المَسيحِيّة في أوكرانيا: المَسارُ التاريخي والتأثيرُ السياسي

بينما تغزو روسيا أوكرانيا وتُدمّر مدنها وقراها، فإن التوترات بين البلدين تتصاعد أيضًا من خلال صراعٍ آخر تدور فصوله في أروقة الكنائس الأرثوذكسية المُتنافسة.

كنيسة بيرشيك لافا في كييف: معلم ديني أرثوذكسي و… سياحي

السفير يوسف صَدَقة*

إندلعت الحرب الروسية-الاوكرانية في أواخر شباط (فبراير) الماضي، رُغمَ الانتماء السلافي  المُشترَك  للشعبين الروسي والأوكراني، وانتماء الغالبية العظمى للشعبين الى المسيحية الارثوذكسية المشرقية. وكان الصراع بدأ يتعاظم بين البلدين منذ العام 2014، بعد الاطاحة بالرئيس الاوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش واحتلال روسيا شبه جزيرة القرم. ونظرًا إلى التباعد السياسي والتدخّل الغربي، دعمت الدولة الاوكرانية انفصال الكنيسة الارثوذكسية الأوكرانية عن البطريركية الارثوذكسية في موسكو في العام 2018، حيث كانت الكنيسة الاوكرانية تتبع لروسيا في فترة الاتحاد السوفياتي، وبعد استقلال اوكرانيا في العام 1991. وقد أعطى بطريرك القسطنطينية برثلماوس الأول في العام 2018، صك الشرعية للكنيسة الارثوذكسية الأوكرانية للانفصال عن بطريركية موسكو، ما أثار غضب الكرملين وبطريرك موسكو كيريل الأول.

إحصاءات مرجعية

تُشكل المسيحية في أوكرانيا أكثر الديانات انتشاراً بين السكان البالغ عددهم42,7  مليون نسمة، إذ وصلت نسبة معتنقيها بين 83.8% حسب دراسة مركز بيو اللأبحاث الأميركي الذي أجراه في العام 2010 إلى 91.5% حسب إحصاءات كتاب حقائق العالم لعام 2011. وتأتي الأرثوذكسية الشرقية في مقدمة الطوائف المسيحية، والتي تنقسم حاليًا بين هيئات كنسية ثلاث: الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية – بطريركية كييف، والكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية كهيئة كنسية مستقلة تحت بطريرك موسكو، والكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة والتي تُعد الكنيسة الوطنية للشعب الأوكراني.

وفقًا لدراسة قام بها مركز رازومكوف في العام 2018، حوالي 87.4% من سكان أوكرانيا مسيحيون. وتأتي الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية في مقدمة الطوائف المسيحية مع حوالي 67.3% من مجمل السكان (28.7% ينضوون تحت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية – بطريركية كييف،23.4% فقط أرثوذكس، 12.8% يتبعون الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية – بطريركية موسكو، و0.3% يتبعون الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة)؛ وحوالي 7.7% من الأوكرانيين هم مسيحيون بلا طائفة. ويشكل أتباع الكنيسة الأوكرانية الكاثوليكية حوالي 9.4%، يليهم كل من البروتستانت مع حوالي 2.2% والرومان الكاثوليك مع حوالي 0.8%.

إعتبارًا من العام 2016، تعد المسيحيَّة قوية بشكل خاص في المناطق الأوكرانية الغربية، حيث يعيش معظم الكاثوليك الشرقيين إلى جانب السكان الأرثوذكس. وفي المناطق الوسطى والجنوبية والشرقية يُشّكل المسيحيون نسبة أقل بالمقارنة مع نسبتهم على مستوى أوكرانيا، ولا سيَّما في منطقة دونباس الواقعة في أقصى شرق البلاد.

ومن خلال تجربتنا الشخصية لمدة سبع سنوات كسفير لأوكرانيا (2006- 2013)، ولمعرفتنا باللغة الروسية والتفاعل مع الناس، تبين لنا ان الغالبية العظمى من المؤمنين الأرثوذكس يرتادون الكنائس، فهم لا يبالون او لا يعرفون مرجعية الكنيسة الارثوذكسية سواء في كييف او موسكو او غيرها عندما يرتادون الكنائس، ما عدا الاكليروس الارثوذكسي وبعض النخبة السياسية.

تاريخ انتشار المسيحية في كييف

تأسّست الكنيسة الاوكرانية في وقتٍ مُتأخّر عن كنيسة الشرق، رُغم قرب المسافة مع الامبراطورية البيزنطية في القسطنطينية، فقد عاش الشعب السلافي في عتمة الوثنية لقرونٍ عدة، قبل وصول الديانة المسيحية الى الأراضي السلافية.

فالتاريخ الرسمي للمسيحية بدأ في “كييف روس” أو “روس الكييفية” (RUSS-KIEV)، التي كانت دولةً اتحاديةً واسعةً ضمّت في عهد أسرة روريك الفارانجية السلاف الشرقيين والفنلنديين في أوروبا منذ أواخر القرن التاسع وحتى منتصف القرن الثالث عشر، مع  اعتناق الأمير فلاديمير الأول المسيحية حيث تعمّد في العام 988 في نهر “دنيبر” (DNIPER) وجعلها الدين الرسمي للبلاد. وقد بيّنت الوثائق التاريخية اليونانية ان الديانة المسيحية قد وُجِدت قبل تعمّد الامير فلاديمير في القرن الثامن والتاسع في كييف روس. وقد ساهمت التبادلات التجارية بين شبه جزيرة القرم  والشمال في زرع بذور المسيحية.

ثبّت الامير فلاديمير متروبولية كييف، وأضحى التبشير المسيحي ينتشر في اطار التراث البيزنطي–السلافي، وهذا ما أدى الى تثبيت الإيمان الأرثوذكسي في المدى السلافي.

وتكرّسَ التنظيم الكنسي مع بطريركية القسطنطينية في العام 1030. وقد عرف القرن الحادي عشر إنتشارًا كبيرًا للدين المسيحي في روس كييف حيث امتدّ الى البلطيق ومنطقة الفولغا والشمال (روسيا اليوم)، ووصل إلى جبال الكربات. وفي القرن الثالث عشر، اصبحت كنيسة كييف تتبع مرجعية الكنيسة الأم في القسطنطينية.

ونتيجة للبعد الجغرافي بين كييف والقسطنطينية، أخذت كنيسة كييف مساحة من الحرية والاستقلال، فاستمرت كنيسة أُرثوذكسية في الروح والجوهر مع الحفاظ على الميزات والتقاليد السلافية. وع ذلك، فقد أضحت عرضة للتجاذبات بين التقاليد الشرقية والغربية، بين القسطنطينية وروما.

فالانقسام السياسي في العام 1054 بين بابوية روما والكنيسة الشرقية  البزنطية، لم يُلغِ تواصل كنيسة كييف مع الكنيسة الغربية في روما (البابا).

لم يجد الانقسام بين الكنيستين ترحيبًا في اوكرانيا. فقد حافظت متروبولية كييف على تراثها، مع انفتاحها على تراث الكنيسة اللاتينية الغربية، وعلى احترام الخط المسكوني الذي يجمع بين كنيسة روما والقسطنطينية.

وبعد تأسيس الإمبراطورية الروسية وانحسار دور “روس كييف ” أي اوكرانيا الحالية، أعلنت كنيسة موسكو استقلاليتها وأنشأت بطريركية خاصة لجميع الروس في العام 1548، مستقلة عن بطريركية “روس كييف”.

خفّت العلاقات المسكونية بين كنيسة كييف والقسطنطينية بعد سقوط المدينة بأيدي العثمانيين في العام 1453، ولم يعد لها أيّ تأثير مباشر على الأرثوذكس في روس-كييف . وهكذا أدت كنيسة بيزنطيا دورها الريادي في تقدم الكنيسة على الصعد الدينية واللاهوتية والتراثية. وانطلقت كنيسة كييف بالروحانية الأرثوذكسية مع الحفاظ على الثقافة السلافية.

كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك

تُعتَبر كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك الأوكرانية أكبر كنيسة بيزنطية شرقية تتبع الفاتيكان. وهي تنتسب الى عائلة الكنائس البيزنطية حيث تتشارك مع الكنائس البيزنطية الشرقية في الليتوروجيا والتراث المشترك. إلّا انها ليست ملكية بالمعنى السياسي، لأنها لم تُشكّل في التاريخ جُزءًا من الإمبراطورية الرومانية الشرقية. وتُعتَبَرُ وريثة كنيسة كييف التاريخية في روس-كييف، حيث شكلت مقرًّا لأربع كنائس في أوكرانيا: الكنيسة الأرثوذكسية الاوكرانية التابعة لموسكو – الكنيسة الارثوذكسية الاوكرانية التابعة لبطريركية كييف، الكنيسة الأرثوذكسية المستقلة AUTOCEPHALEكنيسة الروم الملكيين. وقد انتخب سينودس طائفة الروم الكاثوليك في العام 2002 لأول مرة البطريرك كيرشيفشوك وعيّن في كييف.

تاريخ تأسيس الكنيسة

أعطت الامبراطورة النمساوية ماريا تيريزا في العام 1774 تسمية كنيسة الروم الكاثوليك بعد التسميات العديدة التي رافقت هذه الطائفة، ومنها الكنيسة الروثينية الموحدة (Ruthenian Uniate Church) والكنيسة البيزنطية والكنيسة الكاثوليكية. وقد اعطيت التسمية للتفريق بينها وبين الكنائس الكاثوليكية البولونية والارمنية الموجودة في اوكرانيا.

وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر، فقدت بولونيا جُزءًا من أراضيها لصالح روسيا ومنها كييف وشرق أوكرانيا، عندها فقدت كنيسة اوكرانيا استقلاليتها إزاء بطريركية موسكو. وقد انحسر دور كنيسة الروم الكاثوليك ، ولكنها استمرت في غرب أوكرانيا في القرن الثامن عشر تحت حماية الإمبراطورية النمساوية. وقد تطورت مع الحفاظ على تقاليدها القديمة اليونانية-السلافية.

أما في القرن العشرين، فقد انتعشت الكنيسة لفترة وجيزة بعد استقلال اوكرانيا، لكن الاتحاد السوفياتي ما لبث أن احتل أوكرانيا الغربية، وضمّها بشكل رسمي في العام 1939. وقد فرض السوفيات الاتحاد من طريق القوة والرعب في اوكرانيا ودول المنظومة، إلّا ان النظام السوفياتي أبقى على البطريركية الأرثوذكسية بصورة شكلية إزاء العالم الغربي، حيث تمّ اختراقها بواسطة الجهاز الأمني. وقد تمّ تصفية العديد من الأساقفة والكهنة الأرثوذكس لعدم تعاونهم مع النظام الستاليني، كما تم اعتقال الاساقفة والرهبان الروم الكاثوليك ايضًا، وتمّت تصفية عدد كبير منهم، وأُرسِلَ الباقون الى سجون “غولاغ” (وهو اختصار روسي لعبارة المديرية الرئيسية للمُعتقلات) في سيبيريا.

إلغاء وتصفية طائفة الروم الكاثوليك

دعت السلطة السوفياتية الى اجتماعٍ في مدينة “لفيف” (LVIV) في العام 1946 لسينودوس الطائفة، حيث فرضت خلاله على أساقفتها إلغاء التواصل مع الفاتيكان والانضمام الى الكنيسة الروسية في موسكو. واتُخِذَ في نهاية السينودوس قرارٌ بإلغاء طائفة الروم الكاثوليك. وقد تمّ اعتقال الأساقفة وقتل العديد منهم، وإرسال مَن تبقّى من مجزرة ستالين الى المعتقلات في سيبيريا، والتحق العدد القليل بالكنيسة الروسية خوفًا من الاعتقال والموت.

بعد تصفية الكنيسة بشكلٍ رسمي، عمل بعض المؤمنين بصورة سرية تحت الارض، حيث كانوا يقيمون الصلوات أسوةً بالمسيحيين الأوائل إبان الاضطهاد الروماني للمسيحيين في القرون الاولى للمسيحية. وبعد موت ستالين في العام 1953، أفرج الرئيس نيكيتا خروتشيف بمرسوم عن بعض الكهنة المُعتقلين في سيبيريا. وقد بدأت الكنيسة تخرج الى النور مع إصلاحات “إعادة الهيكلة” المعروفة روسيًا بالبيريسترويكا التي قام بها الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف، وبدأت رياح الحرية تعصف بالشعب الأوكراني وكل الكنائس الاوكرانية حيث عمّت التظاهرات لطائفة الروم الكاثوليك في غرب أوكرانيا خلال العام 1989، لاسترداد حقوق الكنيسة ومملكاتها. وبدأوا يقيمون الصلوات في الهواء الطلق.

وإثر اجتماع غورباتشوف مع البابا يوحنا بولس الثاني في العام 1989 في الفاتيكان، اصدرت الحكومة السوفياتية في أول كانون الاول (ديسمبر) 1989 مرسومًا تعترف فيه بكنيسة الروم الكاثوليك، والذي بموجبه خرجت الكنيسة من السرية الى العلنية بشكل رسمي. وبدأ المسؤولون عن الكنيسة العمل على إعادة الممتلكات والكنائس المصادرة من السلطة السوفياتية.

هذا وقد عاد الكاردينال ميروسلاف إيفان لوباتشيفسكي في 30 آذار (مارس)1991 الى مقره الأساسي. وقد بلغ عدد المنتمين الى الطائفة 6 ملايين نسمة. وقد اعطت زيارة البابا يوحنا بولس الثاني الى اوكرانيا والى مدينة لفيف معقل الطائفة في العام 2001 دفعُا معنويًا وروحيًا ساهم في تثبيت الطائفة في المدى الاوكراني.

في المحصلة النهائية، يتبيّن ان الحرب الروسية-الاوكرانية، أيًّا كان هدفها ومسبباتها الاستراتيجية، قد أدّت الى حرب بين بلدين ذات أغلبية أرثوذكسية مشرقية، والى أمّتين ذات أصل سلافي، وهي تمثل حرب الآخرين على أرض أوكرانيا. يبقى ان تنتهي الحرب الروسية-الاوكرانية وتعود لغة السلام والمصالحة حيث لن يكون المنتصر فيها إلّا أعداء كل من روسيا وأوكرانيا.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني متقاعد، كان سابقًا سفير لبنان في أوكرانيا بين 2006 و2013.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى