هذا “العـفريت” الـمُسَمّـى “فايسبوك”

بقلم هنري زغيب*

من أَزعج ما يصادفُني في المجتمع: أَن ينهمرَ عليَّ في جَلسةٍ مطرُ أَسئلةٍ من أَحد الحاضرين: أَين كُنتَ أَمس؟ أَين تذهب غدًا؟ ماذا تفعل الليلة؟ لِـمَ كان خطُّكَ الـخَلَوي مقفَلًا؟ مع مَن سهرْتَ الليلة الماضية؟ ما كان الطعام؟ عَمَّ تَـحَدَّثْــتُم؟ أَين تسهر الليلة؟ وأُحاول مرةً، مرتين، أَن أَتحمَّل إِزعاج التدخُّل في شُؤُوني الخاصة وحياتي الخاصة وتَنَقُّلاتي الخاصة، دفعًا هذه الحشريةَ البشِعةَ في إختراق يومياتي وإغتصاب حميمياتي، لكنني في النهاية أَنفجر غاضبًا بلا رحمةٍ على السائلين، أَو أَمتنع عن زيارتِهم أَو البقاءِ في مجالسهم.
على أَنّ هذا لم يَعُد ناجعًا كلَّ مرة، سواءٌ في المجالس الخاصة أَو العامة، بسبب الـ”فايسبوك” الذي يَخترق خصوصياتِنا بِلا إستـئْذان، ويغتصب حميمياتِنا بلا حياء، ويَنشُر على صفحاته الثرثارة حديثًا تعتبره أَنتَ شخصيًّا فينتشر في الناس، أَو كلامًا تَاْتَـمنُه على أَحدٍ فَيَصِل إِلى هاتف كلّ أَحد، أَو تكون في جلسة مسترخيًا مرتاحًا مطمئنًّا غيرَ مستعدٍّ نفسيًّا أَو هنداميًّا أَو إجتماعيًّا إِلَّا لهذه الجلسة، فإِذا حضرتُك بعد أَقلَّ من ساعةٍ موزَّعٌ بالصوت والصورة على مئات الهواتف بكل إسترخائِكَ وإنشراحِكَ وحديـــثِكَ الخاص، وإِذا الناسُ يتناقلون حديثَكَ وينتقدون إنشراحَكَ ويتغامزون على إسترخائِكَ، بِـَلغْطٍ عليكَ، أَنتَ في غنًى عنه كي تظلَّ مُـحافظًا على صورَتِكَ بين الناس.
وقد تقول كلمةَ مُجاملةٍ لأَحد، أَو تكتُب كلمةً مهذَّبةً في شَأْنٍ تعتَبرُهُ شخصيًّا، فإِذا كلماتُكَ تنتقل بِـخَطِّكَ أَو عن لسانِكَ أَو بِصوتِكَ إِلى آلاف الــ”فايسبوكيّين”، وأَنتَ لا ترغبُ في توجيه ما تقولُه إِلَّا لصاحب العلاقة.
لذلك بتُّ في المجالس العامة أَعتذِر من الكثيرين عن الْتقاط الصُوَر معهم بدون إستعدادٍ هنداميّ أَو إجتماعيّ، كي لا أَرى بعدَ ساعاتٍ صورتي مع مجموعةِ صُوَرٍ أُخرى ذاتِ تعليقاتٍ خاصة أَو ساذجة أَو كاريكاتورية أَو ساخرة أَو مُهَزِّئـة، وأَنا في غِنًى عن كل هذا الوسَط الذي بتُّ أَتَـجنَّب الحضورَ فيه كي لا يَـخترِقَ إِرادتي فيُحضِرَني علنًا على سطوح الناس ومناشر غسيلهم، وتسقطُ الحرّية الشخصية أَمام هذا الــ”فايسبوك” الذي يَحشُرُكَ كالديكور الزائِد أَو كالكومـﭙـارس الثانوي بين صُوَرٍ يتبادلُها الناس عن تَـحرُّكاتهم اليومية وَوَلائِمِهِم الإِخوانية ومناسباتِهم العائلية وأَخبارِهم الشخصية وحفلاتِهم البيتية وتعليقاتِهم السطحية، فَتَنْحَشِرُ أَنتَ بينها مُهَمَّشًا رُغمًا عنك.
إِنه إختراق الخصوصية في الأَماكن العامة من دون استِـئْذانِك، حتى تضطرَّ إِلى الاحتفاظ برأْيِك أَو إلتزام الصمت أَو إحتساب كل حركةٍ أَو لفتةٍ لشعورِكَ أَنّ بين الحاضرين دائمًا مَن يُسَجِّل أَو يُصَورُ أَو يلتقطُ ويَرميك فورًا من دون إستِـئْذانكَ على هواتف الآلاف بما لا تَرغبُه ولا تُريدُه ولا تَسعى إِليه.
لا لإنتقاده كمنصَّة تواصُل تواكبُ العصر بل لإِساءة إستعماله بالشكل الـمُؤْذي. إِنَّ للـ”فايسبوك” أَخلاقيّةَ التعاطي معه في المجالس العامة، تَماماً كالتعاطي مع الهاتف الـخَلَويّ، تَـخابُـرًا أَو تَلَقِّي مُـخابَرة، كي لا نسبِّبَ إِزعاجًا للآخرين، وكي لا نَخترقَ خُصُوصياتِهم بما لا نريدُهم أَن يَخترقُوا خصوصياتِنا ويَنشُرُوها لا على صنوبر بيروت بل على سطوح هواتفهم الْـخَلَوية فنصبحُ حديث الناس يتناقلون أَخبارنا من فَمٍ إِلى فَمٍ ومن أُذُنٍ إِلى أُذُنٍ، فتَشيعُ شائعاتٌ، وتُروى أَخبارٌ، وتُحكى رواياتٌ، كثيرًا ما تُسيْءُ إِلى أَصحابها، وقد تُؤْذي أَكثر فَــتُسبِّبُ خَرابَ بُيُوت الناس أَو تَهديمَ صورتهم بين الناس، كما يَفعل غالبًا هذا العِفْريت الـمُسمَّى الـ”فايسبوك”.

• هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو على www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى