هل تُوَحِّدُ الفِيدِراليةُ سياسةَ لبنان الخارجية؟

السفير الدكتور جان معكرون*

من المُتعارَف عليه أن تتألّف السلطات في الدولة الاتحادية أو الفيدِرالية من حكومةٍ فيدِرالية تكون على رأس الدولة، ومن ولاياتٍ حكوميّة تتمتّع بنظامٍ ذاتيٍّ مُستقل، لكنها تخضع للحكومةِ الفيدِرالية الواحدة والجامعة لكل الولايات.

تُمارِسُ الحكومة الفيدرالية صلاحياتها كاملةً لحلّ مسائل الدفاع والسياسة الخارجية والعملة الوطنية، وإنّ بعض دساتير الدول الفيدرالية وسّعت صلاحيات الحكومة الفيدرالية لكي تشمل شؤوناً أخرى كإدارة الطيران المدني والسكك الحديدية والتجارة الخارجية…

ما يهمّنا في هذا الإطار هو أنّ جميع دساتير الدول الفيدرالية قد نصّت على تفرّد الحكومة الفيدرالية بحق إنشاء العلاقات الديبلوماسية مع الدول الأخرى، وكذلك إدارة السياسة الخارجية بشكلٍ عام.

تحديد السياسة الخارجية

السياسة الخارجية تضع وتُحدّد الاستراتيجية الديبلوماسية، وتسعى إلى تجنّب اعتماد القوة في العلاقات الدولية. ولعلّ “دِين راسك”، وزير الخارجية الأميركية في العام 1961، كان على حق عندما أشار إلى أنّ نجاح السياسة الخارجية لا يُقاس بعددِ التقارير الديبلوماسية، بل بتسوية وحلّ المشاكل وتمتين الصداقة بين الدول وتخفيف العداوة والتوتّر.

وفي الدولة الفيدرالية، تُدار السياسة الخارجية من قبل الحكومة أو السلطة الفيدرالية. والمعلوم لدينا أنّ السياسة الخارجية تشمل تمثيل الدولة تجاه الدول المُعتَمَدة لديها وتنمية العلاقات الوديّة معها، إضافةً إلى الحفاظ على مصالح مواطنيها وعقد المعاهدات التي تُنَظِّم المصالح المُشتركة.

والعلاقات الخارجية تعبيرٌ عامٌ ومطّاطٌ، لأنها تتناول وتُعالج وترعى شؤوناً عديدة كالقضايا الدفاعية والتجارية والثقافية والصناعية والاقتصادية. وغالباً ما ينتج عن هذه العلاقات عَقدُ المعاهدات الدولية والانضمام إلى الأحلاف الاستراتيجية السياسية والعسكرية، وكذلك الانضمام إلى المؤسسات والمنظمات الدولية كمنظمة التجارة العالمية والمحكمة الجنائية الدولية على سبيل المثال لا الحصر.

وإنّ الانضمام إلى هذه المؤسسات والمنظمات يُرتّبُ موجبات على الدولة المُنتَسِبة إليها.

ونضيف هنا أنّ المعاهدات الدولية تتفوّق في بعض الدول، ومنها لبنان، على قوانينها الوطنية وهنا مَكمَنُ الأهمية والخطورة.

ما هي حسنات اعتماد الفيدرالية في لبنان؟

  • قد يُساهِمُ النظامُ الفيدرالي في لبنان في استيعاب المُجتَمع التعدّدي وعَقلَنة تناقضاته الطائفية والثقافية والمناطقية…
  • تساعد الفيدرالية على المحافظة على الوحدة الوطنية ورعاية السلم الأهلي، أي التوفيق بين التعدّدية والوحدة الوطنية. وإنّ اعتمادها يُراعي التوازنات لأنها تُحقّق العدالة والمساواة بين مكوّنات الوطن سواء كانت كبيرة أم صغيرة.

إنّ هذه الأهداف تتحقق عملياً من خلال حكومة فيدرالية تُمثّل جميع الأحزاب والفئات المُجتمعية، وأيضاً في مجلسٍ نيابي فيدرالي يضمّ جميع المُقاطعات أو الولايات ويساوي بينها مهما اختلفت في حجمها أو عدد سكانها أو خلفيتها الاجتماعية والسياسية.

وللدلالة على المساواة بين مختلف الولايات المُتَّحدة، نذكر كيف أنّ مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة الأميركية تتمثّل فيه كاليفورنيا البالغ عدد سكانها 40 مليون على الأقلّ بصوتين اثنين في حين تتمثل ولاية ألاسكا التي يقلّ عدد سكانها عن مليون نسمة بصوتين اثنين أيضاً.

ماذا يضمن التوفيق بين التعدّدية والوحدة الوطنية في علاقات لبنان الخارجية في حال اعتمد لبنان النظام الفيدرالي؟

إنّ وجودَ حكومةٍ فيدرالية ومجلس شيوخ يُمثّلان جميع الأحزاب السياسية والمُقاطعات بالتساوي هما ضمانة حقيقية لحُسنِ سَيرِ أمور الدولة.

وإذا كان مبدأ التصويت في الحكومة الفيدرالية هو إجماع أعضائها، فما هو الحلّ في حال عدم توافق جميع الأعضاء عند النظر في مواضيع مهمة مُلزِمة للدولة، مثل انتساب لبنان إلى المحكمة الجنائية الدولية (1998-2002)، أو بند انضمام لبنان إلى معاهدة الدفاع المشترك العربي والتعاون الاقتصادي للعام 1950 في إطار جامعة الدول العربية، و/أو طلب تأييد لبنان لموقفٍ سياسيٍّ إقليمي أو عربي، وبشكلٍ عام لدى درس مسائل جوهرية مثل الانضمام إلى أحلافٍ عسكرية وسياسية واقتصادية إقليمية ودولية؟

وجواباً عن هذا السؤال، فإنه لا بدّ لحلّ مشكلة التصويت هذه من اللجوء إلى الحِكمة العملية التي تقضي بالمُهادنة بين أعضاء الحكومة الفيدرالية وبتجنّب القرارات الصدامية بهدف الحرص على التوازن بين جميع القوى والأحزاب.

وهذا يستدعي الحوار العاقل الذي يؤدي إلى تسوية. ولكن في حال الفشل، فإنه لا بدّ من العودة إلى استفتاء الشعب مالك السيادة والقادر والمؤهل على حسم القرار.

من جهة أخرى، أجمع فقهاء القانون الدستوري مثل “لويس لوفور” (Louis Le Fur) وجان جاك روسو و “ر. جوني” (Genet, R) على أنّ حق التمثيل الديبلوماسي يعود فقط إلى الدولة السيدة والمستقلة. لكنّ السؤال الواجب طرحه هنا، هل يحق لأي ولاية من ولايات الدولة الفيدرالية أن تُنشئ بمفردها علاقات ديبلوماسية مع دولٍ أخرى مع ما يستتبع ذلك من حق هذه الولاية بتوقيع معاهدات دولية؟

إنه موضوعٌ مطروحٌ على بساطِ البحث على الأخصّ إذا كان لكلِّ ولايةٍ مُعيَّنة اتجاهات فكرية وسياسية وعقائدية خاصة بها أو مصالح مختلفة عن غيرها من الولايات.

إنّ المبادئ الدستورية الدولية واضحة لجهة حصر امتياز التمثيل الديبلوماسي بالدولة السيدة المستقلة. وهذا يعني أنه في الدولة الفيدرالية والتي تتمتّع بالشخصية القانونية الدولية، فإنّ الحكومة المركزية أو الفيدرالية هي وحدها المُخوّلة إنشاء العلاقات الديبلوماسية وليست الوحدات الحكومية المحلية في كل ولاية، والتي لا تتمتع بالشخصية القانونية الدولية.

إضافةً إلى ذلك، فإنه حيث نصّت المادة 6 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات للعام 1969 على أنّ عَقدَ المعاهدات الدولية هو حقٌّ ممنوحٌ فقط للدول، وبالتالي فإنّ هذا الحق يعود فقط للحكومة الفيدرالية وحدها وليس للولايات المكوِّنة للاتحاد. لكن بعض الدساتير قد خالف المادة ٦ من  اتفاقية فيينا هذه ومنح الولايات أوالمقاطعات في الدولة الفيدرالية حقّ عقد المعاهدات مع الدول الاخرى، كالمادة ٥٦ من الدستور السويسري التي أجازت لاي مقاطعة سويسرية هذا الحق، على ألّا تتعارض هذه المعاهدات مع حقوق ومصالح الإتحاد أو مع حقوق المقاطعات الاخرى.

من جهة ثانية، وعطفاً على ما ورد أعلاه، لا بدّ من التساؤل عن وجود سوابق دستورية أجازت لأيّ ولاية أو جمهورية في الدولة الاتحادية حق إقامة علاقات ديبلوماسية.

تُبيِّن السوابق أنّ دستور الاتحاد السوفياتي للعام 1977 قد منح بعض الجمهوريات المُنضوية في الاتحاد مثل بيلاروسيا وأوكرانيا حق إنشاء علاقات ديبلوماسية مع غيرها من الدول.

نُشيرُ أخيراً إلى أنّ اعتماد لبنان النظام الفيدرالي/الإتحادي لا يستلزم الاعتراف الدولي به لأنّ لبنان دولةٌ قائمة وهي شخصٌ من أشخاص القانون الدولي، وتتمتع بالشخصية القانونية الدولية التي أجازت لها إنشاء العلاقات الديبلوماسية وعقد المعاهدات والتقدّم بشكاوى دولية وممارسة حق الإكراه.

فتغيير شكل الدولة من بسيطة إلى فيدرالية هو عملٌ سياديٌّ وطنيٌّ داخلي، ويُكتفى فقط بإعلام الدول والمنظّمات الدولية بموجب مُذكّراتٍ ديبلوماسية بهذا التغيير.

وختاماً، نقول بأنّ نجاح لبنان في علاقاته الخارجية غير مُرتبط بشكل الدولة سواء كانت بسيطة أم فيدرالية/إتحادية، أو بنظامها أكان رئاسياً أم برلمانياً، ليبيرالياً أم اشتراكياً، لأنّ العبرة تكمن في وحدة ولاء اللبنانيين لوطنهم وإنّ هذا الولاء يتحصّن ويتعزّز عندما تتأمّن المساواة بين جميع اللبنانيين في جميع حقوقهم. وإنّ وحدة هذا الولاء كفيلة بنجاح سياسته الخارجية.

وإذا أُجيز لي أن أعطي وجهة نظري حول الاتجاه المُمكن اعتماده في السياسة الخارجية لدولة لبنان الفيدرالي/الإتحادي فإنني أستعين بمقولة مهمة ل”هانز مورغينثاو” (Hanz Morgenthau) وهو من أشدّ المُنادين بالبراغماتية السياسية: “السياسة الخارجية الناجحة هي التي تُخفّف المخاطر وتُضاعف الفوائد”، وبالتالي، نضيف بأنه لا توجد سياسة خارجية أخطر من التي تستند إلى الأوهام والأمور الخيالية.

وأستخلص قائلاً: حتى ولو اعتمد لبنان النظام الفيدرالي، فإنّ استمرار الذهنية الفكرية والسياسية في جمودها وعقمها وتعصّبها وعدم انفتاحها، إضافةً إلى تعدّد الولاءات وازدياد الانقسامات حول مصالح لبنان الوطنية والاستراتيجية، فإنّ علاقات لبنان الخارجية ستظلّ محكومةً بالفشل.

  • السفير الدكتور جان معكرون هو باحث وديبلوماسي لبناني مُتقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى