بين “القيصر” و”الصندوق”
بقلم راشد فايد*
كل ما يُشاع ويُذاع ويملأ الأسماع، ومن أي مصدر، يُفيد بأن لا علاقة للثنائي الشيعي، من قريب أو من بعيد، بعصابة حي “الخندق الغميق”، المُشرِف على وسط بيروت، وما رفعته من شعارات استفزاز ديني، واستنفار وتنفير طائفي، “محتقر في همتي كشعرة في مفرقي”، على قول أبي الطيب المتنبي. ليس في ذلك تجبّر أو تكبّر، على طريقة الشاعر، بل تعبير عن الإشمئزاز من ديكتاتورية الإستغباء، التي تعتقد، هنا، أن الناس سُذَّجٌ إلى حدّ إسماعهم اليوم، عكس ما أصغوا إليه بالأمس، وأنهم لا يملكون حق التمييز بين الحقيقة والزيف.
الحقيقة أن ما وصلنا إليه اليوم هو نتاجُ زرع قديم، من زمن سقوط الإحتلال الإسرائيلي، حين انصبت أدبيات الأمين العام لـ”حزب الله”، السيد حسن نصرالله، على تكريس تميّز غير وطني لما سمّاه “البيئة الحاضنة” التي احتكر لها كل الفضائل، رامياً كل المثالب على الآخرين، ومُخَوِّناً جمهورهم، ومُتجاهلاً ولادة جذور مقاومة الإحتلال الإسرائيلي اللاطائفية فور الإجتياح، في شوارع بيروت، وحتى كمائن الإغتيال “الصديقة”، تحديداً في الجنوب، لمجموعات مقاتليها البواسل.
عمليا، هو انعزالٌ ضمني إرادي، ورفعُ هويّةٍ صغرى للتمايز، والإثنان يُناقضان كل السفسطة عن الوحدة الوطنية، والعيش المشترك، لكنهما يُناسبان جمع أوراق ضغطٍ لفرض تغييرٍ جذري في تكوين السلطة، لوّح به المفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان رداً على دعوة لفيديرالية أقلّوية، كما روّج مريدوه.
لكنها ليست المرة الأولى التي يهتف فيها شباب الخندق “شيعة…شيعة”. والمراجع نفسها التي استنكرت الهتاف، والسبّ والشتم بحق السيدة عائشة، كانت كررت الأمر نفسه، وللسبب ذاته، إبان الإنتفاضة الأولى، ولم يمنع استنكارها استعادة التوتير المذهبي نفسه، اليوم. فهو بندٌ في تربية دينية معروفة المرجعية والمَوئل.
تُذكّر الإستعادة بتجارب أهل الممانعة، المحلّييين والإقليميين، لإخضاع قوى “14 آذار” بالإغتيالات كعمليات ردعٍ استباقي لأيّ تصعيدٍ ضد السلاح غير الشرعي وضد الوصاية الأسدية والإيرانية، و”توّجت” بـ 7 أيار (مايو) 2008، الذي فاخر الأمين العام للحزب، ولا يزال، بأنه “يومٌ مجيد”، إلى أن ركنت البلاد إلى تعايش واقعي بين السلاح وخصومه، تحت عنوان أنه مشكلة إقليمية لا لبنانية، وبالتالي فإن معالجته إقليمية ودولية.
لكن ما بين الإستسلام لدور السلاح في الحياة العامة، وبين عدم النقاش فيه، خيطٌ من اللّبس، يفرض على معارضيه أن يُذكّروا باستمرار بموقفهم المبدئي منه، وإلّا بدا كتأييد لدوره العابر للحدود، والقاتل للشعوب. هذا الدور لم يُستشَر به اللبنانيون يوم لبّى الحزب حاجة ايران إليه، فهل عليهم اليوم أن يدافعوا عنه؟ بالطبع نعم في مواجهة إسرائيل، لكن العكس صحيح في ما عدا ذلك. فهو سلاح مقاوم حين يتصدّى للإحتلال، لا للشعوب الباحثة عن حريتها. فكيف وهذا الإحتلال يُباهي اليوم باستقرار حدود فلسطين الشمالية مع لبنان؟
الجواب بين “قانون القيصر” وصندوق النقد الدولي.
- راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: fayed@annahar.com.lb
- يُنشَر هذا المقال في الوقت عينه في صحيفة “النهار” اللبنانية”.