أميركا العائدة إلى ليبيا

محمّد قوّاص*

سنَعرِفُ لاحقًا تداعيات الزيارة المُفاجئة التي قام بها مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) وليام بيرنز إلى ليبيا في 12 كانون الثاني (يناير) الجاري. ففي توقيت الحدث ما يُمكن أن يستشرف دورًا جديدًا للولايات المتحدة في ليبيا وأفريقيا. وقد لا يكون الأمر بعيدًا من تموضعٍ آخر للسياسة الخارجية الأميركية في سياق الحرب الدائرة في أوكرانيا والصراع بين الغرب من جهة وروسيا والصين من جهةٍ أخرى.

يكشفُ الحدث أن واشنطن تُغادِرُ “حَرَدَها” وتُعلِنُ من خلال زيارة أرفع شخصية مخابراتية في العالم أن “أميركا عادت” (America is back) إلى هذا البلد، وفق الشعار الشهير للرئيس الأميركي جو بايدن. وإذا ما غادرت إدارة باراك أوباما الشأن الليبي في العام 2012، فإن بايدن، المحكوم بكمٍّ من الظروف والأسباب والحيثيات الدولية المُستَجِدّة، قرّرَ وقف تلك الاستقالة وإعلام الليبيين كما العواصم المَعنية بالصراع في وحول ليبيا أن واشنطن تعود لاعبًا أساسيًا ومحوريًا بشأن مسار هذا البلد ومصائره.

وعلى رُغمِ مشاركة الولايات المتحدة في الجهد العسكري الغربي للإطاحة بنظام معمر القذافي في ليبيا في العام 2011، غير أن الانخراط المباشر بقي نسبيًا مُقارنةً بذلك الفرنسي والبريطاني. كانت إدارة أوباما تعتبر أن المشكلة الليبية هي “شأنٌ أوروبي” وأن على واشنطن أن تبقى داخل هذه الأزمة في صفوفٍ مُتراجِعة باتّساق مع عقائد “القيادة من الخلف” التي نظّر لها أوباما في تلك المرحلة.

وإذا ما كانت تلك المقاربة خيارًا جيوستراتيجيًا انتهجته الولايات المتحدة آنذاك، فإن مقتل السفير الأميركي في ليبيا كريستوفر ستيفنز وثلاثة موظفين أميركيين في الهجوم الذي تعرضت له القنصلية الأميركية في بنغازي في 11 أيلول (سبتمبر) 2012، أثار ردة فعل في واشنطن فيها كثير من النفور السيكولوجي بهجر الشأن الليبي وإخلاء البلد من أيِّ جهد ديبلوماسي وأمني. وتشبه عملية الإخلاء هذه، في عهد أوباما، ما ذهبت إليه إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان حين واجهت عمليات تفجير السفارة الأميركية وثكنة المارينز في لبنان في العام 1983 بانسحابٍ كاملٍ ومُهين للقوات الأميركية من هذا البلد.

والحال أنه من المبالغة تصوّر هجر أميركي كامل لشؤونِ بلدٍ كليبيا منتج للطاقة ويقع داخل مفاصل جيوستراتيجية مهمة. قامت واشنطن في أيار (مايو) 2021 بتعيين سفيرها في ليبيا ريتشارد نورلاند مبعوثًا خاصًا للولايات المتحدة لـ”قيادة الديبلوماسية الأميركية لتحرّي الدعم الدولي من أجل حلٍّ سياسي للصراع” في ليبيا، وفق بيان وزارة الخارجية الأميركية آنذاك.

في المقابل لعبت الديبلوماسية الأميركية ستيفاني وليامز دورًا حيويًا فارقًا حين تولّت مهامًا قيادية داخل البعثات التابعة للأمم المتحدة في ليبيا حتى مغادرتها موقعها كمستشارة للأمين العام للأمم المتحدة للشأن الليبي في نهاية تموز (يوليو) 2022. ووُصِفَت وليامز أنها تفوقت على 6 مبعوثين أمميين إلى ليبيا. صحيح أنه كانت للديبلوماسية الأميركية صفة أممية، غير أن كلَّ المعنيين بالصراع الليبي، في الداخل والخارج، كانوا يتعاملون معها بصفتها عين الولايات المتحدة في ليبيا وأذنها ولسانها. وعلى هذا فإن تحرّك واشنطن على مستوى مدير الـ “سي آي. إي” يقوم على معطياتٍ دقيقة بشأن الملف الليبي وتعقيداته.

لم تكن المباحثات التي أجراها بيرنز مع رئيس حكومة “الوحدة الوطنية” عبد الحميد الدبيبة من جهة وقائد الجيش الوطني خليفة حفتر من جهة أخرى محصورة، كما قد يوحي منصب الضيف الأميركي، بالشؤون الأمنية. جاء الرجل إلى ليبيا بعد أسابيع على قيام حكومة الدبيبة بتسليم أبو عجيلة مسعود المريمي، وهو ضابط استخبارات سابق، إلى السلطات الأميركية التي تحاكمه بتهمة التورّط في صنع قنبلة “طائرة لوكربي”. وكان مسلحون قد “خطفوا” المريمي من منزله في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، ما أثار جدلًا وغضبًا داخليًا بشأن شرعية الأمر ووجاهته ومصلحة حكومة الدبيبة من ورائه. ويبدو أن هذا الغضب علّق عملية كانت مُعَدّة لتسليم عبد الله السنوسي رئيس المخابرات الليبية في عهد القذافي إلى واشنطن. ومع ذلك فإن بيرنز، رجل الأمن الأول في الولايات المتحدة، حمل إلى ليبيا ملفات، تتجاوز الأمن فقط، وتتناول شؤون التعاون والاقتصاد والطاقة والتسوية السياسية.

والأرجح أن الانقسام السياسي الليبي الداخلي الذي بات بنيويًا هو الذي حثّ واشنطن على العودة إلى ليبيا من خلال بوابات الـ”سي آي إي” وليس وزارة الخارجية أو البيت الأبيض. تدفع واشنطن برجل أمن على مستوى بيرنز حتى لا يُساء تفسير زيارات سياسييها وكأنها اقتحامٌ للمشهد السياسي المعقّد لصالح طرفٍ على حسابِ طرفٍ آخر. تبدو زيارة أرفع شخصيات الإدارة الأمنيين، استطلاعية في الإمكان البناء عليها لتشييد سياسة أميركية رسمية تنخرط فيها مؤسسات الإدارة الأخرى.

حَريٌّ في سياق الحدث التذكير بأن خلفية بيرنز ليست أمنية عسكرية كما قد يوحي منصب مدير وكالة الـمخابرات المركزية الأميركية. الرجل ديبلوماسي رفيع المستوى شغل منصب نائب وزير الخارجية وقاد في عهد أوباما وفد المفاوضات الأميركي مع إيران بشأن برنامجها النووي والتي انتهت باتفاق فيينا الشهير في العام 2015. سبق لبيرنز أن كان سفيرًا لبلاده في الأردن، لكنه شغل أيضًا منصب السفير في موسكو ما يكشف عمّا يملكه الرجل من زادٍ لمُقارَبة المشهد الدولي الراهن. وإذا ما اختار بايدن هذا الديبلوماسي لتولي إدارة وكالة المخابرات، فذلك يفصح عن دور الوكالة ومهامها تحت إدارته.

ذهب بيرنز إلى بيت القصيد مُتجاوزًا طقوس وبروتوكولات المرور من خلال المؤسسات السياسية المُتشَظِّية المُتعدّدة التي توالدت لتشكيل السلطة بعد اندثار نظام القذافي. التقى الرجل بالدبيبة وحفتر مُعترفًا بذلك بدورهما الأساسي في تسيير أو عرقلة أي تسوية مُمكنة في ليبيا. يشمل هذا الاعتراف إقرارًا بما يملكه الرجلان من نفوذ على بقية المتنفذين في الشرق والغرب، ما يوفّر على بلاده الجهد والوقت لفهم ليبيا والتعامل مع حقائقها.

لم يتسرّب الشيء الكثير عما دار في محادثات بيرنز في ليبيا. غير أن تقارير أميركية خمّنت اندفاع واشنطن لإعادة احتلالِ حَيِّزِها داخل ليبيا وتثبيت علامات في هذا البلد من ضمن خريطة طريق شاملة للقارة الأفريقية تهدف إلى مواجهة التمدّد الروسي العسكري من خلال قوات “فاغنر” في ليبيا والسودان ومالي ومنطقة الساحل والصحراء ووسط أفريقيا. ويكشف الأمر انخراط الولايات المتحدة في التصدّي للنفوذ الروسي في العالم بما يتجاوز ميدان أوكرانيا. لكن الورشة الأميركية تسعى أيضًا إلى تدبير سوق الطاقة إثر الأزمة التي سبّبتها حرب أوكرانيا داخل هذا القطاع، وترتيب موقع ليبيا الطاقوي الراهن والمقبل.

قد يُمثّل صمت بنغازي وطرابلس بشأن زيارة بيرنز وما حمله وما سمعه في ليبيا إدراكًا لأهمية التحرّك الأميركي الجديد وجدية التعويل عليه. لكن بيرنز جاء يُقوّي زخمَ ورشةٍ سياسية ليبية تستضيفها القاهرة وأُخرى عسكرية في سرت. وتتحدث المعلومات عن نشاطٍ مُكثّف وغير عادي للبعثة الأميركية في ليبيا يُقوّي من عضد البعثة الأممية لتدبير تسوية تنهي العبث الذي بات يقلق واشنطن ويُحفّز عودتها.

لكن الصامت الأكبر تبقى الولايات المتحدة التي لم تُصدِر إدارتها توضيحًا رسميًا لمهمّة بيرنز في ليبيا. وإذا ما كان منطقيًا أن تقلق روسيا وتركيا (التي دفعت رئيس مخابراتها هاكان فيدان على عجل إلى طرابلس) من عودةٍ حيوية للولايات المتحدة في ليبيا، غير أن البلدين ودول الجوار المُنخَرِطة بأشكالٍ ومُستوياتٍ مُتباينةِ النفوذ والنجاعة، راقبت جميعها حدث الزيارة وتدرس بعناية ما وصلها من معطياته بشأنه، ما يستشرف تموضعًا جديدًا لها لمُقاربة التحوّل الأميركي المُستَجِد.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى