روسيا تقترب من نقطة اللاعودة

كابي طبراني*

بعد أيامٍ قليلة من إلغاء يفغيني بريغوزين مسيرة “فاغنر” العسكرية في 24 حزيران (يونيو) باتجاه موسكو، والتي كان أطلقها لإجبار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تقديم تنازلات، ألقيتُ نظرةً أخرى على فيلمٍ وثائقي من منتصف التسعينيات الفائتة للصحافي البلجيكي تييري ميشال. يدور الفيلم الوثائقي حول موبوتو سيسي سيكو، الحاكم الاستبدادي لزائير -المعروفة الآن بالكونغو- والمغتربين الأوروبيين في كينشاسا الذين يعتمد مصيرهم على بقائه. إن أوجه التشابه مع العلامات الأخيرة لعدم الاستقرار في روسيا ووفاة بريغوزين المشبوهة في حادث تحطّم طائرة في الأسبوع الفائت لافتة جدًا.

في أعقاب “ثورة” بريغوزين الفاشلة، كان من الغريب مشاهدة أجزاء من فيلم ميشال التي تُغطّي تمرّدات أيلول (سبتمبر) 1991 في كينشاسا التي قامت بها قوات النخبة غير مدفوعة الأجر. وأدّت تلك التمردات إلى عملياتِ نهبٍ واسعة النطاق من قبل السكان الكونغوليين الفقراء الذين أصبحوا يائسين بعد مشاهدة النُخَبِ الكليبتوقراطية وهي تنهبُ الدولة لعقودٍ من الزمن. عندما يشاهد المرء صور الانهيار الاجتماعي الذي حدث قبل ثلاثين عامًا والذي بدأ المجتمع الكونغولي التعافي منه للتو، يتساءل ماذا كان سيحدث في موسكو لو بلغ تفريغ مؤسسات الدولة في عهد فلاديمير بوتين ذروته مع سيطرة القوات المتمرّدة على شوارع المدينة. إن احتمالَ أن يكون موت بريغوزين عملية اغتيال أمَرَ بها بوتين سوف يخيف في البداية الروس المُحبَطين بسبب الركود الاقتصادي والخسائر في ساحة المعركة في أوكرانيا. ولكن كما أشار المؤرخ البريطاني مارك غالوتي، فإنَّ تراجع بوتين عن التزامه الأوّلي بالعفو عن بريغوزين يعكس انهيار الثقة بين النُخَب، وهو ما من شأنه أن يقوِّضَ تماسك نظام بوتين.

تشيرُ الأزمات التي شهدتها الكونغو في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين إلى الكيفية التي يُمكن بها لعمليةِ انحلال الدولة أن تستمرَّ لعقودٍ من الزمن. وحتى عندما تصبح مؤسسات الدولة مُجَوَّفة وفاسدة تمامًا، فإنَّ المستبدَّ يبقى قادرًا على التشبّث بالسلطة إذا لم يكن هناك خليفة واضح يمكنه الاستمرار في حماية مصالح فصائل النخبة التي يتشابك مصيرها مع الوضع الاستبدادي الراهن. حتى مع حدوث تمرّدات عسكرية وعمليات نهب واسعة النطاق وتدخّلات فاشلة من قبل الجيشَين البلجيكي والفرنسي لتحقيق الاستقرار في النظام في العام 1991، ظلَّ موبوتو يتفوّق على منافسيه مثل إتيان تشيسكيدي لمدة نصف عقد آخر، حيث ظلت النُخَب اليائسة مشلولة بسبب الاقتتال الداخلي.

على الرُغمِ من وجود العديد من الاختلافات الهيكلية بين دولة أفريقيا الوسطى المتعثّرة في الثمانينيات وروسيا في عشرينيات القرن الحالي، فإنَّ الوَضعَ في روسيا يعكس بقوة العوامل التي أبقت موبوتو في السلطة لفترةٍ طويلة بعد أن أصبح فشل دولته واضحًا تمامًا. وكما كانت الحال في الكونغو في عهد موبوتو، فإنَّ بوتين، الذي تعتمد سلطته على نظامٍ شخصي، أصبح في غيابِ خليفةٍ واضح الحَكَمَ الوحيد في نزاعات النُخبة. ومهما أدّى تعامل بوتين مع بريغوزين إلى زيادة التوترات داخل نظامه، فما دامت النُخَب الروسية مُنقَسمة، فإن موقعه سيظل آمنًا. وبدلًا من تشجيع هذه النُخب لكبار القادة العسكريين والمدنيين على العمل معًا لإيجادِ خليفةٍ قابل للحياة، فإن الهزيمةَ في الحرب أو الانهيار الاقتصادي يمكن أن يدفعاها إلى تجنّب التدابير الجذرية اللازمة لإسقاط بوتين، خوفًا من الاضطرار إلى تحمّل المسؤولية عن الأزمة التي قد تتبع الإطاحة به.

علاوةً على ذلك، فإن الحَجمَ الهائل للإصلاحات اللازمة لمنع انهيار الدولة والمجتمع في روسيا من شأنه أن يؤثّر حتمًا في مصالح فصائل النخبة فضلًا عن الفئات الاجتماعية الأوسع. ومن المرجح أن يؤدي أي جهد لإزالة الضرر الذي ألحقه بوتين بروسيا وجيرانها، في المدى القصير، إلى تنفير الجماعات القوية التي لها صلات بالجيش والأجهزة الأمنية، حتى لو كانت مثل هذه التدابير ضرورية لضمان بقاء الدولة الروسية في المدى الطويل. ورُغمَ أنَّ فصيلًا قد يَظهَرُ أنه على استعدادٍ للسعي إلى التغيير انطلاقًا من مزيجٍ من الوطنية والمصلحة الذاتية، فإن التعقيدَ الهائل لهذه التحديات من المرجح أن يؤدي إلى إصابةِ النُخَب الروسية بالشلل على النحو الذي من شأنه أن يُمَكِّنَ بوتين من تأخير الحساب إلى فترة طويلة بعد أن يُصبحَ الضرر الذي أحدثه غير قابلٍ للإصلاح.

إنَّ إمكانيةَ تجنّبِ نقطة اللاعودة هذه بالنسبة إلى روسيا تعتمد بشكلٍ كبير على ما إذا كانت الصدمات الداخلية أو الخارجية قادرة على إرغام النخب الروسية على تنحية خلافاتها جانبًا والبدء في إعادة هيكلة النظام السياسي المُصَمَّم بالكامل لجعل استبدال بوتين أمرًا صعبًا. ورُغمَ أن سقوطَ موبوتو تسارعَ من خلال تدخّل الجيشين الرواندي والأوغندي في العام 1996، نتيجةً لتعاونه مع ميليشيات الهوتو العرقية التي ارتكبت أعمال إبادة جماعية في رواندا، فمن غير المرجح أن يؤدي الفشل العسكري في أوكرانيا إلى التعجيل بانهيارٍ سريعٍ مُماثل لنظام بوتين. وبتمتّعه بقوة الردع النووي الروسية، فإن بوتين لن يواجه قريبًا ذلك النوع من التقارب  والالتقاء بين التدخّل العسكري الخارجي والتمرّد الداخلي الذي أرغم موبوتو أخيرًا على الفرار في أيار (مايو) 1997.

لقد ساعدَ انقسامُ النخبة والشلل في إبقاء موبوتو في السلطة لفترة طويلة بعد أن أصبح تأثيره الكارثي في الدولة والمجتمع واضحًا بشكلٍ صارخ – وهو تذكيرٌ بأنَّ فشلَ النظام غالبًا ما يكون عملية بطيئة للغاية. ورُغمَ أن وفاة يفغيني بريغوزين سلّطت الضوء على الاقتتال الداخلي والفساد الذي يعمل على تفريغ الدولة الروسية، فإن استراتيجية فرّق تسد التي ينتهجها بوتين من المرجح أن تساعده على الاحتفاظ بقبضته على السلطة لبعض الوقت.

بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، فإن إدارة المخاطر النابعة من الدولة الروسية، التي يبدو مسارها الطويل الأمد رهيبًا على نحوٍ متزايد، سوف تكون بالغة الصعوبة. بالنسبة إلى كييف، فإن النضال من أجل إخراج الجيش الروسي من أوكرانيا يمكن أن يتبعه جهدٌ مُستَنزِف بالقدر نفسه للتخفيف من التداعيات الإقليمية الناجمة عن عدم الاستقرار في روسيا. وبالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي فإن تطوير الحوافز التي تشجع الروس على ملاحقة عملية الإصلاح وفي الوقت نفسه ردع خلفاء بوتين عن ملاحقة المزيد من الحروب العدوانية سوف يثبت أنه عملٌ توازني مُعَقَّد للغاية.

على الرغم من أنه من المهم بالنسبة إلى أوكرانيا والاتحاد الأوروبي اتباع خيارات تُقلل من مستوى المخاطر التي يواجهانها من موسكو، إلّا أنَّ كييف وبروكسل بحاجة إلى أن تكونا واقعيتين بشأن مدى محدودية تأثيرهما في الأحداث في روسيا إذا أدت الاختلالات في نظام بوتين إلى انفجار الدولة الروسية. وكما فشلت الجهود المحمومة التي بذلتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وجنوب أفريقيا للتوصل إلى اتفاقٍ بين موبوتو وأعدائه في وقف انزلاق الكونغو إلى عقودٍ من الحرب، فقد لا يكون بوسع الغرب أن يفعل إلّا القليل لمنع روسيا من الانزلاق إلى صراع أهلي. عندما يعبر المجتمع الروسي نقطة اللاعودة، فمن المرجح أن الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا وكل دولة أخرى مجاورة لروسيا لن تكون قادرة إلّا على الاحتماء والاستعداد للتأثير والصدمة.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى