أولادُ الليل
تفتح جوانا حاجي توما وخليل جريج، في فيلمهما الأخير، صندوق “باندورا” وما يُخبّئه عن ماضي لبنان في زمن الحرب.
مايكل يونغ*
لدى مشاهدة فيلم “دفاتر مايا” [(صندوق الذكريات) (Memory Box)]، أحدَث أفلام المُخرجَين اللبنانيين جوانا حاجي توما وخليل جريج، لا بدّ للأشخاص في سنّهما الذين عاشوا سنين الحرب في لبنان من الشعور بتأثّرٍ قوي. ويتمحور هذا الفيلم حول ثلاثة مواضيع متشابكة هي العلاقات بين الأجيال، والذكريات، والخداع الذي يرتدي قناع الصمت.
تبدأ أحداث الفيلم ليلة عيد الميلاد، حين تتسلّم أليكس، ابنة مايا التي هي الشخصية الأساسية في الفيلم، صندوقًا كبيرًا في المنزل الذي تعيش فيه مع والدتها في مونتريال. أرادت جدّة أليكس أن تُعيدَ الصندوق مع ساعي البريد لأن ابنتها لم تَصل بعد إلى المنزل، لكن أليكس اعترضت. وسُرعان ما نكتشف أن الصندوق أُرسِل بعد وفاة ليزا، الصديقة الأقرب لمايا، وهو يحتوي على مفكّرات وأشرطة كاسيت وصور فوتوغرافية أرسلتها مايا إلى صديقتها في الثمانينات الفائتة حين كانت لا تزال في بيروت وليزا في باريس. ووعدت مايا صديقتها، في تلك الرسائل التي بعثت بها من لبنان في زمن الحرب، بأن تخبرها كل شيء. تريد أليكس أن تعرفَ سبب تردّد جدّتها الكبير في التحدّث عن محتوى الصندوق، لكنها لا تلقى أي جواب. ثم يغوص بنا الفيلم في محتويات هذا الصندوق، فيما تكشفها لنا أليكس شيئًا فشيئًا، وخلسةً، رغبةً منها في معرفة المزيد عن والدتها والزوايا الخفيّة في حياة أسرتها.
ينتمي الثنائي حاجي توما وجريج إلى جيلٍ من اللبنانيين الذين عاشوا سنّ المراهقة في الثمانينات. ويتطرّقان في الفيلم إلى مرحلة من حياتهما ومن تاريخ بلادهما حين اصطدمت نزوات الشباب واندفاعاتهم بالقيود التي فرضتها الحرب الدموية في البلاد. ويبدو واضحًا أن “دفاتر مايا” هو مشروع شخصي جدًّا للمخرجَين اللذين صرّحا أن بعض المفكّرات والصور الفوتوغرافية السالبة التي عرضاها في الفيلم هي من مقتنياتهما الخاصة. قد لا يكون الفيلم سيرة ذاتية، لكن كل ما فيه يُعتَبَر كذلك جُزئيًا لجميع مَن بلغوا سن الرشد خلال تلك الفترة.
ترى حاجي توما وجريج أن التوقيت مناسب الآن لرواية قصتهما، لأن أولادهما أصبحا في سنٍّ تتيح لهما فهمها. فبدءًا من مشاهد الدمار في العاصمة بيروت خلال الحرب، ومرورًا بالعنف المتنقّل، وانتهاءً بالعلاقات المشحونة مع أهل شديدي القلق، والصداقات العميقة التي تشكّلت خلال النزاع، يقدّم فيلم “دفاتر مايا” رواية حياتية واقعية ينقلها جيلٌ مُعيّن إلى اللبنانيين أصغر سنًا الذين لا تزال الحرب في نظرهم فكرة مُجرّدة. وليس مُفاجئًا أن الفيلم مُهدى “إلى أولادنا”.
إذًا، الفيلم أيضًا قصة ذكريات، أو بالأحرى صندوق “باندورا” الذي تفتحه الذكريات. لذا، ليس استخدام كلمة “box”، أي صندوق، في عنوان الفيلم بالإنكليزية من قبيل المصادفة. والمفارقة في الذكريات هي أن الذكريات الجميلة أشد قسوةً بكثير من الذكريات السيئة، لأنها تولّد توقًا مقلقًا إلى السنوات الضائعة التي غالبًا ما ينظر إليها المرء، حين يبلغ منتصف العمر، بأنها كانت سنوات حالمة. تُحدّق هذه الذكريات بك، وتستفزّك، وتفضح عجزك، ولكنها تُذكّرك أيضًا بأنك كنت في ما مضى حيًّا أكثر بكثير من الآن.
هذا التجاذب يسود في الفيلم، إذ ترى مايا نفسها عالقةً بين التوق إلى ماضيها وما أطلقته الذكريات في داخلها، وبين رغبتها في أن توصِد الباب على كل الأحداث التي جعلت من ذكرياتها في زمن الحرب كابوسًا لها. وفي نهاية المطاف، تجد أليكس حلًا لهذه المعضلة. ففضولها ورغبتها في إضافة نكهةٍ إلى حياتها الهادئة والمحصّنة في مونتريال الباردة من خلال ذكريات والدتها، يرغمان مايا على الخروج من قوقعتها لكشف المزيد عن نفسها بعيدًا من التكتّم والخداع، وهو المحور الثالث الذي يتناوله الفيلم.
كل مَن يعرف لبنان (أقلّه قبل ظهور الفايسبوك حين أصبحت كل الحماقات تُنشَر على الملأ) يُدرك أن المجتمع اللبناني يُفضّل إبقاء الأمور طيّ الكتمان وعدم البوح بها. وهذا التكتّم المفرط هو في الواقع شكلٌ من أشكالِ الخداع، وفيلم “دفاتر مايا” يتمحوَر حول مستويات عدة من هذا الخداع: خيبة مايا من والدَيها؛ وأليكس من والدتها، ومايا من ابنتها؛ وفوق كل شيء، خيبة الجدّة من المجتمع المحيط بها في لبنان في فترة الحرب. يكشف ذلك الكثير عن بلدٍ بُنيَت منظومته بعد الحرب على كذبة كبيرة عبر الزعم بأن النهضة التي أعقبت الحرب قد تكلّلت بالنجاح، في حين أن ما جرى فعليًا كان فرض نظام كلبتوقراطي سلبَ اللبنانيين كل شيء.
ومن المُشجّع أن نرى عددًا من المخرجين اللبنانيين يعملون على تعزيز شكلٍ محفّز جدًّا من أشكال السينما الوطنية. فأفلام نادين لبكي وزياد دويري تلقى باستمرار اهتمام النقّاد. والعام الماضي، أصدرت شركة الإنتاج “أبّوت للإنتاج” (Abbout Productions)، التي أنشأتها حاجي توما وجريج في العام 1998 ويرأسها المنتج جورج شقير، فيلمَين لقيا استحسانًا دوليًا، أوّلهما “دفاتر مايا” الذي رُشِّحَ لنيل جائزة “الدب الذهبي” في مهرجان برلين السينمائي الدولي؛ وثانيهما فيلم بعنوان “كوستا برافا لبنان” للمخرجة منية عقل، والذي نال جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان الأفلام الأوروبية في إشبيلية في تشرين الثاني/نوفمبر 2021.
تنتهي أحداث “دفاتر مايا” في بيروت التي تعود إليها مايا وأليكس بمناسبة الأربعين يومًا على وفاة ليزا. لا نُفسد عليكم نهاية الفيلم إذا قلنا إن هذه العودة إلى الوطن تنطوي على شكلٍ من أشكال القيامة. تطلب الجدّة التي بقيت في مونتريال من أليكس أن تُرسِلَ إليها صوررةً للشمس. وفي ذلك تذكيرٌ بأن النزعات التدميرية هي في مواجهة مستمرة مع غريزة الحياة التي يتشبّث بها لبنان. ومايا، التي رأيناها تعيش لحظتها الأكثر إثارة للشفقة وهي تجرف منهكةً أمتارًا من الثلوج عن سيارتها في كندا، تستعيد ابتسامتها تحت شمس المتوسّط. في البداية، يُزعجنا هذا التجاوُر المُبتذل للصور، قبل أن ندرك في أعماقنا أنه صحيحٌ تمامًا.
- مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.