اللبناني اسكندر صفا يُساهِمُ في ترميمِ “كاتدرائية نوتردام” في باريس

بقلم رؤوف قبيسي*

لم تكن كاتدرائية “نوتردام” الباريسية، الرابضة منذ أكثر من ثمانية قرون على إحدى ضفاف نهر السين، معبداً للصلاة والخشوع فحسب، كانت معلماً من معالم السياحة أيضاً، وآية من آيات الفنون. في البدء أرادها البنّاؤون الأوائل أن تكون جوهرة الكاتدرائيات، وأن تكون حريصة على أبّهتها وجلالها، ضنينةً بسمعتها كمظهر فني فريد من فنون عصر النهضة، وعمود من أعمدة التواصل الخلّاق مع السماء. بقيت كذلك على مر العصور، إلى أن حلّ بها اليوم المشؤوم، “15 نيسان/إبريل 2019″، حين اندلعت فيها الحرائق، وأصابت ألسنتها العمياء أجزاءً غالية من المبنى. بكت باريس يومها كما لم تبكِ من قبل، “انكسر قلبها” كما كتبت إحدى الصحف بعنوان عريض. أحزَنَ الحدث الأمة الفرنسية بكاملها، وتعاطفت معها شعوب غفيرة حول العالم. أمام المشهد المهول، وقف رئيس فرنسا، إيمانويل ماكرون، يُعاين الفاجعة بوجهٍ مُتجهّم كتوم، واعداً مُتعهّداً بترميمِ ما لحق بهذا الصرح المجيد من تاريخ فرنسا وإرثها من خراب.

نفّذ ماكرون ما تعهّد به أمام الجموع، وبدأت ورشة ترميم “نوتردام”، تحت إشراف قصر الإليزيه. من بين الذين سيُساهمون في هذه الورشة مساهمة كبيرة، رجل أعمال فرنسي لبناني اسمه اسكندر صفا. آثر صفا  أن يُقدّم عطيّة لهذه الكاتدرائية، وفاءً لفرنسا التي احتضنته صبياً وطالباً ورجل أعمال. أما اللبنانيون في لبنان وفرنسا، وفي كل مكان، فيَسرّهم أن يعتبروا عطاء الرجل، عربون وفاء من بلدهم المُثخن بالجراح تجاه فرنسا، ورسالةً لا تشوبها شائبة، بأن لبنان الداخل، إن خابَ وتعثّر بفعل سياسة حكّامه الفاسدين، فلبنان المغترب، لا يزال حياً، باقياً على العهد، وفيّاً لرسالته الثقافية في العالم. وكما أن “نوتردام” ليست كغيرها من الكاتدرائيات، فباريس كذلك، ليست كغيرها من المدن. قد لا تكون أهم مدينة في العالم، لكنها مدينة الفنون من دون منازع، وأقرب مدن الغرب إلى قلب لبنان وشعبه. لا شيء يرمز إلى هذه الحقيقة أكثر من تلك الأغنية الأثيرة التي غنتها فيروز، من على منصة “الأولومبيا” الباريسية أثناء حرب الجنون التي كانت تدور في بلدها: “باريس يا زهرة الحريي، يا دهب التاريخ يا باريس، لبنان باعتلك بقلبي، سلام ومحبي، بيقللك لبنان، رح نرجع ونتلاقى، ع الشعر وعالصداقة، ع الحق وكرامة الإنسان”.

لكن ما هذه العطيّة الغالية التي سيُقدّمها صفا لكاتدرائية “نوتردام”؟

إنها أطنانٌ من الرخام النادر اللمّاع يُستخرَج من مقالعٍ يملكها صفا في منطقة “هورو” بجنوب فرنسا، تحت الاسم التجاري “ماربل دو فرانس”، ويبلغ انتاجها حوالى 15 ألف متر مكعب سنوياً، بالوان سبعة مُغايرة تُعتبَر من أرقى أصناف الرخام، رصف بعضها في حدائق قصر فرساي الملكية، وبعضها الآخرفي أبنية فخمة مختلفة في فرنسا وأوروبا. إسكندر صفا، المولود في بيروت في العام 1955، هو أحد رجال الأعمال الفرنسيين اللبنانيين الكبار في فرنسا، ناشطٌ في غير حقل من حقول المال والتجارة والصناعة والميديا. في ألمانيا يملك حوضين لبناء السفن الحربية، وحوضاً لبناء اليخوت الغالية الثمن، ويملك في فرنسا حوضاً لبناء السفن الحربية، وحوضاً آخر في إنكلترا، كما يملك في مقاطعة “موندلييه”، المُحاذية لمصيف “كان” في جنوب فرنسا، أرضاً مساحتها  1350 هكتاراً، تضم فندقاً، ومطاعم واصطبلات خيول، وملاعب غولف، وغابة لصيد الغزلان والخنازير والأرانب، وبساتين من الزيتون، وحقولاً من كروم العنب، ومصنعاً لاستخراج زيت الزيتون، وآخر لانتاج النبيذ المُعتَّق. في ميدان الميديا، يملك صحيفتين اقتصاديتين: ” فالور أكتويال” (Valeurs Actuelles) و “لا لاتر دو لا بورس” (La letter De La Bourse)، ومجلة “سبكتاكل دو موند” (Spectacle Du Monde) والقناة التلفزيونية “أزور” (Azur TV)، الأكثر مُشاهدةً في جنوب فرنسا.

يؤكّد صفا أن عطاءه لكاتدرائية “نوتردام” لن يتوقف على الرخام، بل قد يشمل كل ما قد يطلبه القيمون على الكاتدرائية من نقوش ومنحوتات وتماثيل، وهذه تدخل ضمن قدرة مجموعته الرخامية على انتاجها، وقد تشمل أيضاً الهياكل والركائز المعدنية التي يمكن تصنيعها في حوض بناء السفن الذي تملكه مجموعته، في منطقة شيربوغ الواقعة على ساحل النورماندي. كل ذلك، لأجل أن تسترد “نوتردام” رونقها، وتستعيد ماضيها البهي النضر. يكفي المرء ان يقرأ شيئاً عن هذه الكاتدرائية وأثرها في الذاكرة الجماعية للباريسيين، ليعرف أهميتها التاريخية والثقافية، لا بالنسبة إلى الفرنسيين وحدهم، بل أيضاً إلى كلّ من يزور فرنسا سائحاً أو مُتعبّداُ. في بهو هذه الكاتدرائية التي شُيِّدت في العام 1160، والتي استغرق بناؤها أكثر من مئة عام، أُقيمت مراسم تتويج ملوك قصر فرساي، وفيها تُوِّجَ نابليون بونابريت أمبراطوراً لفرنسا، وفيها جرت مراسم جنازات الكثيرين من عظماء فرنسا الخالدين، وجنازات الكثيرين من رؤساء الجمهورية، مثل شارل ديغول، وفرنسوا ميتران. وبقيت “نوتردام” على تعاقب العهود، واحدة من أهم كاتدرائيات أوروبا والعالم. في العام 1831، حُفر اسمها في سجلات تاريخ الآداب العالمية، بعد أن وضع فيكتور هوغو، روايته الشهيرة “أحدب نوتردام”، فأصبحت بفعل هذه الرواية، أشهر كاتدرائية في العالم، لا تُنافسها في الشهرة، إلّا بازيليك القديس بطرس البابوية (Basilica Sancti Petri)) في الفاتيكان.

في فرنسا التي جاءها طالباً سنة 1981، وبدأ العمل فيها سنة 1984، صنع اسكندر صفا شهرته وثروته، وفيها نسج علاقاته الدولية، فحقّ عليه من باب الوفاء، أن يُبادل فرنسا الود بالود، والعرفان بالعرفان، وأن يُساهم في ترميم  كاتدرائيتها العظيمة، الأمر الذي قد يجعلك تتساءل أيها القارئ الكريم، ولك الحق بأن تتساءل، ما إذا كانت لدى الرجل نيّة تقديم عطاءٍ مُماثل  لبلده لبنان، والمساهمة في ترميم أحد معالمه الأثرية التاريخية. لن أطرح السؤال على اسكندر صفا، سأجيب نيابةً عنه وعن الآف رجال الأعمال اللبنانيين المُغترين: حين تُعيد المصارف اللبنانية وديعة الرجل في خزائنها، وما أودعه اللبنانيون عموماُ في هذه المصارف، وحين تتوقّف معاول الغرائز الطائفية والقَبَلية عن العَبَث في جسد الوطن وروحه، وترفع العصابات الحاكمة يدها عن البلد، عندئذ يُمكن لبنان أن يَطلب إلى صفا، وإلى مئات الألوف من أبنائه المُنتشرين في القارات الخمس، المجيء إلى لبنان، ووضع المال فيه. لكن، ليعلم أهل السلطة، وحيتان المال، ومُغتصبو أموال الناس، والمُرجّح أنهم صاروا الآن يعلمون، أن لا أحد من اللبنانيين العقلاء، سوف يثق بلبنان بعد اليوم، لا بنظامه ولا بمصارفه ولا بحاكم من حكامه، وأن الأمر باق كذلك، ما دام البلد في قبضة عصابات جائرة، أفقدته دوره التاريخي، ولوّثت سمعته، وحوّلته إلى مُتسَوّل أمام أبواب الدول وصناديق النقد.

في عقود ماضيات كان لبنان من أجمل دول العالم، وأغنى دولة في الشرق الأوسط. كانت أرضه غنية سخية، وكانت جباله خضراء وبساتينه غنًاء، وكان هواؤه نقياً، ونقده سليماً، ولم يكن بحاجة إلى منحة صندوق نقد من هنا، ومنحة صندوق نقد من هناك. كان قوياً بضعفه وتواضعه، وهذه معادلة في السياسة لا يفهمها إلا العقلاء، ذلك لأن لهذا البلد الصغير من ثراء الطبيعة، وثروة بَنيه وعقولهم، ما يكفيه ويُغنيه عن طلب المعونة من أيٍّ كان، حظّه العاثر أن القدر نكبه بطبقةٍ من أسوأ السياسيين في تاريخ الدول والمجتمعات، وبشرائح شعبية من قطعان الغنم، غافلة عن حقوقها، ما زالت إلى اليوم، وبرغم كل  الندوب والجروح، تسير في ركاب رعيانها، تُصفّق لهم وتفديهم بالدم والروح!

أعود إلى كاتدرائية “نوتردام”، وعطيّة اللبناني المهاجر، فتُطالعني خيالاتُ وطنٍ كان مثل “الهدايا في العلب”. أنظر في صحائف قديمة خطها لبنانيون راحلون، علّني أجد بين سطورها ما يعكس وجه البلد الذي كان مَصيَفَ الشرق وخزانته، فندقه ومقهاه، مطبعته ومكتبته، جامعته ومشفاه. أفتح كتاباً قديماً عنوانه “الحقيقة اللبنانية” لأديب لبناني عاش في أربعينات القرن الماضي اسمه عمر فاخوري. كتابٌ حفر الزمن في غلافه أخاديد وتجاعيد. أقلًب صفحاته البالية وقد تلطّخ بعضها بوضر الزيت، فأجدها ما زالت تفيض رقة وعذوبة وبلاغة. تكتبني الكلمات وتحملني على التأمل، فأُمَنّي النفس بيومٍ يسترد لبنان فيه عافيته، ويقول أديب معاصر في شعبه، ما قاله عمر فاخوري بالامس في شعب لبنان، يوم كان لبنان حديث عهد بالاستقلال: “أبناؤه في النواحي الأربع من الأرض، بُناة المدن والسفن، المُخاطرون غير مغامرين، المُثقّفون طبعاً وتطبّعاً، المُتحفّظون في غير تزمّت، المُجدِّدون من غير تعسّف، ناشرو الأبجدية قديماً، وحضنة العربية حديثاً، أبناؤه السُمر الميامين، حملة رسالته الثقافية في العالم”.

لله دُرًك يا عمر فاخوري. كم جميلٌ ونظيفٌ وصادقٌ أنت، وكم بليغة وآسرة هي يراعك، وكم أنت ضحلٌ وسخيفٌ وتافه، أيها السياسي اللبناني.

  • رؤوف قبيسي هو كاتب وصحافي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى