق إنَّ الإعلام عند عبد الناصر كان هواية، ويضيف: “وبالتالي كان على وزير الإعلام أن يكونَ أكثر مُتابعة، ولم يكن الأمر سهلًا في الأيام الأولى لتوليَّ وزارة الإعلام”. ويقول فايق إنَّ الرئيس عبد الناصر كان يتّصل به هاتفياً نحو الساعة الخامسة مساءً ويتحدث عن الصحف اللبنانية، فيسأل على سبيل المثال: “هل قرأت عمود ميشال ابوجودة؟ فأجاوب بالنفي، فيقول لي إقرأه لأنه مُهِمّ. هل قرأتَ مقالة فلان؟ فأجاوب بالنفي، فيقول هذه المقالة تحتاج إلى الردِّ عليها”، إلى درجة أنَّ الوزير محمد فايق اعترفَ في مذكراته بأنه شعرَ بالتقصير وهو يجاوب بالنفي، إلى أن اكتشفَ أنَّ الصحف اللبنانية تصل إلى عبد الناصر يوميًا كاملة، بينما هو كان يقرأ خلاصات عنها لا وجود فيها لما يهتم به الرئيس. وقد اضطرَّ محمد فايق إلى إجراءِ ترتيبٍ يمكنه من الحصول على الصحف اللبنانية قبل وصولها إلى الرئيس. ويقول بعد وصول تلك الصحف إليه: “وفي أول يوم وجدتُ أنَّ قراءةَ الصحف اللبنانية تحتاج إلى وقتٍ كبير، فهي كثيرة جدًا، وبدأتُ أتساءل: لماذا الصحف اللبنانية؟ وكيف يستطيع الرئيس قراءة هذا الورق كله؟”.
وقد أبلغني أحد الزملاء أنه كان ضمن وفدٍ صحافي زار الرئيس عبد الناصر ينقدمه رياض طه نقيب الصحافة الراحل، وكان محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير جريدة “الأهرام” حاضرًا، فقال له عبد الناصر: “بص يا أستاذ هيكل وشوف الصحافة اللبنانية كلها شباب إزّاي”.
والمعروف أنَّ عبد الناصر كان يمحض رياض طه ثقته ومحبته، إلى درجة أن اصطحبه معه إلى اجتماع توقيع اتفاقية الوحدة بين مصر وسوريا، فكان الوحيد الذي وقف وراء عبد الناصر، وهو ليس مصريًا وليس سوريًا.
ولم يقتصر الاهتمام بلبنان على الصحافة والصحافيين، بل شمل أيضًا الفنّ والفنانين. وفي تقديم كتاب مذكرات محمد فايق يقول كاتب التقديم، أحمد يوسف أحمد، باعتزاز أنَّ أول عمل قام به محمد فايق بعد تعيينه وزيرًا للإرشاد القومي هو استقباله للسيدة فيروز في مكتبه. وفي مكانٍ آخر من الكتاب نشر محمد فايق صورته مع فيروز في مكتبه، وكتب عنوان الصورة رقم 18 “محمد فايق مع الفنانة الكبيرة فيروز في أول مقابلة له بعد تعيينه وزيرًا للإرشاد القومي – أول أيلول/سبتمبر 1966”.
بل إن عبد الناصر نفسه كان له مثل هذا التوجّه. وفي هذا يقول محمد فايق، إنه كان أول وزير مصري زار دمشق بعد الانفصال، وإنه قبل مغادرته العاصمة السورية، أرسل في طلب الفنانة اللبنانية الكبيرة صباح، لأنه قبل ذهابه إلى دمشق قابل الرئيس عبد الناصر للوقوف على أيِّ توجيهات مُعيَّنة، فكان الأمر الوحيد الذي طلبه منه هو أن يحاول إعادة الفنانة صباح وحل مشكلاتها، حيث إن “بتوع الجمارك طفّشوها” كما نقل عن لسان الرئيس. وعبَّرت صباح عن فرحتها وامتنانها بهذه الرسالة، وعادت إلى القاهرة لتتألقَ من جديد، كما كانت دائمًا، على حدِّ قوله.
هذا هو الوجه الحسن من الرأي الناصري عن لبنان. أما الوجه الآخر المعتم والذي ليس بالحَسَن، فلا يقاربه محمد فايق لا من قريب ولا من بعيد. ويجدر هنا إعطاء محمد فايق “منفعة الشك”، على قول الإنكليز، لأنه قبل تعيينه وزيرًا للإرشاد القومي، كانت له مهام كثيفة خارج مصر، خصوصًا في إفريقيا، ولم يكن على تماس مع مجريات الأمور في لبنان.
ففي العام 1958، بدأت الأجهزة الأمنية الناصرية في سوريا حملة تدخُّل كثيفة في لبنان، جرى خلالها اغتيال الصحافي المعروف الأستاذ نسيب المتني، وبهذا الحادث انطلقت “الثورة” ضد الرئيس كميل شمعون بتسليحٍ سوري، وسبق ذلك تأليب متواصل للمعارضة بحجة منع كميل شمعون من تجديد ولايته، وباتهامه بأنه ينوي الدخول في حلف بغداد. وقد كانت حملات عبد الناصر السياسية والإعلامية ضد حكم نوري السعيد في بغداد شديدة للغاية، بحيث أسهم ذلك في إطاحة النظام الملكي الهاشمي هناك، وإعلان النظام الجمهوري مكانه، مما دفع الولايات المتحدة إلى إنزال قوة كبيرة من مشاة البحرية (المارينز) على شاطئ الأوزاعي في الضاحية الجنوبية من بيروت.
وعندما تسلّم العاهل السعودي فيصل بن عبد العزيز الحكم، بعد إبعاد شقيقه الملك سعود بن عبد العزيز، عام 1964، عكف على إقامة حلف إسلامي مضاد لعبد الناصر، وقد تولى الصحافي اللبناني كامل مروة، صاحب جريدة “الحياة”، مهمّة الترويج لهذا الحلف، ما أدّى الى اغتياله في مكتبه يوم 16 أيار/مايو 1966، من قبل شخص ينتمي الى تنظيم ناصري لبناني. وتندَّر بعض اللبنانيين يومئذ بالزعم أن برقية تعزية بوفاة كامل مروة وردت من القاهرة، قبل حدوث الاغتيال!
لعلَّ محمد فايق لم يكن على علم بكل ذلك، لأنه لم يتم تعيينه في منصب وزاري إلّاَ في شهر أيلول/سبتمبر 1966، أي قبل أربعة أشهر من اغتيال كامل مروة. ولهذا لم يتطرّق إلى ذلك في مذكراته، أو على الأرجح لم يكن على علم بكل ما جرى في تلك الحقبة من التوتر العام في لبنان والمنطقة، لأنه لم يكن في دائرة اهتماماته الرسمية في ذلك الوقت.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى