“الحيادُ الفاعل” بدل “النّأي بالنّفس”: لبنان بعد مئة سنة يُواجِهُ أسئلةً مَصيريّة

بقلم جوزيف خوري*

منذ إعلانه قبل مئة سنة، يتعرّض الكيان اللبناني لمحاولات احتواء وسيطرة عربية أو إقليمية أو دولية، تتظهّر في انحياز فئاتٍ أو جماعات أو طوائف فيه إلى دولٍ أو قادة أو أحزاب أو تنظيمات في الخارج، تستسهل فكّ الإنتماء إليه للإرتماء في أحضان غيره، وبذلك تستهين به وبشعبه من اللبنانيين الآخرين. فكأنّه كُتب على لبنان منذ إعلانه كياناً في الأول من ايلول (سبتمبر) 1920 أن يواجه مصيره جيلاً بعد جيل، وأن يصدّ تحدّيات تفرضها صراعات سياسية تلبس لبوس الطائفية، فلا تفسح له المجال للإستقرار والتطور.

إنّ العوامل التي واجهها الكيان اللبناني عند إنشائه واجهها اللبنانيون المقتنعون بأحقية كيانهم بإسلوبين:

الأول، الإصرار على أنّ للكيان وجوداً تاريخياً يعود الى قرونٍ خلت، فكرةٌ تشبث بها أهله الأصيلون الذين استمرّوا يبنون وطنهم في فكرهم، ويُعبّرون عنه في كتاباتهم، ويحتوونه في إرادتهم، ويرسمون امجاده بخططهم وأعمالهم.

والثاني، في مرحلة لاحقة، دعوة جماعات التعايش اللبناني، خصوصاً التي استجدّ وجودها بعد إلحاق الأقضية الأربعة بجبل لبنان، الى كلمة سواء في المحافظة على هذا الكيان بميثاق وطني وصيغة عيش وحكم. (أخطأ الذين دعوا أخيراً الى تعديل الميثاق وتغيير الصيغة، لأنّ الميثاق هو علّة وجود لبنان سيداً حراً مستقلاً عن الشرق والغرب، والصيغة هي اتفاق اللبنانيين على العيش معاً، فأيّهما يجب ان ننقض؟ إنّ طرح اي تغيير يهدم كيان لبنان ويُسقط رسالته).

فَهِمَ الأوّلون علّة وجود كيانهم، لذلك بحثوا في التاريخ والآثار والجغرافيا والديموغرافيا، ليدعموا حججهم ويُثبتوا نظريتهم، إنّه في عصر القوميات كانت لهم قومية هي اللبنانية، لا السورية ولا العربية، وأدركوا أنّ دورهم وضع الأطر النظرية للكيان اللبناني الذي صار واقعاً قائماً بإعلانه.

يبدو أنّ هذا الكيان بعد مئة سنة على إعلانه يواجه الأسئلة المصيرية التي سبقت هذا الإعلان أو أعقبته، وهو يحتاج الى فكرٍ جديد يرفد إيديولوجيته اللبنانية في مواجهة إيديولوجيات مُتطرفة في المنطقة، تُغيّر أنظمة وتزيح حدوداً، وتطرق باب الكيان اللبناني بعنف، ما أثار حمية مفكّرين لبنانيين، لوضع أسس جديدة مُستَحدَثة، تستلهم التجارب الفكرية والممارسات السياسية لمَن عايشوا مرحلة تأسيس الكيان، أو سبقوا بنظرياتهم إعلانه دولة، أو دافعوا عنه بعد الإعلان وما زالوا يُدافعون.

إنّ لبنان الوطن تتناوب عليه الصراعات، وتتآكله الخلافات والإنشقاقات في الداخل، ويتعرّض للمؤامرات من الخارج، وقد وُضع أمام مصيره بعد مئة سنة من وجوده الفعلي. وعلى المفكرين الذين يؤمنون بلبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه، أن يبحثوا في السبل التي يمكن أن تنقذه من صراعات قد تقضي عليه إذا استمرت من دون حلّ.

لذلك، بادر البروفيسور فيليب سالم الى طرح مجموعة أفكار في مقالة بعنوان: “نحو قومية جديدة”، علماً أنّ أفكاره السياسية والإصلاحية ونزعته القومية اللبنانية لا تقتصر على مقالة، بل تمتد الى مجموعة من الكتب أصدرها على مدى ثلاثين عاماً.

ما هي المُقاربة التي حمّلها سالم حلولاً لمستقبل الكيان في ذكراه المئوية الأولى؟

إستند الى الميثاق كي يُجدّده ويبعث فيه الحياة، ورسم خطة عَرَضَ فيها أفكاره، وهي قابلة للمناقشة كي يلاقيه مفكّرون آخرون يبحثون في سُبل المحافظة على الكيان اللبناني. وعلى صعيد القومية أرادها حضارية، جوهرها الإنسان، وقيمتها من قيمته نموذجاً لوحدة الوجود، وبذلك يُقارب المستقبل بإنشاء إنسانٍ جديد على أُسسٍ تربوية حديثة.

لن يقوم لبنان الذي نريده إلّا بعد أن يندفع أبناؤه على طريق الولاء له وحده. إنّ عدم الولاء للبنان وحده يطغى على نسبة كبيرة من اللبنانيين، لذلك يتوجّه فيليب سالم إليهم: “يجب أن يكون ولاؤكم للأرض مُقدّساً. هذه الأرض المصلوبة هنا في الشرق، وحدها هذه الأرض من بين جميع بقاع الأرض هي أرضكم، وإذا ما ذهبتم بعيداً منها فخذوا حفنة من ترابها حتى لا تنسوا أبداً من تكونون”. إنّ الوطن هو أرضٌ وشعبٌ، ولا يُمكن أن تكون لبنانياً إلّا إذا شدّك الحنين الى تراب الوطن وإنسانه.
أخفق السياسيون اللبنانيون في بناء الدولة بعد انهيارها في العام 1975، ولم تَقُم حتى بعد اتفاق الطائف، بل ازدادت تشرذماً وانهياراً … حتى الإفلاس، لأنّ الولاء للبنان حُسم في الدستور على الورق وليس في الواقع، حيث زادت الشرذمة والصراعات والإنقسامات التي صارت تُهدّد وجود لبنان ومصيره. منذ إنشاء لبنان ظلّت ولاءات قسم من اللبنانيين للعروبة أو للقومية السورية أو الأمة الاسلامية، قبل لبنان. وخلال الحرب وجدنا لكل دولة عربية أو أجنبية فئة من اللبنانيين تتبع توجّهاتها وتخلص لها من دون الولاء للبنان. وبالتالي فإنّ الإنتماء للبنان والولاء له أولاً، ليسا أولوية لدى كثيرين من اللبنانيين، وفي هذا الخلل تكمن العلّة في العجز عن بناء الدولة والوطن.

والخلل الآخر هو في النظام السياسي الطائفي الذي يجعل ولاء اللبنانيين لمرجعياتهم الطائفية سواء دينية أو حزبية. ولن يقوم لبنان الذي يرغب فيه المخلصون من أبنائه إلّا إذا حرّرناه من النظام الطائفي بفصل الدين عن الدولة، وهي القاعدة التي تتبعها دول العالم المتقدّم.

وما دام الأمل مفقوداً من الأجيال الحالية، فإنّ المراهنة على الأجيال المقبلة، بعد تغيير العمارة التعليمية والتربوية، من أجل بناء إنسان قادر على إقامة لبنان جديد، يعكس أبناؤه في الداخل والخارج عظمته ومجده.

إنّ القومية اللبنانية الحضارية، حسب مفهوم فيليب سالم، تفترض “الولاء للبنان وحده أولاً وأخيراً. ولن يقوم لبنان إلّا عندما تنتصر القومية اللبنانية على القوميات الأخرى”.

وبالنسبة إلى ما يُطرَح حول حياد لبنان، يتحدّث سالم عن كيفيّة التنسيق بين لبنان والدول العربيّة، ليكون دور لبنان فاعلاً. هناك خيارات وصِيَغ عديدة يُمكن إستخدامها، لأنّ “لبنان ليس فقط ذا وجه عربي، بل هو دولة عربيّة من رأسه حتّى أخمص قدميه”. لذا يضيف سالم: “يجب أن نُنَسّق جيّداً مع جامعة الدول العربيّة ومع العالم العربي وفق سياسة فاعلة، وليس سياسة “النّأي بالنفس”، لأنّ اتّباع هذه السياسة يعني أنّ لبنان ضعيفٌ ولا يقدر أن يضع سياسة فاعلة للحياد الذي أُسمّيه بـ”الحياد الفاعل””.

إنّ الصلاة هي رسالة مهنة للبروفيسور في الطب، وهي مبادرة إصلاحية في وطن هزمته الطائفية، وهي خطوات ثورية يرسمها لشعب مقهور، وهي آمال كبيرة لمجد مفقود، وهي دعاء قبل النوم على كل لبناني أن يردّدها كي يمحض وطنه ولاءه المطلق، فيردّد في أعماقه: “انا قومي لبناني حضاري. أبي هو لبنان هذا، أُمي هي هذه الارض، أهلي هم كل اللبنانيين. ديني “اعبد لبنان بعد الله”. منطقتي كل حبة تراب من أرضي، أُحبُّ إخوتي إلّا أنني لا أُحبُّ أخي الذي لا يلتزم الولاء لأبي وأمي. أُعاهد الله أن أكون إنساناً حضارياً، وأُعاهد لبنان أن أكون مُواطناً أقومُ بواجباتي قبل أن أُطالب بحقوقي. أنا قومي لبناني، إلّا انني أعتبرُ البشرية جمعاء عائلتي”.

إنّ القومية الحضارية تفترض إحترام الإنسان بتطبيق الشرعة العالمية لحقوق الانسان وليس إيرادها في الدستور فقط. ولا احترامٌ للإنسان إلّا بدولة علمانية، لا دينية ولا طائفية، تُبنى على أفضل القوانين الحضارية في العالم. علماً أنّ دستور لبنان لا ينصّ على دينٍ للدولة ولا قوانينه مُستَندة إلى الشريعة، إلّا في ما يتعلق بالأحوال الشخصية للطوائف.

تبدو الديموقراطية البرلمانية مُلائمة للبنان، حفظت نظامه السياسي (الذي يحتاج الى تحديث) خلال مئة سنة، فلمَ لا تكون صالحة خلال المئة المقبلة؟

إنّ لبنان البلد الصعب، يبدو علاجه مستحيلاً، لكن إذا كان نشوؤه مُمكناً، فلمَ يكون استمراره مُستحيلاً؟

  • جوزيف خوري هو رئيس تحرير جريدة “المستقبل” في سيدني، أوستراليا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى