أميركا عائدة إلى العالم لتقوده من جديد

بقلم كابي طبراني*

يَحتَفِلُ العالمُ الليبرالي بفوز جو بايدن في الإنتخابات الرئاسية الأميركية التي تميّزت بحدّة المنافسة. والأمل في أن يكون تغيير الإدارة في أقوى دولة في العالم عاملاً مساعداً على كبح جماح القادة الشعبويين القوميين في البلدان الأخرى، وأن يكون هناك إحياءٌ مُحتَمَلٌ للنظام العالمي الليبرالي، والتزامٌ عالمي جديد تجاه تعزيز الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان.

لقد ابتُلِيَت أربع سنوات من رئاسة دونالد ترامب بالعديد من الفضائح، واتُّهِمَت بإلحاق الضرر بالعلوم، وتدمير الخطاب العام، وارتكاب الأخطاء الديبلوماسية، والوقحة أحياناً، مع العديد من حلفاء أميركا القدامى. لم يقم ترامب فقط بتدمير اتفاقية التجارة التفضيلية بين 12 دولة مُطِلّة على المحيط الهادئ والتي تُسَمّى “الشراكة العابرة للمحيط الهادئ” (Trans-Pacific Partnership)، من خلال انسحاب أميركا منها، ولكنه كان يُهدّد بانتظام بالإنسحاب من منظمة التجارة العالمية بعدما شلَّ حركتها بالإمتناع عن تعيين قضاة بلاده لديها.

لقد أخرج ترامب الولايات المتحدة من العديد من معاهدات الحدّ من التسلّح مع روسيا، ودمّر قيادة أميركا الثمينة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) من خلال إهانة الشركاء الأوروبيين بانتظام، وإنكاره علناً التقيّد بالتزام الدفاع الجماعي لهذا التحالف العسكري.

ومع ذلك، فإن القرارات الغريبة التي اتخذها ترامب تحت عنوان “إجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” لم تجلب تحديات خطيرة للتجارة والدفاع في بلاده فحسب، بل تسبّبت أيضاً سنوات حكمه الأربع في إلحاق ضرر جسيم بالمؤسسات العالمية والتعدّدية.

إن تعددية الأطراف كانت الخيار الجماعي الذي تبنّاه العالم في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لتأمين السلام والتنمية للبشرية. وعلى هذا الأساس أُنشِئت الأمم المتحدة كمركزٍ للنظام الدولي، حيث كان الطموح هو العمل من أجل مسؤولية عالمية، وتعاونٍ مُتعدّد الأطراف، والأمن الجماعي.

لقد بذل ترامب كل ما في وسعه لتقويض الأمم المتحدة وأهميتها في هيكل السلطة العالمية. فبدلاً من العمل مع حلفاء الولايات المتحدة، أدت سياساته المزعومة “أميركا أولاً” إلى عزل بلاده ووضعها ضد نظام التعددية ذاته، الذي كانت واشنطن بادرت إلى إنشائه في الأصل. لقد فقدت الأمم المتحدة معظم أهميتها، لا سيما في الوقت الذي يواجه العالم وباءً وحروباً جديدة تُهدّد السلام والإستقرار في مناطق وبلدان مختلفة.

إن سياسات إدارة ترامب ضد اللاجئين وتقويض المحكمة الجنائية الدولية، تحدّت القانون والمؤسسات الدولية. لقد أوقف بالكامل أو خفّض بشكل كبير تمويل العديد من الهيئات التابعة للأمم المتحدة. في الأسبوع الفائت فقط، إقترحت إدارة ترامب خفضاً بنسبة 29٪ من موازنة الأمم المتحدة لحفظ السلام لعام 2021 مقارنةً بهذا العام.

في العام 2017، قرّر ترامب سحب أميركا من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو). كما انسحبت الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. في العام نفسه، أعلن ترامب سحب بلاده من اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015، وهي أول دولة تفعل ذلك من بين 196 دولة مُوَقِّعة. وبسبب القواعد المنصوص عليها في اتفاقية باريس، فقد تمكّنت الولايات المتحدة أخيراً من الخروج منها فقط في اليوم التالي للإنتخابات الأميركية في الأسبوع الفائت، الأمر الذي ولّد نكسة كبيرة للجهود الجماعية العالمية لمواجهة أزمة البقاء مثل تغيّر المناخ.

الواقع أنه ليست هناك زيادة في الإحتباس الحراري فحسب، بل إن عدداً كبيراً من الناس يُهاجرون أيضاً من بلدٍ إلى آخر. لقد أصبحت أزمة الهجرة أكثر حدّة بسبب تغيّر المناخ. في كانون الأول (ديسمبر) 2018، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة “الميثاق العالمي بشأن اللاجئين” (Global Compact on Refugees)، الذي يُوفّر مخططاً للمنظمات الدولية وأصحاب المصلحة الرئيسيين الآخرين لدعم ومساعدة البلدان والمُجتمعات المُستَقبِلة والمُضيفة للاجئين.

يُعَدُّ الإتفاق العالمي علامة فارقة في تحقيق توافقٍ عالمي واسع في الآراء للعمل الجماعي بشأن التحديات المُتعلّقة بالهجرة. ومع ذلك، فقد عارضته إدارة ترامب بشدة. وبينما يكافح العالم للبقاء على قيد الحياة من جائحة كورونا غير المسبوقة، فإن ترامب، بدلاً من قيادةِ جُهدٍ عالمي مُتعَدّد الأطراف في أيار (مايو) الفائت، قرّر إيقاف تمويل الولايات المتحدة لمنظمة الصحة العالمية والإنسحاب منها. لحسن الحظ أن تنفيذ الإنسحاب الأميركي الكامل من هذه المنظمة سينتظر حتى تموز (يوليو) 2021.

وكما أجهز ترامب على كل ما حققته إدارة باراك أوباما من إنجازات وإتفاقات، يبدو أن الرئيس المُنتَخب جو بايدن سيعامله بالمثل. فهو أعلن أنه سيعيد الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس. ونظراً إلى سجله كعضو في مجلس الشيوخ وكنائب للرئيس في إدارة أوباما، هناك احتمال قوي بأن الولايات المتحدة تحت قيادة بايدن ستستعيد قريباً مركز الصدارة في قيادة التعدّدية، وتحسين العلاقات مع الحلفاء القدامى والموثوقين، والعودة إلى المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة.

يحتاج العالم المُترابط إلى التعدّدية ولا يُمكن لأي دولة، ولا حتى الولايات المتحدة، أن تجعل نفسها عظيمة في عزلة. نأمل أن تُعيد إدارة بايدن قريباً الولايات المتحدة لقيادة النظام العالمي الليبرالي.

الواقع أن العالم يواجه في الوقت الحاضر تحدّيات هائلة، والإقتصاد العالمي في أزمة خطيرة، والحروب والصراعات العنيفة أصبحت أكثر شيوعاً وخطورة، ويزداد ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض بشكل أسرع من أي وقت مضى، ولا يوجد أملٌ واقعي في أن ينتهي الوباء قريباً. إن تنشيط الشراكة العالمية هو مفتاح خروج العالم من الأزمات وتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي حدّدها الرئيس المُنتَخب بايدن بنفسه.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير “أسواق العرب”. يُمكن متابعته عبر تويتر: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى