الشَعبُ مَصدَرُ السُلطات وصاحبُ السيادة

بقلم غسان سعادة*

عندما يكونُ الواقعُ مُرّاً ومُتدَنّياً وساقطاً، فإن الشعوبَ الحيّة تُنتِجُ الحلولَ للخروجِ مما هي فيه وعليه إلى غدٍ أفضل.

واقعُ لبنان منذ قيامه في بدايات عشرينات القرن العشرين أنه أُقيمَ كدولةٍ مُتميِّزة دولياً، كما عن محيطها، بخصوصيةٍ فريدة هي مصدر قوّتها وضعفها في آن، ألا وهي تعدد طوائف ومذاهب مواطنيها، فإن تعايشوا وتوافقوا كانت الدولة قوية، وإن تفرّقوا كانت الدولة ضعيفة. ولأن هذا الواقع هو ميزة الجمهورية اللبنانية وسبب قيامها فقد فرض نفسه وتمّ تكريسه في ما عُرِفَ بالميثاق الوطني، الذي هو والدستور المكتوب يُشكّلان دستور الدولة اللبنانية.

والواقع أيضاً أن مَن حَكَمَ الجمهورية اللبنانية منذ تكوينها، ومن مواقع القرار في الرئاسات الثلاث (الجمهورية، مجلس الوزراء ومجلس النواب) ومثلهم رؤساء الأحزاب ذات التمثيل الشعبي المؤثّر، إن في المجلس النيابي أو على أرض الواقع، جميع هؤلاء لم يعملوا لا معاً ولا سويةً ولا فراداً على بناء دولة القانون والمؤسسات والمواطنة، إنّما حكموا في الماضي وما زالوا يحكمون من مُنطلق ومنطق الزعامات العشائرية الفردية والقبلية التي أنتجت، وما زالت تُنتج، المُحاصَصة والمحسوبية في تقاسم سلطات الدولة ومغانمها.

اليوم وفي هذا الضجيج السياسي والإعلامي القائم والقاتم والضاغط، ضاعت بوصلة المُواطن، وفَقَدَ رؤياه ووجهة سيره، وأصبح تائهاً في الوطن الصغير بعدما كان في الأمس القريب واجداً  لنفسه ومُحدّداً لوجهة سيره في الإحتجاجات التي اندلعت من جراء فرض ضرائب جديدة في ١٧ تشرين الاول (أكتوبر) 2019، فسار مع مَن سار في مظاهرات سلمية غير مسبوقة من مختلف الديانات والطبقات وفي جميع أنحاء البلاد، مُتّهماً القيادات السياسية (الزعماء) بالفساد والسرقة ومخالفة القوانين والدستور، ومُطالباً بإجراء إصلاحات في السلطة كما في القضايا الإجتماعية والإقتصادية مُردِّداً في ظل الأعلام اللبنانية مع اللبنانيين الآخرين ”بسقوط النظام“  و“كُلُّن يعني كُلُّن“ في إشارة الى الشخصيات الحاكمة بذهنية الطائفية والعشائرية من مختلف الطوائف الدينية التي سيطرت، ولا تزال، على الحكم منذ عقود.

نتيجةً لتظاهرات الشعب في الشوارع والساحات بذلت السلطةُ الحاكمة جهدَها في محاولات لاسترضاء المُتظاهرين، لكن المظاهرات إستمرت في بيروت، وطرابلس، والذوق، وجل الديب، وصيدا، والنبطية، وصور، وزحلة وفي اليوم الثالث عشر من استمرارها اعلن رئيس الوزراء، سعد الحريري، إستقالة حكومته.

كان ذلك إنتصاراً للشعب الذي أقدم على التعبير عن إرادته ممارساً ومجسّداً عملياً وواقعياً ما له من حقوقٍ نصّ الدستور عليها حيث ورد في الفقرة ”د“ من مُقدّمته التي أُضيفت في القانون الدستوري الصادر في 21/9/1990 ”الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة …“.

الآن وفي شهر آب (أغسطس) ٢٠٢٠ نلحظ خفوت أو غياب الكلام عن فساد السلطة السياسية، والمُطالبة بالإصلاح وضرورة التغيير على مبدأ ”كُلُّن يعني كُلُّن“، والمُطالبة بالإصلاحات الإجتماعية والإقتصادية، لذا يُوجِبُ التذكير:

أولاً: يُثبت الماضي والحاضر والواقع أنه من الصعب، إن لم يكن من غير الممكن، في لبنان، لفئة مُنفردة من مُكوّنات المجتمع اللبناني أن تفرض رؤياها للوطن على الفئات الأخرى، وأن السبيل لإصلاح الوطن واستمراره هو الحوار الهادئ والصريح والمُرتكِز على الواقع المُتمثّل بأن لبنان بتعدديته هو وطنٌ نهائي لجميع أبنائه، بغضّ النظر عن انتمائهم الطائفي وعن توجّهاتهم أكانت شرقية أو غربية، عربية أو سورية أو لبنانية، مقاومة، او مسالمة، مناصرة لاقتصاد حر أو لاقتصاد مُوَجَّه، فلبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية تحترم وتصون حرية الرأي والمُعتقَد والمُلكية والمُبادرة الفردية لكل لبناني، فالإختلاف في المفهوم والرؤيا بين لبناني وآخر ليس خيانة ولا هو قرينة تَخلّفٍ أو تَقَدُّمٍ، إن الإختلاف في الرؤيا ما هو إلّا تفعيل لحرية الرأي والمُعتقد وللديموقراطية، وهذا ما يُحرّك ويُولّد التغيير والإصلاح.

ثانياً: الإصلاح والتغيير الذي طالب الشعب به، وكان عنوان نزوله الى الشارع في ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) 2019، أمرٌ من غير المُمكن تجاوزه مهما عمل المُتنكّرون له على تجاهله، لأن مثل هذا التطور الإيجابي هو قدر الشعوب فما من سلطة تنكرت لمطالب شعبها إلّا وسقطت.

ثالثاً: العودة الى التاريخ تقتضي أن تكون عودة للإستفادة من دروس الماضي لا ليُعيد التاريخ نفسه بل على العكس تماماً يجب أن تكون العودة، واحدة لتجنّب ان يُعيد التاريخ نفسه. إن مصير اللبنانيين الآن مرتبط بقيام حوار بنّاء في ما بينهم ليس للعودة لإنتاج صيغة جديدة لصيغة “لا غالب ولا مغلوب”، ولا لصيغة “غالب ومغلوب” أو لصيغة خمسين في المئة مقابل خمسين في المئة، بل بصيغة جديدة تُقيمُ دولة القانون والمؤسسات حيث الشعب لا السلطة السياسية مصدر السلطات وصاحب السيادة يُمارسها عبر المؤسسات الدستورية.

وقفةُ تَرَوٍّ ليعود اللبنانيون المتعلمون والطيبون والمُدركون أن وجودهم ووحدة مصيرهم يقضيان عليهم العودة الى صوابهم ليُركّزوا على مطالبهم المُحقّة والقانونية بالقضاء على الفساد والمُفسدين، وإقامة دولة القانون العادلة التي تساوي في ما بينهم بالحقوق والواجبات.

في القانون نقول أعطني الوقائع لأُعطيك القانون، هذه هي الوقائع وهذا هو القانون، فعلى المُخلصين للبنان أن يتبنّوا ما طالب ويطالب به الشعب اللبناني بإجراء الإصلاحات الإدارية والإجتماعية والإقتصادية تحت سقف دولة القانون والدستور والسيادة، هذا إذا كان لا يزال هناك من يريد للبنان البقاء.

  • غسان سعادة هو محام لبناني مُقيم في بريطانيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى