أُسطورةُ الفلّاح والأميرة

عبد الرازق أحمد الشاعر*

كانت الأسوارُ والأشجارُ الباسقة تحجبان عن عينَيِّ الأميرة الصغيرة نصف أشعة الشمس وشطر الحقيقة. لكنها حين شبّت كشجرة ليلك ناضرة، تمرّدت على حظّها من الهواء، وقررت الخروج على أسوارِ الواقع لتُمارس حقّها الفطري في الجنونِ المُباح، فغافلت حرّاسها وانسلّت عبر كوّةٍ في السور إلى فضاءٍ رحب تتحرّك فيه الرياح بسرعةٍ أكبر، وتتغيّر فيه المشاهد مع كل خطوة. نظرت إلى السهول واتساعها، وإلى الحقول ونضرتها، وإلى الحيوانات في المراعي، وإلى الفلاحين في الحقول، وشهَقت كطفلٍ غادر مستقر رحمه المُكتَظ بالسوائل لأول مرة. سابقت “بيرا” الرياح وداعبت بأطراف أناملها الورود والثمار، وطاردت بنظراتها أسراب العصافير والحمام والحبارى. كانت مفتونة بكل ما تقع عليه عيناها حتى بدا قصرها المنيف أشبه بتابوتٍ لدفن الأحياء.

وفجأة، وقعت عينا “بيرا” على فلّاحٍ بسيط لوّحت الشمس بشرته، وقد شمّر سرواله حتى منتصف ساقيه وربط طرفَي جلبابه حول خصره. كان المشهد عادياً جداً، فالرجل مجرّد فلّاحٍ كآلاف الفلّاحين الذين يتوزّعون على الحقول كأسراب الطائر الحزين ليشهدوا منافع لهم، لكن قَدَمَي الأميرة تسمرّتا أمام فأسه. رفع المسكين رأسه ليشهد ما لا عين رأت ولا أُذُنٍ في الجوار سمعت، وحين تحدّث إليها، ظنّته قديساً أو ملاكاً مُجنّحاً، فأمسك بقطعة من الطين ولوّح بها قائلاً: “مَن أوهمك أيتها الأميرة الطيّبة أن فلّاحاً بلون الطمي يصلح أن يكون قديساً؟” وتآلفت العيون بسرعة، وأطلق كيوبيد سهامه في غفلة من الحالمَين.

وتكرّر الفرار من محيط القصر الخانق، وأصبحت الكوّة في الجدار رئةً وحيدة تتنفس منها الأميرة هواءً حرّاً بدلاً من رئتيها المُعطّلتين. وبدأت الألسنة تتداول قصة الأميرة والفلّاح حتى نمت إلى حرس القصر، فشدّدوا الرقابة عليها، وتمكّنوا من القبض عليها مُتلبّسة بالرغبة الآثمة في ممارسة التمرّد على سلطان القصر وقوانينه. ونقل الحراس الخبر للملكة التي هدّدت “بيرا” بالحرمان من حقوقها الملكية إن هي استمرت في ممارسة خروجها الفجّ مع الفلّاح البدوي الهمجي.

رضخت الأميرة لتهديدات أمها، وتخلت عن جموحها ورغبتها في المغامرة، وقرّرت أن تعود إلى سيرتها الأولى لتُداعب العصافير الحبيسة في أرجاء الحديقة، وتُقدّم الطعام والشراب لقطّتها السمينة صباح مساء، وتكتفي بنصف قرص الشمس ونصف الحياة، لكنها استأذنت أمها أن تعود إلى الفلّاح في الحقل لتُخبره بانتهاء قصتهما إلى الأبد. وبدلاً من تقديم شيء من المواساة لتعزية قدّيسها عن فقدها، ذكّرته “بيرا” بأنه مجرّد فلّاحٍ أحمق، وأنها لو شاءت لاستأجرت الآلاف من أمثاله ليعملوا خدماً لديها في القصر.

لكن آلهة الحب انتقمت من الأميرة شرّ انتقام بمجرد انتهائها من جملتها الأخيرة، بأن حوّلتها إلى شجرة ليلك صغيرة. وما كان من الفلاح الذي وجد نفسه يتحوّل من قديس إلى مخلوق بائس تعس هكذا فجأة إلّا أن حمل الشجرة بين يديه وحفر لها في التراب أخدوداً بعمق جذورها المُتشعّبة، ووضعها بعناية فائقة قبل أن يضع التراب حول ساقها النحيل برقة متناهية. وظل الفلاح يسقي شجرة الليلك كل ليلة، ويزورها كل صباح عسى أن تعود أميرة كما كانت تنبض دفئاً وبشراً ونضارة.

لكن الأسطورة لم تُخبرنا مَن مات أولاً: الشجرة أم الفلاح، لكن المؤكد أن الحلم قد سبقهما معاً.

وتنتهي الحكاية، لكنها تترك آلاف الأسئلة من دون إجابة واضحة. لماذا تركت الآلهة كوّة في جدار الحديقة وهي تعلم أن الشيطان يدخل دوماً عبر التفاصيل، ويخرج عبرها أيضاً؟ أم أن الكوّة كانت كتفّاحة آدم التي أخرجته من الجنّة ليشقى؟ ولماذا قادت الآلهة أقدام الأميرة نحو الحقل وهي تعلم أن التقاء الهاربَين من سلطان الواقع يُنذر بتمرّد وخيم على سلطان البلادة؟ ولماذا قست في حكمها على الأميرة إلى هذا الحد؟ ألم تكن الأميرة تتوق هي الأخرى إلى البقاء مع الفلّاح أكبر وقت ممكن؟ وأن قوانين المجتمع هي التي حالت بينها وبينه؟ أم أنها كانت آلهة يسارية تقف إلى جوار الصعاليك وتحارب الأغنياء والملوك؟ ولماذا تتعنت الآلهة مع الأغنياء وهي التي منحتهم هذه الحظوة وتلك المكانة؟ ولماذا منحت الفلاح الأمل المستحيل ولم تأمر بموت الأميرة والحلم والرجاء دفعة واحدة بدلاً من تخليدها في أوراقٍ ملوّنة بلا بهجة ولا رائحة؟ وأخيراً، لماذا نُتعِب أنفسنا في دراسة أسطورة أسقطها التاريخ ونسيتها الكتب؟ لعلّنا نتشوّق لمعرفة الطريقة التي كان هؤلاء الذين صنعوا آلهة من عقائد يُفكرون بها، أو بالأحرى الطريقة التي كانوا يتمردون بها على الآلهة من دون أو يتجرّأوا على البَوح، أو الطريقة التي كانوا يُشهّرون بها بالملوك من دون التعرّض لسلطان الرقيب. وتبقى الأساطير مفتوحة على كل الأسئلة.

  • عبدالرازق أحمدالشاعر هو كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: Shaer1970@gmail.com      

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى