التقدّم في معالجة الأمراض السرطانية

في مناسبة اليوم العالمي للسرطان، يكتب الأخصائي العالمي في أمراض السرطان الدكتور فيليب سالم عن التقدم الذي حققه الطب في حربه الطويلة للقضاء على جميع أنواع هذا المرض الخبيث.

بقلم د. فيليب سالم*

في مناسبة اليوم العالمي للسرطان، جئنا نُـحَـدِّد بــالأرقــام حـجـم الـتـقـدّم فـي معالجة الأمـــراض الـسـرطـانـيـة. فــي تـقـريـر نـشـرتـه حديثاً الجمعية الأميركية للسرطان، جاء فيه أن الدراسات أثبتت أن نسبة الوفاة من هذه الأمراض قد انخفضت في الولايات المتحدة ٣٠ في المئة منذ سنة ١٩٩١. وبهذا يكون قد وفّر هذا الإنخفاض الحياة لمليونين و٩٠٠ ألف شخص كانوا سيُلاقون حتفهم لولاه. إن أكـبـر تـقـدّم حـصـل كــان فـي سـرطـان الرئة؛ إذ إن نسبة الوفاة انخفضت ٥١ في المئة عند الرجال، و٢٦ في المئة عند النساء. وذلـك يعود ليس فقط إلى انخفاض نسبة المُدَخّنين؛ بل أيضاً إلـى التطوّر المُذهل في معالجة هذا المرض بواسطة العلاج المناعي ِ والعلاج المُستَهدِف. تقول الدكتورة “هيلينا يو” ( Helena Yu)، وهـــي بــاحــثــة فــي مـعـالـجـة ســرطــان الرئة، وأستاذة في مركز “ميموريا سلون كيتيرنغ سنتر كانسير” ( Memoria Sloan Kettering Center Cancer) في نيويورك: “إن العلاج المناعي أعطانا الفرصة التاريخية لنجرؤ، ولأول مرة، على الكلام عن إمكانية الشفاء التام من سرطان الرئة”.

والتقدّم الكبير الثاني كان في معالجة سرطان الجلد “ميلانوما” ( Melanoma)، وذلـك للسبب نفسه. فالدواء”زيلبوراف” (Zelboraf) يستهدف الخلل الـجـيـنـي (genetic mutation) فــي الـخـلـيـّة الـسـرطـانـيـة ويـقـتـلـهـا. أمــا أدويـــة الـعـلاج المــنــاعــي، مـثـل “يِرفوي” (Yervoy)، و “كيترودا” ( keytruda)، و”أوبديفو” (Opdivo) ، فــهــي لا تـسـتـهـدف الـخـلـيـّة السرطانية مُـبـاشـرة؛ بـل تستهدف أجهزة المناعة فـي الجسم وتقوّيها، لتصبح هذه الأجــهــزة ذاتـهـا قــادرة عـلـى تـدمـيـر الخلية السرطانية.

وكـنـتـيـجـة لــهــذه الــعــلاجــات الـجـديـدة والــفــعّــالــة، أصــبــحــت نــســبــة الــبــقــاء عـلـى قيد الــحــيــاة لـخـمـس ســنــوات لـــدى المُـصـابـين بـــالـ”ميلانوما” المُـتـقـدّمـة، ٩٢ فـي المئـة، وكـانـت هـذه النسبة قبل سنة ٢٠١١ خمسة في المئة. إن سنة ٢٠١١ كانت سنة تاريخية؛ إذ إنها كانت الحدّ الفاصل بين ما قبل العلاج المناعي وما بعده.

ومن أهم الاستراتيجيات اليوم لمعالجة هذه الأمراض، هي المعالجة بواسطة مزيج من العلاجات، وليس بواسطة علاج واحد فـقـط. إن هـذه الاستراتيجية تـُدمّـر الخلية السرطانية من جهات مختلفة. وقد أثبتت الأبحاث العلمية أن المعالجة بواسطة مزيج مــن الــعــلاج المــنــاعــي والــعــلاج الـكـيـمـيـائـي لـسـرطـان الــرئــة، تُـعـطـي نـتـائـج أفـضـل من المـعـالـجـة بــأحــد هــذيــن الــعــلاجــين. وكـذلـك هــو الــحــال فــي مـعـالـجـة ال”ميلانوما” وأمـــــراض ســرطــانــيــة أخــــرى. لــهــذا بــدأنــا نــحــن، ومــنــذ خــمــس ســـنـــوات، فــي مـركـز الــســرطــان الـــذي يـحـمـل اســمــي فــي مـديـنـة هــيــوســتن، بـاسـتـراتـيـجـيـة جــديــدة، وهـي اســتــخدام مـــزيـــج مـــن ثـــلاثـــة عـــلاجـــات: المناعي، والكيميائي، والمُستَهدِف. في هذه الاسـتـراتـيـجـيـة يـخـضـع كــل مــريــض لـهـذه العلاجات الثلاثة. ولكن نوع الـدواء في كل واحد من هذه العلاجات يختلف من مريض إلــى آخــر بـحـسـب نــوع المــرض، ومعالجته السابقة، وهويته البيولوجية التي تُحدّدها الــدراســات الـجـيـنـيـة. وبـذلـك يـكـون الـعـلاج مُرَكَّباً خصّيصاً لمريض واحـد مُعيَّن. وبـذا يختلف العلاج من مريض إلى آخر، بعكس الـعـلاجـات الـتـي كـانـت تـُعـطـى فـي المـاضـي لمئات من المرضى، من دون أي اعتبار للهوية البيولوجية للمرض. فــي الــبــدايــة قُـمـنـا بــعــلاج المــرضــى في الـحـالات المُتقدمة جــداً، والـتـي لـم يستجب فيها المرض للعلاجات التقليدية. ورغم ذلك كانت النتائج مذهلة. ونشرت هذه الأبحاث بـشـكـل مـوجـز فـي أعـمـال المـؤتـمـر الـسـنـوي لـلـجـمـعـيـة الأمــيــركــيــة لمـعـالـجـة الأمـــراض السرطانية (ASCO) الـذي عُقد فـي حزيران (يونيو) ٢٠١٩. وما يُميز هذه النتائج أنها لـم تـكـن مـحـصـورة فـقـط فـي سـرطـان الـرئـة وال”ميلانوما”؛ بل تعدّتها إلى سرطانات أخــرى، كـالـبـنـكـريـاس، والـجـهـاز الهضمي، والـلـيـمـفـومـا، وســرطــانــات المـثـانـة والـكـلـى والكبد.

فـي رحلتي مـع الـسـرطـان التي امتدت على مدى ٥٢ عاماً، لم أعـرف مثل هذه النتائج، إذ إن نسبة زوال كل مظاهر المـرض عند المريض (Complete remission) تفوق ٦٠ فـي المئة. والمُميِّز الثاني أن هذا العلاج يصلح للسواد الأعظم من المرضى؛ إذ إننا لم نتعرّف بعد على مرض لا يتفاعل إيجابياً مع هذا المنحى من العلاج. ورغم ذلك، أريد أن أُشدّد على ما أُردّده دائماً؛ إذ إنني تعلمت شيئاً كبيراً من تجربتي الطويلة في الأبحاث العلمية. لقد تعلمت التواضع، وتعلمت ألا أُبهَر بالنتائج الأولية. لذلك نحن ننتظر نتائج الدراسات الأخرى التي يقوم بها زملاؤنا.

وكــم تـعـلـمـنـا مــن عـلـم المــســح الـجـيـنـي وتــحــديــد الــهــويــة الـجـيـنـيـة لــلــمــرض! لـقـد تـعـلـمـنـا أنــه لــو كــان هـنـاك عشرة مـرضـى من المُــصــابــين بــســرطــان الـــرئـــة، فـــإن الــهــويــة الجينية تكون عند كل واحد منهم مختلفة عن الآخر، وبالتالي يجب أن يكون علاج كل واحـد منهم مختلفاً عن الآخـر. لقد تعلّمنا أن علاج المريض يجب أن يُقاس على قياسه. ومن هنا نشأت اليوم معضلة جديدة، وهي الآلية لتحديد الهوية الجينية؛ إذ إنه ليست هناك مختبرات كافية في العالم قادرة على القيام بهذه الفحوصات بالطرق الحديثة. هــذه المـخـتـبـرات مــوجــودة فـقـط فـي المـراكـز الكبيرة للسرطان. هذه المشكلة هي واحدة من الأسباب التي أدّت إلـى هـوة علمية بين الــولايــات المـتـحـدة وبـقـيـة الــعــالــم. فنسبة الـوفـيـات مـن الـسـرطـان فـي بريطانيا هـي ٢٠ في المئة أكثر مما هي في الولايات المتحدة، وهـي ١٠ فـي المئـة أكـثـر فـي كـنـدا وفرنسا. وبحسب دراسـة نشرت في مجلة “لانسيت” (Lancet) البريطانية، فإن المريض بسرطان البنكرياس في الولايات المتحدة تكون عنده نسبة البقاء على قيد الحياة لمدة خمس سنوات، مرتين أكثر من مريض في بريطانيا. وإذا أخذنا مريضاً مصاباً بسرطان المعدة، تكون هذه النسبة في الولايات المتحدة ٣٣٫١ في المئة مُقارنة بـ٢٠٫٧ في المئة في بريطانيا، و٢٦٫٧ في المئة في فرنسا. وهناك أسباب أخـرى وراء هذه الهوة ومنها أن دولا مثل بريطانيا وفرنسا وكندا تعمل بأنظمة الرعاية الصحية حسب المفاهيم الاشتراكية؛ حيث تفرض الدولة على الطبيب معايير محددة للعلاج. ففي بريطانيا مثلاً لا تُشجع أنظمة الرعاية الصحية على استعمال العلاج المناعي في معالجة سرطان الرئة، رغم أن جميع الأبحاث العلمية تؤكد فعالية هذا العلاج.

نـحـن عـلـى عـتـبـة عـصـر جــديــد، عصر العلاج المناعي. والإحصائيات التي أشرنا إليها تعكس قسماً من الحقيقة، ولا تعكس كل الحقيقة. فهناك أمران تتجاهلهما هذه الإحصائيات؛ الأول وهو أن أكثر من ٩٠ في المـئـة مـن المـرضـى المـصـابـين بـالـسـرطـان لا يتلقّون أي عـلاج فـعّـال. والأمــر الثاني هو أن الذين يخضعون لعلاجات فعّالة، يتلقى ١ فــي المئــة مـنـهـم فـقـط عــلاجــات حـديـثـة ومُتَطوّرة يستعمل فيها العلاج المناعي.

إن الـوعـد كبير والأمــل أكـبـر. الإحـبـاط ليس خـيـاراً، والمحبطون لا يمكنهم صنع المـسـتـقـبـل. نـصـف قـــرن مــن الــصــراع ضـد الـسـرطـان. لقد تعلمت أن أُحــدّق فـي النور البعيد وألا أخاف الظلمة التي تملأ المكان.

  • الدكتور فيليب سالم هو رئيس مركز سالم للسرطان في هيوستن.
  • نُشر هذا المقال أيضاً في صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى