تكتُب المرأَةُ الشِعر… وهي القصيدة!

الخنساء بريشة جبران خليل جبران.

 

 بقلم هنري زغيب*

لي كِنْغْسَاو (الصين)

 

ماذا أَن تكتبَ المرأَةُ شعرًا؟

هذي التي أَعظمُ ما منحَـتْها الحياة، نعمتان: الوِحام والإِلهام، تلدُ الفرائد وتُلهِم القصائد، فماذا حين هي تكتب الشعر؟

يحتلُّ التاريخَ شعراء موهوبون لا عَدَّ لهم، أَما الشاعراتُ فَذَوات عَدّ. وقد يكون لهنَّ ذلك أَيضًا من الفرادات.

لعلَّ الشعراء لم يتركوا موضوعًا إِلَّا قاربوه في قصائدهم، فهل هذه كذلك صورة الشاعرات؟

هذه الـمُرهَفةُ الرائعة، يستلهمها الشاعر كي يصوغَ لها قلائد، هل هي تستلهمُه لقصائدها؟ أَم انَّ لها استلهاماتِها دونه؟

 

هْروتْسْـڤـيتا دو غاندرْشايم (أَلمانيا)

بين إِغريقيا والصين

أُشيحُ عن شاعراتٍ في السجلّ الشعري العربي، معظمُهنَّ في التداول قراءاتٍ ودراسات، من الخنساء (608 – 644) إِلى عائشة القُرطُبية (نجمة القرن العاشر الأَندلسي)، إِلى حفْصة بنت الحاج الرُكُونية الغرناطية (1134-1191)، وأَمضي إِلى همومٍ ووشائجَ أُخرى في قصائد شاعرات من العالم، فأَتوقَّف عند سافو (630 – 570 ق.م.) شاعرة إِغريقيا ابنة ميتيلان (عاصمة جزيرة ليسبوس)، وأَجد في شعرها ميلًا حارًّا إِلى الأُنوثة، إِذ أَمضت حياتها تعشق الصبايا وتدرِّسهن الغناء والرقص والتمرُّد على عادات مجتمعها وطقوسه المتزمتة، فكانت تعزف على القيثارة وتُنشد قصائدها مناجيةً الإِلهة أَفروديت، داعيةً إِياها أَن تزاملَها في ما يختلج داخلَها من رغبات عاصفة.

أَنتقل إِلى الصين، لدى لي كنغساو (1084-1151) أَبرز شاعرات الصين. تثقَّفَت على أُمها الشاعرة تاريخًا وموسيقًى ورسمًا، وبدأَ شعرها ينتشر وهي في السابعة عشرة. حين تزوجَت شاعرًا (تساو مينْتْشِنغ) بعد قصة حب عاصفة، حال دون سعادتهما خصامٌ بين الأُسرتين ونفْيُ زوجها بعيدًا عنها، فكتبَت له معظم قصائدها العاشقة المغمَّسة بالحنين والحنان. وحين فُجعَت بوفاته (سنة 1129) تحوَّل شعرها بكاءً عليه وحسرةً مُرَّة حتى آخر حياتها.

بين أَلمانيا واليابان

من أَلمانيا أَختار هْروتْسْـڤـيتا دو غاندِرْشايم (935 – 973) وهي راهبة كتبَت باللاتينية قصائد ومسرحيات يدور معظمها على مواضيع دينية في أُسلوبٍ هاجيوغرافي (تمجيد القداسة). وآثارها اليوم تجعلها أَقدم شاعرة أَلمانية. عاشت في دير يختزن مكتبة كبرى وفيه مدرسة تلقَّنت فيها التاريخ والثقافة. ضاعت آثارها عقودًا حتى انكشفت وأُعيد طبعها سنة 1494. وسنة 1973 احتفلت أَلمانيا بمرور 1000 سنة على وفاة شاعرتها الأُولى، وأَصدرت باسمها طابعًا تذكاريًا إِحياءً كتاباتِها الخالدة.

في اليابان تستوقفني يوسانو أَكيكو (1878 – 1942) بقصائدها المتطرِّفة في انتصارها لقضايا المرأَة، والجريئة في تمجيدها جمالات الأُنوثة والشهوة الأُنثوية، ويعتبرها النقاد رائدة الحركة النسوية اليابانية وأَبرز شاعرات اليابان في التاريخ الحديث. كتبَت الشعر بنوعَيه المعروفين في بلادها: القصيدة القصيرة جدًّا (تانكا) والقصيدة الطويلة جدًّا (شوكا) وبرعَت فيهما معًا، مستقيَةً مواضيعَها من بيئة تنزع إِلى التحرُّر من ربقة المجتمع الذكوري، ما أَلَّب عليها طبقة المتزمِّتين لكنه شَهَرها في الأَوساط الأَدبية.

بين أُوزبكستان وأَميركا

من أُوزبكستان تنبثق موهْلارُويـيـم نُوديرا (1792 – 1842) زوجة عمر خان حاكم خانيَّة كوكند (بين أُوزبكستان وطاجكستان). كتبَت باكرًا قصائدها بالأُوزبكية والفارسية، مناضلةً حول قضايا المرأَة. توفي زوجُها سنة 1822 فكتبَت له قصائد كتابها “نشيد الفراق”.

كان ابنها محمد علي قاصرًا فتولَّت حكْم الخانيّة عشر سنوات. تميزَت قصائدها بشعر الحب والصوفية، وعالجت فيها ظروف الحياة الصعبة ومسائل المرأَة في آسيا الوسطى، ما كان في زمانها من “التابو”. تركَت نحو 10 آلاف بيت من الشعر، صدرَت في ثلاثة كتب ما زالت تعاد طباعةً في البلاد.

ومن البشَرة السمراء أَختار السنغالية فيليس ويكلي (1753 – 1784). أُسِرت في أَفريقيا وهي في السابعة، وأُخِذَت رهينة مغلَّلة إِلى بوسطن على متن مركب يدعى “فيليس”، فاشتراها تاجر ثريٌّ يدعى جون ويكلي كي تخدم زوجته سوزانا. لكنهما لم يعاملاها كخادمة فقط، بل وفَّرا لها التعلُّم فبرعَت في اللاتينية والإِنكليزية. بدأَت تكتب الشعر وينشرُه لها مخدومها مشجِّعًا إِياها على كتابته، ونشَر مجموعتها الأُولى “قصائد في الدين والأَخلاق” (28 قصيدة). سنة 1775 كتبت قصيدة إِلى جورج واشنطن فدعاها إِلى مقابلته في العام التالي. توفيَت عن 31 عامًا تاركةً ما جعلها تُعتبَر أَول شاعرة أَميركية من أَصل أَفريقي تُصدر كتبًا شعرية.

القصيدة/القضية

أَكتفي بهذه الخيارات فالمجال لا يتسع. لكنها تشير ولو بإِيجازٍ إِلى أَن المرأَة حين تقارب الشعر، تكتُب القصيدة/القضية، وتوغل في عرضها والدفاع عنها حتى آخر بيتٍ من آخر قصيدة.

بلى، هذه الـمُرهَفة الرائعة تُلهم الشاعر، صحيح، لكنها – حين تكتب قصيدتَها – لها منابع أُخرى سواه.

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يصدر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في موقع “النهار العربي” من جريدة “النهار” – بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى