كيف إغتال السلطان إردوغان ديموقراطية أتاتورك في تركيا

نجح رجب طيب إردوغان عبر آليات “ديموقراطية” بأن يضمن لنفسه الإستمرار في مركز الحكم وصناعة القرار حتى العام 2029 بمقتضى التعديلات الجديدة والإجراءات التي إتخذها داخل الحزب ومؤسسات الدولة التركية عبر السنوات الست الماضية؛ أي أنه بشكل عملي قد يصل مجموع سنوات حكمه إلى 26 عاماً، منها 12عاماً، بداية من 2017، بسلطات مُطلقة أقرب إلى حاكم على نمط القرون الوسطى وليس كرئيس لدولة حديثة ديموقراطية في القرن الواحد والعشرين. ولكن ماذا سيكون تأثير ذلك في تركيا أتاتورك؟

إنقلاب 15 تموز (يوليو) 2016 في تركيا: التحوّل من بلاد أتاتورك إلى بلاد إردوغان

أنقرة – ميشال مظلوم

تحوّلت تركيا بلا شك جرّاء الإنقلاب الفاشل في تموز (يوليو) الماضي من وضع إلى آخر. لقد أصبح الرئيس رجب طيب إردوغان، الذي نجا من محاولةٍ لقتله، نبياً مُسلِماً تُركياً في أعين مؤيديه: فهو زعيم الأمة بلا منازع، المُكلَّف بتنشيط المجتمع الإسلامي العالمي أي “الأمة الإسلامية”. أصبحت المعارضة كافرة ومُجدِّفة. وأولئك الذين يرفضون دعمه صاروا يُعتَبَرون مناهضين للتركية ومناهضين للمسلمين ومن ثم أعداء للدولة. هذه أخبار سيئة لديموقراطية مصطفى كمال أتاتورك، التي تتطلب مُعارضةً صحية للإستمرار والبقاء.
يُذكَر أن إردوغان، وهو زعيم يميني، تولّى السلطة كرئيس للوزراء فى العام 2003 من خلال حزب العدالة والتنمية. وأصبح رئيساً للجمهورية في العام 2014. وفي ذلك الوقت، وخصوصاً خلال العقد الفائت، حقق لبلاده نمواً إقتصادياً، مما ساعده على زيادة حصة حزبه في البرلمان. والأكثر غرابة، أنه أيضاً عمل على “شَيطَنة” والحطّ من قدر الناخبين الذين من المرجح أن لا يصوّتون له، بمن فيهم العلمانيون والليبراليون والديموقراطيون الإجتماعيون واليساريون والأكراد. هذه الإستراتيجية بنت لإردوغان قاعدة كبيرة تتكوّن من الإسلاميين المحافظين والسياسيين.
بعد العام 2014، سعى إردوغان إلى تحويل النظام السياسي التركي إلى نظام رئاسي تنفيذي والذي من شأنه أن يُعزِّز صلاحياته كرئيس للجمهورية، ورئيس للحكومة، ورئيس للحزب الحاكم. لكن بدا هذا الأمر مهمة صعبة وإلى حد ما متعثّراً. كان إردوغان يحتاج إلى الفوز في إستفتاء شعبي لتغيير الدستور قبل ان يصبح مُتمتعاً بكل هذه الصلاحيات، لكن حزب العدالة والتنمية لم يحصل أبداً على أكثر من 50٪ من الأصوات.
وبعد عامين تقريباً، أعاد إردوغان إطلاق طموحاته الرئاسية من خلال أزمة هدّدت بتدميره تماماً: محاولة الإنقلاب الفاشلة في 15 تموز (يوليو) 2016. قبل ذلك، كان إردوغان فعلياً أحد أقوى القادة في تركيا. وبنجاته من محاولة الإغتيال وهزيمته لأعدائه، خصوصاً حركة فتح الله غولن — حليفه السابق الذي يبدو أنه قد لعب دوراً رئيسياً في الإنقلاب – تعزّزت مكانته، الأمر الذي شجعه على إجراء إستفتاء مُبكر على الدستور لتحقيق طموحاته السياسية.
عقب الإنقلاب، واجه إردوغان خيارين: المصالحة أو المزيد من الإستقطاب. وإختار ما وصفه الكاتب بوسرا إركارا في صحيفة “نيويورك تايمز” بأنه “خيار لا لبس فيه لتفجير القلق الجماعي وإستغلاله والإستفادة منه بدلاً من تهدئته”. وكان هناك خوف وقلق: عاصمة البلاد أنقرة، التي لم تتعرّض لأي هجوم منذ أن داهمها تيمورلنك في العام 1402، قُصِفت مراراً وتكراراً من قبل الإنقلابيين، الذين ضربوا مباشرة البرلمان. وقد أدّت محاولات إردوغان لإستخدام هذا الخوف إلى إطلاق قوى لم يسبق لها مثيل في تاريخ الجمهورية التركية.

الخوف والغضب

وقد أثارت محاولة الإنقلاب، التي إستهدفت مباشرة الدولة التركية، الخوف الوجودي والغضب بين أعضاء الحكومة ومؤيديها. وعلى الرغم من أن الإنقلاب أُفشِل في غضون ساعات، إلا أن عملية التطهير التي تلت ذلك من المتآمرين الغوليين المزعومين تحوّلت إلى مطاردة “ساحرات” مستمرة حتى اليوم، وتم توسيعها لتشمل جميع خصوم إردوغان: الليبراليون واليساريون والقوميون الأكراد، وأي شخص آخر تحدّاه.
وفي ما يتعلق بمؤيدي إردوغان من اليمين والإسلاميينن، لم تكن محاولة الإنقلاب هجوماً محلياً فحسب، بل كانت أيضاً مؤامرة دبّرها “حلفاء أجانب” ماكرون للإطاحة بإردوغان من خلال وكلائهم أتباع غولن. ويصر مؤيدوه على أن الهجوم الأخير كان ببساطة آخر واحدٍ في سلسلة من الهجمات التاريخية التي شنّها الغرب ضد الأمة التركية و”الأمة الإسلامية”، وتمتد إلى الحروب الصليبية. ووفقاً لهذا الخط الفكري، فمن خلال إستهداف إردوغان والدولة التركية في آن واحد، فإن هذه المصالح الخارجية الشائنة تربط إرتباطاً لا ينفصم مستقبل البلاد بمصير القائد: فمن دون إردوغان، لا يُمكن أن تصبح تركيا أمة عظيمة مرة أخرى أو تفي بمهمتها التاريخية وإستعادة كرامة “الأمة الإسلامية”.
وبالتالي، في نظر مؤيديه، فإن ردّ إردوغان على الإنقلاب – حيث أصبح أكثر إستبدادياً وسجن الصحافيين المُعارضين – له ما يبرره. إن تركيا لا يمكن أن تكون قوة عظمى من دونه، ولا يمكن معالجة مظالم المُسلمين في غيابه. أولئك الذين لا يدعمون أردوغان لا يمكن أن يكونوا أتراكاً جيّدين ولا مُسلمين خيّرين. ولذلك فإن إضطهادهم مُبرَّر ويستحقونه. لقد أصبح الإسلام السياسي مع الإستبداد والقومية التركية كلها تشكّل مجتمعة الآن جزءاً لا يتجزأ من الإردوغانية.
وعلى الرغم من أن حزب العدالة والتنمية قد إجتذب دائماً الإسلاميين السياسيين، إلّا أن إنقلاب تموز (يوليو) 2016 دفعهم إلى وسط مجموعة حلفاء إردوغان. ففيما كانت المؤامرة تتكشّف، عمل إردوغان على إثارة الحماس الديني في البلاد لحشد مؤيديه من أجل إطلاق إنقلاب مضاد. وبناء على أوامره، صدرت دعوات للصلاة من أكثر من 80 ألف مسجد في تركيا في الساعة 1:15 صباحاً – وهو ليس الوقت الذي يُصلّي فيه الناس عادة. وقد نجحت الإستراتيجية، حيث نجحت الدعوة للصلاة من جمع المؤيدين للعمل، ونزل الأتراك الإسلاميون إلى الشوارع لإراقة دمائهم من أجل إردوغان وإحباط الإنقلاب.
في تلك الليلة مات ما يقرب من 250 مدنياً، قَتَل معظمهم الإنقلابيون. مؤيدو إردوغان الذين خرجوا إلى الشوارع ليلتها واصلوا التجمع في جميع أنحاء البلاد على مدى أيام عدة بعد الإنقلاب. ولم يكن هؤلاء بالضرورة من أنصار حزب العدالة والتنمية المحافظين المتنوعين. لقد كان كثير منهم إسلاميين مُتشدّدين، وبعضهم من الجهاديين.
من جهته، يُدرك إردوغان جيداً أن الإسلاميين هم الذين أنقذوا حياته. وبناء على ذلك، فقد رفع مكانتهم في البلاد وفي جميع أنحاء الحكومة. على سبيل المثال، بعد الإنقلاب، أقدم الرئيس التركي على تعيين عدنان تانريفريدي — وهو جنرال سابق أُجبِر على التقاعد من الجيش التركي في تسعينات القرن الفائت بسبب وجهات نظره السياسية الإسلامية — مستشاره الرئيسي. وكانت مهمة تانريفريدي على ما يبدو إعادة هيكلة الجيش التركي العلماني.
في الوقت نفسه، إعتقلت الحكومة العديد من الصحافيين الأكثر ليبرالية في تركيا، مثل كاتب الأعمدة المشهور قادري غورسل، على أساس درامي يدّعي بأنهم مرتبطون بحركة غولن المحافظة. وفي الآونة الأخيرة، ندّد إردوغان بمسيرة الإحتجاج التي جرت من أنقرة إلى إسطنبول، التي نُظِّمت لمعارضة حملته ضد الإعلام وقادة حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي في تركيا، وإعتبرها غير شرعية. وقد هدّد حتى بإحتجاز كمال كيليك داروغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري، وكان إعتقل صلاح الدين دميرتاس، رئيس الحزب الديموقراطي الشعبي الكردي الوطني، ثالث أكبر فصيل فى البرلمان التركي بعد حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري. ومن الواضح أيضاً أنه لم ينتهِ بعد.

إرادة الشعب

تمزج الإردوغانية نظرية ما بعد الإستعمار مع معاداة الغرب. وفقاً للإردوغانيين، بعد الحرب العالمية الأولى، توصلت مجموعة أتاتورك من المؤسّسين الجمهوريين العلمانيين إلى إتفاق مع الحلفاء لإخضاع تركيا للمصالح الغربية. وقد إستمر تقليد إخضاع إرادة الشعب إلى الغرب في ظل مختلف الأحزاب العلمانية التي حكمت تركيا، حتى وصول حزب العدالة والتنمية، إلى ما يقرب من قرن من الزمان.
هدّدت محاولة الإنقلاب في 15 تموز (يوليو) 2016 إرادة الشعب مرة أخرى، وفقاً لهذه الرواية، ولكن هذه المرة، فإن الناس قاتلوا ودافعوا رداً على ذلك. وذكرت وكالة الاناضول المملوكة للدولة: “في تركيا القرن الواحد والعشرين حيث كانت محاولات الإنقلاب ضد الحكومات المنتخبة من خلال الارادة الحرة للشعب التركي هى بادرة من الماضى فإن أكبر تعزية هي أن محاولة الإنقلاب المسلح فى 15 تموز (يوليو) الماضي تم قمعها قبل أن تتمكن من النجاح”. كان 15 تموز (يوليو) دليلاً على أن إرادة الشعب بحاجة إلى قيامة، أو “ديريليس” (بالتركية).
إن اللغة الثورية ل”ديريليس” أعطت أردوغان الفرصة لتجديد كفاحه من أجل رئاسة تنفيذية مع حماس جديد. في الأشهر التي أعقبت محاولة الانقلاب، عقدت منظمات المجتمع المدني المؤيدة لإردوغان العديد من الندوات والمؤتمرات حول الإنقلاب الفاشل في أنحاء البلاد تحت شعارات وعناوين مختلفة مثل “15 تموز: من المقاومة إلى القيامة”. وعندما نظم حزب العدالة والتنمية إستفتاء دستورياً في 16 نيسان (إبريل) من أجل ترفيع صلاحيات إردوغان، فقد إستفادت حملته الإعلانية من هذه اللغة، مُعلنة أن “15 تموز (يوليو) هو يوم القيامة، 16 نيسان (إبريل) هو يوم العودة”.
وإستعداداً للإستفتاء، فقد ندد الإردوغانيون بكل المعارضة مُطلِقين ضد زعمائها تُهَماً بتشجيع المصالح الغربية أو التحالف مع الإرهابيين. وعرضت صحيفة “ييني سافاك” المحافظة التوتر بين تركيا والغرب كصراع حضاري. وإعتبرت أن قرار إلمانيا ودول أخرى بحظر بعض التجمعات المؤيدة لإردوغان بين الشتات التركي أثبت بشكل قاطع ما قاله المفكر صاموئيل هنتنغتون عن صراع الحضارات.
وبالتالي فإن الغرب والعالم الإسلامي يقفان ضد بعضهما البعض، والمسلمون يحتاجون إلى زعيم للإنتصار. ومنذ محاولة الإنقلاب التي جرت في 15 تموز (يوليو)، وضع إردوغان نفسه كزعيم من هذا القبيل، خصوصاً بعد فوزه في الإستفتاء في 16 نيسان (إبريل) 2017. وشكّل هذا التاريخ فترة لا لبس فيها في التاريخ التركي – واحدة حيث إيديولوجية جديدة، الإردوغانية، حلّت للسيطرة على المشهد السياسي.
إن المشكلة مع الإردوغانية هي أنه على الرغم من أن نصف تركيا تعشق إردوغان، فإن النصف الآخر يكرهه جداً. وبما أن الإردوغانية تُلغي كل المعارضة، فإن 40 مليوناً من سكان تركيا البالغ عددهم 80 مليون نسمة يُترَكون خارجاً على الهامش. وهذه وصفة لإضطرابات إجتماعية في تركيا التي لم تشهدها منذ أواخر سبعينات القرن الفائت، عندما خاضت الجماعات اليسارية واليمين المتطرف معركة شبيهة بالحرب الأهلية في الشوارع. وبإختصار، لقد وضعت الإردوغانية الديموقراطية التركية على طريق التدمير الذاتي، ويبدو أنه لا يوجد هناك أي مخرج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى