لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (47): الدُستورُ الهَجِين!

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

الرئيس رينيه معوّض: إغتياله أدّى إلى القضاء على “الاستقلال”، وعلى “المصالحة الوطنية الحقيقية”، وترسيخ “الوصاية السورية”.

سليمان الفرزلي*

يوم ذكرى الاستقلال (22 من تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1989)، اغتِيلَ اثنان في لبنان: رينيه معوَّض، أول رئيس للجمهورية، بعد ما سُمِّي “السلم الأهلي”، و”اتفاق الطائف”، الذي وضع قواعده ونُظُمه.

لقد أدّى هذا الاغتيال إلى القضاء على “الاستقلال”، وعلى “المصالحة الوطنية الحقيقية”، ورسَّخَ، بموافقةٍ دولية، “الوصاية السورية”، ليبدأ معها، وبإشرافها ورعايتها، حُكم “أمراء الحرب”.

صار الدستور، بعد هذا الواقع المُستَجِّد، وكأنه لزومُ ما لا يلزم. تجاوزوه، وصاغوا مصطلحات هجينة على علم القانون الدستوري، لتفسير مضامينه، ومراميه، على هواهم، وما يخدم مصالحهم، ويُثَبِّتُ تحكّمهم وتسلّطهم، مثل “الميثاقية”، و”الديموقراطية التوافقية”، فادخلوا البلاد، تحت “حُكمِ الأمر الواقع”، في أزماتٍ مُتواصلة، مفتوحة على المجهول، الذي سمُّوه مرة “الوحي”، ومرة “كلمة السر”، ومرات “الحوار للتوافق”… مع العلم أنَّ الدستورَ وُضِعَ في الأصل، لتنظيم الحياة السياسية، واستقامتها، ولإلغاء كل “الفذلكات” اللادستورية.

إدمون رباط، أبو القانون الدستوري، اعتبرَ أنَّ “الميثاقَ وُجِدَ كوظيفةٍ في خدمةِ الهَدَفِ الدستوري، وعليه أن يؤَدِّي إلى الاندماجِ الوطني الذي يمتصُّ الخصوصيَّات الدينية، والمناطقية، ويُغذِّي الحس الوطني، المُندَفِع إلى قيامِ الدولة-الأُمَّة”.

إنَّ أيَّ مُقارَنةٍ بين ما قال إدمون رباط، وبين ما يجري في لبنان تُظهِرُ، منذُ عقودِ الوصاية بعد “الطائف”، أنه ليس دولة دستورية حتى في الشكل. بل هو يسيرُ عكسَ المسار الذي وصفه الدكتور ربَّاط، سواء بوضع “الميثاق” فوق “الدستور”، أو تطويع الدستور ليكون في خدمة خادمه، والأمثلة كثيرة على ذلك ليس أقلّها التمديد المُتمادي للهيئة التشريعية وللهيئة التنفيذية، أو تسيير الدولة من دون ميزانية لسنواتٍ عديدة، وإصدار ميزانيات بعد فوات مواعيدها الدستورية بأشهرٍ ومن غير “قطع حساب” على ما تقتضي الأصول القانونية المرعية الإجراء.

إنَّ وَضعَ “الميثاق” فوق الدستور يُفسِّرُ الإصرارَ على التمسُّك بنظامِ الحصصِ الطائفية، وعلى رَفضِ مَبدَإِ الاندماجِ الوطني، وإضعافِ الحسِّ الوطني لا تغذيته، وبالتالي منع قيام ما سمّاه الدكتور ربَّاط “الدولة–الأمَّة”. وهذا التوجُّه معروفٌ وموصوفٌ، لأنه ليس هناك حتى الآن، ولم يكُنْ يومًا، مقاومة جَدِّيَّة للطائفية. وحتى في الإطار الطائفي، هناكَ تجاهلٌ تام للأسبابِ الحقيقية لأزمةِ النظامِ الطائفي وأهمُّها الإخلال بالشراكة الوطنية. ولذلك أدَّى هذا التجاهل إلى عدمِ الاكتراثِ حتى بتحسين ذلك النظام نفسه لتكون له مقبولية أفضل في ذهن أتباعه على الأقل، ما جعل القَيِّمين على السلطة الطائفية يستسهلون التلفيق والترقيع، كما شاهد العالم كله ما جرى وما يجري في مواضيع أساسية مثل مشاكل النفايات، والكهرباء، وتلوث المياه والبيئة الطبيعية، والصحة العامة، بما فيها الطبابة والاستشفاء والأدوية، وأخيرًا وليس آخرًا المشكلة النقدية والمصرفية، التي أودت بودائع جميع اللبنانيين.

لقد تُرِكَت المسألة الدستورية مُبهَمة عن عمد، ليستحكم الخلاف حول توزيع الصلاحيات بين المؤسّسات الدستورية، وعن قصد تُرِكَت المُهَلُ مفتوحةً وغير مُحدَّدة، فما عاد بالإمكان إنجاز أيّ استحقاقٍ دستوري في موعده، لا انتخاب رئيس الجمهورية، ولا تشكيل الحكومة، ولا الانتخابات التشريعية أو البلدية والاختيارية، وكذلك الأمر في التعيينات للمناصب الإدارية الشاغرة، وإصدار ميزانية الدولة. بينما، بالمقارنة، نجد أن دولةً عنصرية مُعادية مثل إسرائيل، ومُنقَسمة في داخلها إلى أحزابٍ وفئاتٍ مُتعارِضة ومُتناحِرة، لديها حدود دستورية لتشكيل الحكومة لا تتعدى الثلاثين يومًا فقط، إن فَشِلَ الرئيس المُكَلَّف خلال تلك المدة، يذهب إلى بيته، وإن أخفَقَ المُكَلَّف البديل أيضًا خلال المدة الدستورية عينها، يجري حلُّ البرلمان، ودعوة الناخبين إلى اقتراع جديد بهدف إيجاد سلطة تحظى بتفويضٍ شعبي. وقد جرت لهذه الغاية في دولة إسرائيل أربعة انتخابات عامة في غضون خمس سنوات.

ألغى “اتفاق الطائف” الآلية الدستورية التاريخية لحلِّ المجلس النيابي، فصارَ هذا الحلُّ مُستَحيلًا من خلال مجلس الوزراء، فانعكست الآية: التمديد بدل الحلّ. فالتمديد الذاتي، أو أي تمديد في الوظائف العامة، لا يتماشى مع الدستور والحياة الدستورية، ولو كان قانونيًا في الشكل.

إنَّ الخللَ في ميزان القوة بين الطوائف يُعطّلُ العمل الدستوري، فبعدَ الاستقلال كانت “المارونية السياسية” هي الأقوى في البلاد، فحدثَ خللٌ دستوري عندما عُدِّلَ الدستور في سنة 1948 لمنح الرئيس بشارة الخوري ست سنوات أخرى في الحكم. ومنذ ذلك الوقت أصبح الكيان اللبناني عرضةً للاهتزاز، فمالت الحياة الدستورية إلى السلبية، وبات من المُتعذّر تطويرها الى الأحسن، فصار الطريق إلى الأسوَإِ مفتوحًا على مداه وصولًا إلى الحربِ الأهلية وحُكم قادة الميليشيات.

لقد وَضَحَ بما لا يرقى إليهِ الشَكّ، بعد الاختلالاتِ المُتمادية، من “ثورة” 1958، إلى “ثورة” تشرين الأول (أكتوبر) 2019، أنَّ الحياة الدستورية في لبنان لا يُمكِنُ أن تنتظِمَ إلّاَ بتساوي ميزان القوى بين الطوائف المتحاصَّة. وهناكَ على الأقل اثنا عشر عنصرًا ماديًا لقياس القوة الطائفية المُخِلّة بالتوازن الوطني، منها: “التماسك الاجتماعي (شأن البيئة الشيعية الحاضنة للمقاومة)، القدرة على الانضواء تحت قيادة واحدة واضحة الهدف، قابلية الاستنفار والحشد السريع، التحالفات أو الارتباطات الخارجية، الحجم الديموغرافي، حجم مصادر التمويل، الطاقات الفكرية للقيادات السياسية والمرجعيات الدينية، المرونة اللازمة للتحالف مع قوى أخرى أو التفاوض مع قوى محايدة من خارجها، امتلاك وسائل إعلامية مُحصّنة من التفاعل مع مكوّنات البلد الأخرى، القدرة على تفعيل النشاط السياسي والثقافي في الاتجاه الطائفي المتزمت، والديني غير المدني، والجماعة المنغلقة على نفسها غير المنفتحة ديموقراطيًا.

إنَّ الوضعَ اللبناني المُختَل منذ “الطائف”، جعلَ تدخّل قوى خارجية أمرًا حتميًا، وربما ضروريًا، لحلِّ الأزمات الناشئة بين المكوّنات الطائفية الرئيسة. وهذا يعني أنَّ القوى التي يتشكَّلُ منها الأمر الواقع غير مؤهّلة للاستقلال، كما كان الوضع في أربعينيات القرن الماضي. ومَرَدُّ ذلك إلى أنَّ طبيعةَ ارتباط الطوائف بالقوى الخارجية قد تدنّت من مستوى التعاون في الإطار الوطني إلى مستوى التبعية في الإطار الوظيفي. فهناكَ فرقٌ بين أن تكون علاقةُ أيّ فريق داخلي مع الخارج لاعتباراتٍ لبنانية، أو أن تكون لاعتباراتٍ مَصلَحية للطرف الخارجي.

هذا الوضعُ يُعيدُ المسألة اللبنانية إلى أصلها منذ إعلان قيام لبنان الكبير في العام 1920، من حَيثُ كونها تقع في إشكاليةِ الإطارِ الخارجي. ولا بدَّ من طَرحِ سؤالٍ حولَ ما إذا كانَ مشروعُ لبنان الكبير حاجةً استعمارية أجنبية، أم أنهُ مَطلَبٌ وطني لبناني يَستَوجِبُ الخروجَ من دوّامةِ الصراع الإقليمي والدولي، وما يستتبع ذلك من صِيَغٍ وأدواتٍ دستورية جديدة.

لقد عَجِزَ اللبنانيون في تحويلِ منتج سياسي من “صناعةٍ أجنبية” إلى “صناعةٍ وطنية”، فبقي أمرُ حلّ أزماته المُتكرّرة والمُتمادية في أيدٍ غير لبنانية.

لعلَّ الأهمَّ من ذلك أنَّ سلمه الأهلي، كفاصلٍ بين الحروب، هو “سلمٌ سلبي”، حسب تعريف عالم الاجتماع والرياضيات يوهان فنسنت آلتونغ، مؤسس “معهد السلام النرويجي”، الذي عرَّف تلك العبارة بأنها تقتصرُ على انعدام العنف المباشر، بوجود العنف البنيوي، الذي يَحول من دون تحقيق العدالة.

ففي مفهوم آلتونغ، أنَّ غيابَ الحرب فقط لا يعني حلول السلام، لأنَّ هناكَ عُنفًا مُستَتِرًا برداء السلام نابعًا من خلفياتٍ دينية أو ثقافية تحمي وجوده.

من الناحية الدستورية، إذن، من المستحيل أن تنشأ حلولٌ عادلة وثابتة من ضمن الصيغة المُهتَرِئة القائمة في لبنان. ولا يقتصرُ الأمرُ على المسألة الدستورية، بل هناكَ عوامل أخرى مُكَمِّلة، تستدعي المزيد من البحث والمناقشة.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى