هل من جدوى للحوارِ الإسلامي – المسيحي؟

محمد السمّاك*

تتطَلَّب عملية تقييم الحوار الإسلامي – المسيحي النظر إلى هذا الحوار من خلال مرحلتين أساسيتين تفصل بينهما موجة التسونامي من التطرف والإرهاب التي ضربت هذا الحوار وكادت أن تقضي عليه.

قبل هذه الموجة التدميرية العاتية، كان الحوار يجري “مع”. بعد الموجة (وحتى الآن بعد انحسارها)، فان الحوار يجري “عن”.

كنا نتحاور معاً. والمعية هنا تترجم المشاركة التكاملية. وتنطلق من قواعد وطنية وقومية وإنسانية واحدة. وتتطلع إلى مستقبل واحد. كان الحوار يدور حول “كيف”. أي حول الآلية التي تُحقّق هذه المشاركة التكاملية. بمعنى أن الكمال لا يتحقّق بالإنفراد، وانه لا يكون إلّا معاً.

الآن يدور الحوار حول المبدأ. ويطرح تساؤلات مؤلمة ولكنها واقعية. لماذا الحوار اليوم وهو لم يحجب الفتنة بالأمس ولم يمنع الأذى ولم يردع التكفيريين؟ أي جدوى منه اليوم؟ ولماذا نتحاور؟ وعلى ماذا؟ وكيف؟

قبل أن أسترسل في طرح هذه التساؤلات المُقلقة ولكن المشروعة، ونحن في أجواء رحلة الحج التي قام بها قداسة البابا فرنسيس إلى “أور” في العراق مسقط رأس أول أنبياء الله ابراهيم عليه السلام، إسمحوا لي أن أُقدّم المثل التالي وأن أبني عليه منطقي في مقاربة هذه القضية الدقيقة والمهمة جداً:

في الرواية القرآنية، يسأل ابراهيم ربّه قائلاً: ربِّ أرِني كيف تُحيي الموتى؟

يجيبه الله سبحانه وتعالى: أوَلَم تؤمن؟

يردّ ابراهيم: بلى ولكن ليطمئنّ قلبي.

نفهم من هذا الحوار أن ابراهيم عليه السلام، وهو خليل الله وأول رسله، كان لا يزال يُعاني من الشكّ. فقوله حتى يطمئنّ قلبي يعني أن قلبه لم يكن مُطمئنّاً بعد رُغمَ كل مظاهر الدعم الإلهي التي حصل عليها، من إنقاذه من نار المُشرِكين (يا نار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم)، إلى إنجابه إبناً –استجابة من الله لدعائه- وهو طاعن في السنّ وامرأته عاقر (اسماعيل عليه السلام).

لم يردّه الله خائباً، فدعاه الى أن يذبح أربعة من الطير ويُقطّعها إرباً وينثر هذه القطع فوق سفوح التلال المُحيطة به، ثم يقف في الوسط ويدعوها إليه، فتأتي إليه الطيور حيّة مُزَقزقة بإذن الله. بعد هذه المُعجِزة المُرتَّبة إلهياً، لم يتردّد ابراهيم في الإقدام على محاولة ذبح ابنه استجابةً لأمر إلهي، كما تقول المسيحية، أو لرؤيا نبوية، كما يقول الاسلام. ذلك أنه في الحالتين كان ابراهيم مُطمئنّاً إلى أن الله الذي أحيا الطيور سوف يُعيد الحياة إلى ابنه بعد ذبحه. ولكن الله لم يسمح بذبح انسان وهو القادر على إعادة الحياة اليه، ولكنه افتداه بكبش عظيم (بذبح عظيم). ومن هنا تأسست القاعدتان:

  1. إن الإنسان مُكرَّم لذاته الإنسانية.
  2. وإنَّ مَن قَتَلَ نفساً بغير نفسٍ أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً.

وأصبح الأمران متلازمين في كل شرائع السماء: اليهودية والمسيحية والإسلام.

رويتُ هذه الخلفية الدينية – التاريخية لأضيء على واقع الحوار الاسلامي – المسيحي اليوم.

قبل موجة تسونامي التطرف والارهاب التي قتلت أبرياءً من المسيحيين خصوصاً –ومن غيرهم ايضاً- في سوريا والعراق تحديداً، وبعد تدمير الأديرة والكنائس، وبعد تهجير مئات آلاف المؤمنين من أوطانهم ومن مدنهم وبيوتهم، يحتاج الحوار معهم الى مُقاربات جديدة تختلف عن المقاربات التي كنّا نعتمدها قبل تلك الفاجعة المأسوية .

ذلك أن المُتطرّفين الإرهابيين هنا لم يبادروا الى ذبح الضحية فقط، ولكنهم ذبحوها بالفعل. وقطّعوها إرباً. ونثروا أجزاءها هنا وهناك في المهاجر، في مشارق الدنيا ومغاربها. ووقف كبير الإرهابيين في الموصل يُفاخر مُطمئنّاً إلى أن هذه الأجزاء المُقطّعة لن تعود، وأنه لن يدعوها إليه أصلاً.

في قصة ابراهيم، مُعجزة تحقّقت بإرادةٍ إلهية. وفي قصة “داعش” جريمة ارتُكِبَت بإرادةٍ وحشيّة لا إنسانية.

إن الحوار في ضوء الإيمان بالمعجزة الإلهية شيء، والحوار في ضوء مُخلّفات الجريمة الجماعية شيءٌ آخر. كنا نتحاور انطلاقاً من إيماننا المشترك بمستقبلٍ مُشترك يقوم على العيش المُشترك. الآن نحن مدعوون للحوار انطلاقاً من جريمةٍ جماعية ارتُكِبَت أمام أعيننا، والأسوأ والأخطر انها ارتُكِبَت بإسمنا كمسلمين.

يعني هذا أن أسس ومنطلقات وأهداف الحوار اليوم هي –ويجب أن تكون- غيرها بالأمس. وإن المقاربات الحوارية لم تعد كما كانت، بل لا يجوز أن تبقى كما كانت. لا بدّ من قواعد وأسسٍ فكرية ومنهجية جديدة تقوم عليها. لم يحل الحوار في السابق دون الجريمة التي ارتُكبت لاحقاً. من أجل ذلك، فعندما ندعو إلى الحوار اليوم يجب أن نُدرك أن من ندعوه يدرك جيداً أن المُعجزة التي تحقّقت على يد ابراهيم عليه السلام بعودة الحياة إلى الطيور المذبوحة والمُقطّعة والمتناثرة، لم تتحقّق ولا يمكن أن تتحقق إلّا بتدخّلٍ إلهي يُترجمه عمل إنساني. إن مسيحيي الشرق يشعرون أنهم مثل تلك الطيور التي ذُبحت وتناثرت أشلاؤها في مشارق الأرض ومغاربها، وهم الآن مدعوون للعودة إلى الحياة المُشتركة من جديد. إن نجاح هذه الدعوة بالإستجابة إليها هو في مستوى المُعجزة. والمعجزة ليست عملاً إنسانياً، هي إرادة إلهية. وترجمةُ ذلك لا تكون إلّا على أيدي مُؤمنين حقاً بالله وبالحوار الذي دعانا الله إلى اعتماده في حياتنا المُشتركة.

في يقيني أن هناك عملية علمية وإيمانية إسلامية جامعة وجادة تُحاول أن تعكس إرادة إلهية. وتتمثّل في مبادراتٍ إسلامية جريئة وبنّاءة تُشكّل في مجموعها قاعدة وأساساً لإطلاق الحوار الجديد المنشود على الأسس والقواعد الجديدة التي لا بدّ منها لتحقيق المعجزة. من هذه المبادرات:

  • مؤتمر مكة حول تسفيه مقولات التكفير والإحتكار الإيماني والتأكيد على كرامة الانسان وحقوقه.
  • مؤتمر مراكش حول وثيقة المدينة المنورة التي تقول بتعدّد الأديان ووحدة الدولة.
  • مؤتمرات الأزهر الشريف حول المواطنة والمساواة بين المواطنين، وحول الحريات الدينية وإسقاط مقولة الأكثرية والأقلية.
  • مؤتمر عمّان حول الدولة المدنية التي تتماهى مع الإسلام.
  • مؤتمر بيروت (المقاصد) حول المواطنة والعيش المشترك.

إذا أضفنا إلى الأدبيات الجديدة التي أطلقتها هذه المبادرات الإسلامية وغيرها إلى مبادرة البابا فرنسيس والإمام أحمد الطيّب حول الأخوّة الإنسانية، تتوفّر لدينا أدبيات دينية إسلامية جديدة تؤصّلُ لحوارٍ إسلامي – مسيحي ينطلق من أُسسٍ إحيائية جديدة، ويعتمد اسلوباً جديداً، ويتوجّه نحو أهدافٍ جديدة. فالمسلّمات التي قام عليها الحوار في السابق سقطت بين براثن التطرف والغلوّ والإرهاب الذي أفقدها صدقيتها. إن إستعادة الثقة الإيمانية المشتركة بالحوار وبالعيش المشترك تتطلب ترجمة عملية للمبادئ الأصيلة التي نُفض الغبار عنها في الأدبيات الإسلامية الجديدة، تربيةً وثقافةً وتنشِئة، لتكوين جيلٍ جديد مُحصّن بالمحبة واحترام الاختلاف والتعدّد.

كانت مسيرة الحوار تسلك طريقاً ممهداً قليل المنحدرات والمنعرّجات . أما الآن فان الطريق مليء بحفر القلق وعدم الثقة والخوف، وبالكثير من خيبات الأمل وجراحات الألم. وتعترضها مطبات من ركام الأديرة والكنائس ومن بيوت المؤمنين التي هُدّمت، والتي تركت في أعماق ضحاياها جراحات معنوية عميقة لا تندمل بالتجاهل ولا بالتناسي على قاعدة عفا الله عمّا مضى. فالحوار البنّاء لا يقوم على النسيان أو التناسي. ولا حتى على التسامح والمُسامَحة. إنه يقوم أولاً وأخيراً على الحقوق وعلى المساواة في الحقوق والمواطنة التي يرتفع عليها صرح الثقة.

ولذلك اقترحتُ سابقاً وعندما كانت موجة التسونامي الإرهابية في ذروتها التدميرية، إنشاء صندوقٍ إسلامي لتمويل إعادة بناء ما هدّمه المجرمون باسم الإسلام، وبينتُ كيف ان ذلك يتماهى مع وصايا رسول الاسلام محمد عليه السلام، إيماناً مني بأن ذلك يساعد على إزالة الركام النفسي، ويعيد فتح الطريق إلى حوار الحياة المشتركة من جديد.

وفي الحسابات الأخيرة، لا حياة لنا إلّا الحياة المُشترَكة. فالعالم كله في تداخلٍ وتشابك. إلّا أن مجتمعاتنا العربية في تفسّخ وتباعد. لا بدّ من إعادة بناء الجسور والعمل على استعادة الثقة. فالمجرم كان مجرماً ضد الجميع، مسيحيين ومسلمين. وحتى تكون الحياة مُشتركة، وحتى تستمر وتتواصل، لا بد من حوار حياة يُضمّد الجراح ويُعيد بناء الثقة من جديد، ليس على أساس أن قدرنا أن نعيش معاً، ولكن على اساس أن إرادتنا أن نعيش معاً، أخوة متحابّين ولكن متساوين.

إن نفض الغبار الذي تراكم بكثافة فوق العلاقات الإسلامية – المسيحية والذي ازداد كثافة بعد جرائم التدمير المنهجي والتهجير القسري أصبح مُيَسَّراً اليوم ربما أكثر من أي وقت مضى، بفضل أدوات التنظيف والتطهير الفكري والعقائدي التي وفّرتها المرجعيات الدينية الإسلامية، والتي لاقت تجاوباً صادقاً من المرجعيات الدينية المسيحية وبخاصة من الفاتيكان، وهو التجاوب الذي كرّسته وثيقة الأخوّة الإنسانية في أبو ظبي بين البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيب الإمام الأكبر للأزهر الشريف. فالحوار اليوم مطلوب كما في السابق قوة دفع معنوية لمسيرة الأخوّة الواحدة والعيش المشترك. ولذلك فإن الفريقين الاسلامي والمسيحي مدعوّان الى أن يتحوّلا بإرادتيْهما المشتركة إلى فريق واحد … مُختلف ولكنه واحد.

  • محمد السماك هو الأمين العام للجنة الوطنية الإسلامية – المسيحية للحوار، وعضو مجلس إدارة مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى