صفعةُ فرنسا بعدَ سابقةِ رومانيا: لوبان خارج الإلِيزيه
محمّد قوّاص*
صبّ نائب الرئيس الأميركي، جاي. دي. فانس، جامَ غضبه على أوروبا في الخطاب الذي ألقاه أمام مؤتمر الأمن في ميونيخ في 15 شباط (فبراير) الماضي. إنتقدَ ضمورَ الديموقراطية في أوروبا وتراجُعَ حرّية التعبير مُحاضرًا بالطهرانية السياسية. تَفرَّسَ قادةٌ أوروبيون في وجوهِ بعضهم البعض مُستَغربين لهجة الضيف الأميركي إلى أن خصّصَ رومانيا بانتقادٍ لاذعٍ مباشر بسبب إيقاف القضاء هناك لانتخاباتٍ تشريعية حملت في دورتها الأولى المرشّح القومي كالين جورجيسكو إلى الصدارة. فَهمَ الجمعُ أنَّ نائب ترامب ينتقدُ مَنعَ مرشَّحٍ يميني متطرّفٍ، قريبٍ من موسكو، بعيدٍ من كييف، وصديقٍ لترامب والترامبية.
بدا أنَّ رومانيا التي تحدّ أوكرانيا وليست بعيدة من خطوط الجيش الروسي هناك، لن تسمحَ لصديق الرئيس فلاديمير بوتين الوصول إلى السلطة وإيقاع البلد داخل حدائق الكرملين. عَثَرَ القضاءُ على انتهاكاتٍ مالية جسيمة ودَعمِ قوى أجنبية (روسيا) في هيكلِ حملة المرشّح الانتخابية، فحكم بوقف الانتخابات قبل يومين من إجراء الدورة الثانية. جرى ذلك بأمرٍ قضائي يُفتَرَضُ أنَّ لا علاقة للسياسة به.
إستيقظت أوروبا على “السابقة الرومانية”. وبدت في حربها ضد روسيا وفي خلافها البنيوي مع الولايات المتحدة برئاسة دونالد ترامب مُضطرّة للدفاع عن نفسها بوسائل غير تقليدية. ولئن يلتقي شخص ترامب وشخص بوتين داخل مشتركات ملتبسة تطرح أسئلة في أوروبا كما الولايات المتحدة، فإنَّ ما ليس مُلتبسًا هو دعمهما العلني لأحزاب اليمين المتطرّف والتيارات الشعبوية القومية في أوروبا.
إنتقل ستيف بانون، منظّر الترامبية، بعد إبعاده عن البيت الأبيض في ولاية ترامب الأولى، إلى أوروبا مُبشّرًا بأفكاره القومية العنصرية عاملًا على تنسيقِ العلاقة مع كافة تيارات اليمين الشعبوي الأوروبي لخلقِ لوبي عابرٍ للحدود احتلَّ كتلة وازنة داخل البرلمان الأوروبي. وحين أرادت قوى التطرّف أن تعقدَ مؤتمرًا جامعًا لها لم تجد غير مدينة سانت بطرسبيرغ في روسيا مكانًا رحبًا للمناسبة، في آذار (مارس) 2015، بعد عام من تهنئة بوتين على غزو روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014.
أن تنتعشَ الترامبية وتلتقي مع البوتينية فذلك نذيرُ رواجِ مواسم الازدهار لكلِّ اليمين المتطرّف الأوروبي. لم تَعُد واشنطن تجد عناوين أوروبا في باريس وبرلين ولا حتى لندن، بل في بودابست حيث يتولى فيكتور أوربان صديق بوتين وترامب، حكم هنغاريا. ولئن تُناقِش أوروبا بجدّية استثنائية هذه الأيام قواعد جديدة للدفاع والأمن، فإنَّ يقظةً تدفعُ الأوروبيين لوقف الاستسلام لسذاجة اللعبة السياسية التي تحمل وستحمل إلى صفوف الحكم المُعادين لأوروبا وتجربة اتحادها، وهي مشاعر العداء نفسها التي يكنّها، للمفارقة، زعيم الكرملين وسيّد البيت الأبيض.
أوقف القضاء الفرنسي قبل أيام الصيرورة التي كانت آليًا ستحمل زعيمة حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف، مارين لوبان، إلى قصر الإليزيه في الانتخابات الرئاسية لعام 2027. ولئن اشتمَّ المراقبون ومعهم قادة ذلك اليمين تسييسًا للحُكم، فإنَّ الملفَّ كان محشوًّا بالأدلّة والبراهين بشأن اختلاسِ أموالٍ عامة تُقدَّرُ قيمتها بأربعة ملايين دولار ارتكبتها لوبان مع عددٍ من مسؤولي حزبها من مالٍ أوروبي عام. وفي تاريخ القضاء الفرنسي سوابق حديثة أدانت رجالَ حُكمٍ وسياسة وأوقفت مشوارهم السياسي، كان آخرهم الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، ما من شأنه تبرئة القضاء من تسييسٍ مُبرمَج ضد لوبان.
بدا الحُكمُ قاسيًا استنفدَ حدوده القصوى لا سيما لجهة التنفيذ الفوري الذي شمل الحكم بالسجن الفعلي لمدة عامين، بالإضافة إلى حرمان المُتَّهمة من أهلية ترشّحها لأيِّ منصبٍ سياسي خلال الخمس سنوات المقبلة، ما يعني إطاحة المنصب الرئاسي المتوخّى وأيّ مناصب أخرى. وبدا أيضًا أنَّ حظوظَ الاستئنافِ معدومة لعدم وجود سوابق عودة عن الحكم في حالاتٍ مشابهة، ولأنَّ المُهَلَ القضائية ستجعل من أيِّ إعادةِ بَتٍّ بالقضية مُتأخّرة عن مواعيد الترشّح للرئاسة بعد عامين.
يُمثّلُ الحدثُ زلزالًا سياسيًا سيُعيدُ تركيبَ المشهد السياسي الفرنسي برمّته. لكن الصفعة الفرنسية أصابت كلَّ اليمين المتطرّف من هنغاريا إلى إيطاليا مرورًا بهولندا وألمانيا وإسبانيا. أغضبَ الأمرُ ترامب في واشنطن واعتبره مُرادِفًا لمُعاناته من الدولة العميقة في بلاده. حتى إيلون ماسك اعتبرَ الأمرَ استغلالًا غير مُنصِف للنظام القضائي. وتوحي سابقتا فرنسا ورومانيا بأنَّ أوروبا ستسلك طُرُقًا أكثر تشدُّدًا مع “أذرعٍ” تعتبرها أكثر خطورة من “أذرُعِ” روسيا العسكرية الزاحفة. وبدا أنَّ شيئًا ما يَرُدُّ في أوروبا على ترامبية هدّدَ بها فانس قبل أسابيع في ميونيخ.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).