“ديبلوماسية إعادة الإعمار” المصرية تَرتَكِزُ على أسُسٍ مَحَلِّيَةٍ هَشَّة
مع تفكك الشرق الأوسط، تُراهنُ مصر على أنَّ كونها لا غنى عنها كوسيطٍ وبانٍ وحُصنٍ في الإقليم سوف يبقيها قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية والاقتصادية والسياسية. لكن قدرة هذا البيت الورقي على الصمود في وجه عواصف المنطقة تعتمد على قوى خارجة عن سيطرة القاهرة المباشرة.

الفاضل إبراهيم*
في 16 آذار (مارس)، أصابَ صاروخٌ حوثيٌّ طائش، كان مُوَجَّهًا نحو إسرائيل احتجاجًا على حربها في غزة، مُنتَجَعَ شرم الشيخ المصري. كانَ رَدُّ القاهرة على ذلك مُنضبِطًا بشكلٍ لافت. ففي بيانٍ رسمي تناوَلَ التحدّيات الأمنية في البحر الأحمر، أشارَ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي فقط إلى “الظروف الإقليمية” التي تؤثّرُ في الاقتصاد المصري، مُتَجنِّبًا بشكلٍ واضح أيّ ذكرٍ مباشر للحوثيين.
هذا الضبط للنفس، وإن كان مُحَيِّرًا للبعض، إلّا أنه يتماشى مع استراتيجية مصر في تجُّنبِ الصراعات المُكلفة وتعزيزِ نفوذها الإقليمي من خلال الوساطة وإعادة الإعمار. إنه عملٌ مُتوازِنٌ أعادَ بهدوء مركزية القاهرة في السياسة الإقليمية، ولكن قد يكون من الصعبِ الحفاظُ عليه.
بالنسبة إلى مصر، فإنَّ سقوطَ صاروخٍ في وجهتها السياحية الشهيرة في سيناء ليس حادثًا بسيطًا. إنَّ أيَّ انخفاضٍ في عائدات السياحة سيؤدّي إلى تفاقُم التداعيات الاقتصادية لهجمات الحوثيين على حركة الملاحة في البحر الأحمر، والتي بدأت الجماعة شنّها بعد الغزو الإسرائيلي لغزة في 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وقد تسبّبت هذه الهجمات، التي استأنفها الحوثيون أخيرًا بعد توقّفها خلال وقف إطلاق النار القصير بين إسرائيل و”حماس”، في انخفاضِ حركة الملاحة في قناة السويس بنسبة 60%. وتتجاوز خسائر مصر الشهرية الآن 800 مليون دولار، مما يزيدُ الضغطُ على اقتصادها الهَشّ أصلًا.
ومع ذلك، رفضت مصر الانضمامَ إلى “عملية حارس الازدهار”، التحالف البحري الذي تقوده الولايات المتحدة لمواجهة عدوان الحوثيين من أجل استقرار ممرّات الشحن في البحر الأحمر. بدلًا من ذلك، ووفقًا لتقارير إخبارية، سعت القاهرة إلى ديبلوماسية القنوات الخلفية، حيث أجرت محادثات غير مُعلَنة مع الحوثيين للحدِّ من الاضطرابات في البحر الأحمر. وقد توقّفت هذه المحادثات التي أُبقِيَت سرّية لتجنُّب تنفير حلفاء القاهرة مثل المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة. لكن إحجام مصر عن عسكرة ردّها على الحوثيين ينبعُ من دروسٍ تاريخية مُستفادة بشقِّ الأنفس.
تلوحُ في الأفق ذكرياتُ تدخُّلِ مصر الكارثي الذي استمرَّ ثماني سنوات في اليمن من العام 1962 إلى العام 1970 – وهو مستنقعٌ استنزف اقتصادها وهَيبتها. وقد كلّف هذا التدخُّل، الذي يُشار إليه غالبًا باسم “فيتنام مصر”، عشرات الآلاف من الجنود، وخلَّفَ تردُّدًا دائمًا بين صانعي القرار في القاهرة للانخراط في مواجهةٍ مباشرة في اليمن. كما إنَّ السياسة الداخلية المصرية تزيدُ من تعقيد الأمور. في ظلِّ تدهورِ الاقتصاد المحلّي والتعاطُف الشعبي الكبير مع القضية الفلسطينية، فإنَّ الانحيازَ العلني للعمليات الأميركية والإسرائيلية التي تستهدف الحوثيين يُنذرُ بإثارة الغضب الشعبي تجاه غزة.
بدلًا من ذلك، عزّزت القاهرة جهودها الديبلوماسية. فإلى جانب قطر، ساعدت على التوسُّط في محادثات وقف إطلاق النار بين “حماس” وإسرائيل، مُستفيدةً من خبرتها الطويلة في التوسُّط في المفاوضات بين الجانبين، بالإضافة إلى مكانتها الفريدة كشريكٍ في معاهدة سلام مع إسرائيل ودولة مجاورة لغزة، لتضع نفسها في صدارة العالم العربي في هذا الصراع.
وعندما طرحَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب اقتراحه المُثير للجدل لتحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، والذي تَصَوَّرَ تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، سارعت القاهرة إلى الرَدِّ بخطة إعادة إعمار القطاع بقيمة 53 مليار دولار كُشِفَ عنها في آذار (مارس). وجاءت الخطة، المُكوَّنة من 112 صفحة، والتي أقرّها القادة العرب، مُكتملةً برسومٍ مُولّدة بالذكاء الاصطناعي للأحياء المُعاد بناؤها ومحطات تحلية المياه ومراكز التكنولوجيا.
تتميّزُ الخطة بطابعها العملي والرمزي في آنٍ واحد: فالشركات المصرية، وكثيرٌ منها مُرتَبطٌ بالجيش، ستُنفّذُ الجُزءَ الأكبر من إعادة الإعمار، بينما تُعزز القاهرة مكانتها كمُدافِعٍ ثابتٍ عن فلسطين. وقد أكد رئيس الوزراء مصطفى مدبولي على قدرة القاهرة الفريدة على الإنجاز، مُشيرًا إلى أنَّ الشركات المصرية يُمكنها الاستفادة من خبرةٍ تزيد عن عقد من المشاريع الضخمة مثل العاصمة الإدارية الجديدة التي تبلغ تكلفتها مليارات الدولارات “لإعادة غزة إلى حالةٍ أفضل مما كانت عليه قبل الدمار في غضون ثلاث سنوات”.
علاوةً على ذلك، فإنَّ هذا الاتفاق إقليميًا يضع القاهرة في موقع المهندس الذي لا غنى عنه للنظام الذي يحكم غزة بعد الحرب، وهو الدور الذي يُعزّزُ من ظهورها من جديد كمُنسِّقٍ رئيس بين الدول العربية وحصنٍ للاستقرارِ الإقليمي في نظرِ القوى الغربية.
لكن “ديبلوماسية إعادة الإعمار” المصرية تمتدُّ إلى ما هو أبعد من غزة. فقد وضعت القاهرة نفسها أيضًا كجهةٍ رئيسة لإعادة الإعمار في السودان، حيث شرّدت الحرب الأهلية أكثر من ثلث السكان ودمّرت معظم البنية التحتية في الخرطوم، العاصمة السياسية والاقتصادية للبلاد. في شباط (فبراير) 2025، أعلن وزير الخارجية بدر عبد العاطي عن تشكيلِ فريقِ عملٍ مصري-سوداني مشترك للإشراف على إعادة الإعمار، قائلًا: “ما دُمِّرَ في الحرب المدمِّرة، نأمل في إعادة بنائه قريبًا”.
تؤكّدُ جهودُ مصر في السودان على استراتيجيةِ التدخُّلِ العسكري المُنخفض التكلفة وغير الملفت في دعم القوات المسلحة السودانية في الحرب الأهلية في البلاد. وعلى عكسِ تدخّلها العسكري العلني والكارثي في اليمن في الستينيات الفائتة، اختارت القاهرة تقديمَ دعمٍ سرّي في السودان، حيث زوَّدت القوات المسلحة السودانية بطائراتٍ مُسَيَّرة تركية الصنع ومعلوماتٍ استخباراتية، مع تجنُّبِ أيِّ نشرٍ للقوات المصرية. من خلال دَمجِ ديبلوماسية إعادة الإعمار مع الدعم العسكري من وراء الكواليس، تسعى القاهرة إلى تأمين حدودها الجنوبية وضمان مصالحها على نهر النيل بدون الإنخراط في تورُّطٍ عسكريٍّ مُكلِف.
ويُظهرُ انخراطُ مصر في ليبيا قصةً مماثلة. فبعد سنواتٍ من دعمها للجنرال خليفة حفتر، القائد العسكري للفصائل الشرقية في ليبيا، تحوَّلت القاهرة نحو التعامل العملي مع حكومة الوفاق الوطني في غرب ليبيا، المُعتَرَف بها من قِبل الأمم المتحدة، مُعطيةً الأولوية للديبلوماسية الاقتصادية على القوة العسكرية. ويتجلّى هذا التحوُّل الاستراتيجي في الدور المتنامي لمصر في سوق إعادة الإعمار الليبية التي تبلغ قيمتها 400 مليار دولار، حيث تقود شركاتها الآن مشاريع بنية تحتية حيوية، وحصلت مجتمعةً على عقودٍ تزيد قيمتها عن 4 مليارات دولار.
يكمُنُ وراء ديبلوماسية إعادة الإعمار المصرية دافعٌ أساسي: مجمعها الصناعي العسكري. تُمارس القوات المسلحة المصرية نفوذًا هائلًا في قطاعات اقتصادية رئيسة مثل البناء والزراعة والبنية التحتية، من خلال شركات مملوكة للدولة مُعفاة من الضرائب وعمليات التدقيق وقوانين المنافسة.
تقودُ كياناتٌ مثل الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، المملوكة والمُدارة من قبل وزارة الدفاع، مشاريع البنية التحتية الكبرى في مصر، بما في ذلك بناء العاصمة الإدارية الجديدة وتوسعات قناة السويس، والتي بلغت قيمتها الإجمالية 66 مليار دولار. منذ العام 2014، وجّه السيسي أكثر من 300 مليار دولار لتطوير البنية التحتية، بما في ذلك بناء الطرق والموانئ وتطوير السكك الحديدية، ومعظمها نفذته شركات مملوكة للجيش.
مع ذلك، فإنَّ هذه الهيمنة العسكرية تَخنُقُ الاقتصاد. ووفقًا لنجيب ساويرس، رجل الأعمال المصري البارز وملياردير الاتصالات، “يتمتع الجيش بمزايا لا تتمتع بها الشركات الأخرى، لأنه لا يدفع ضرائب ولا يحتاج إلى ترخيص”. ونتيجةً لذلك، “أصبحت قدرته على العمل أسهل والمنافسة غير متكافئة”.
يُحذّرُ صندوق النقد الدولي وقادةُ الأعمال المصريون بالمثل من أنَّ امتيازات الجيش -بما في ذلك الإعفاءات الضريبية، والعقود بدون مناقصات، والإعفاء من الرقابة- تُشوّه الأسواق. ففي العام 2018، على سبيل المثال، تزامن تَوَسُّعُ الجيش في إنتاج الإسمنت مع انهيار شركة “القومية” الخاصة، ما أدّى إلى فقدان آلاف الوظائف فورًا، ودَفعِ المنافسين نحو الانهيار، وتثبيطِ وإحباط الاستثمار في المدى الطويل.
في حين يضغط صندوق النقد الدولي والدول الخليجية المانحة على القاهرة لتعزيز الشفافية الاقتصادية وكبح الدور الاقتصادي للجيش، تعمل ديبلوماسية إعادة الإعمار الإقليمية المصرية وفقَ منطقٍ متناقض: فهي تُسبّبُ التآكل والتقويض على المستوى المحلي ولكنها مُستدامة ذاتيًا على المستوى الدولي. فمن خلال استضافة مؤتمرات المانحين لغزة، وترويج نفسها كبوابة إلى أفريقيا، تُسوِّقُ القاهرة مشاريعها الضخمة المُترامية الأطراف للمستثمرين الأجانب. كما إنَّ انضمامها إلى مجموعة “بريكس” في العام 2024 أمّنَ لها الوصول إلى التمويل الصيني، وعزّز علاقتها مع روسيا، أحد أكبر شركاء مصر التجاريين، مما زاد من اندماجها في الشبكات الاقتصادية العالمية.
في غضون ذلك، ومن خلال هذه المناورات، تُعزّزُ مصر الانطباعَ السائد لدى صانعي السياسات العالميين بأنها “أكبر من أن تُفلِس أو تنهار”، وهي رواية تجذبُ أموالَ الإنقاذ الغربية والخليجية التي تُجنّبُ الانهيار الاقتصادي وتُحافظ على ازدهار البلاد العمراني. لكن المكاسب المفاجئة الناتجة تُضَخُّ دائمًا إلى أعلى، مما يُثري النُخَب، بينما يعيش 60% من المصريين تحت خط الفقر أو قريبًا منه. لا يتجنّب النظام الانهيار من خلال الإصلاح، بل من خلال اعتبار استقرار مصر أمرًا لا غنى عنه، مما يُعزز حلقة التبعية وإثراء النخب.
وقد أكد مبعوث ترامب الخاص إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، هذا التصوُّر بوضوح، مُحذِّرًا في مقابلةٍ أُجرِيَت معه أخيرًا: “أعتقد أن مصر نقطة اشتعال. إذا وقعَ حدثٌ سيِّئ في مصر، فقد يُعيدنا ذلك إلى الوراء”.
بفضل التوسُّط في النزاعات، وإعادة بناء الخراب، وتعهيد أمنها واستقرارها الاقتصادي إلى حلفائها، استعادت القاهرة ببراعة مكانتها البارزة بدون استنزاف مواردها. ومع ذلك، فإنَّ الأساسَ هَشٌّ. وعلى الرُغم من كل انتصاراتها الديبلوماسية، فإنَّ القاهرة تتأرجح على حافة الأزمة نتيجة مقاومتها لتطبيق إصلاحات اقتصادية هيكلية.
مع تفكُّك الشرق الأوسط، تُراهن مصر على أنَّ كونها لا غنى عنها كوسيطٍ وبانٍ وحُصنٍ سوف يبقيها ذلك قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية والاقتصادية والسياسية. لكن قدرة هذا البيت الورقي على الصمود في وجه عواصف المنطقة تعتمدُ على قوى خارجة عن سيطرة القاهرة المباشرة: وقف إطلاق النار في غزة، أو هدنة الحوثيين، أو انتصار القوات المسلحة السودانية في السودان. في الوقت الحالي، تواصل مصر البناء بهدوء وإصرار، على أمل ألّا يلاحظُ العالم التصدُّعات في أُسُسِها.
- الفاضل إبراهيم هو كاتب ومُحلّل سياسي سوداني، يركّز أبحاثه على شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.