هل بدأت مرحلة الإفقار الثاني في لبنان؟

بقلم البروفسور بيار الخوري*

ليس ما يجري في سوق القطع اليوم في بيروت عابراً. وعلى الرغم من محدودية أثر سعر الصرف في السوق الموازية حتى اليوم، فهناك رعبٌ مالي اقتصادي ضرب هذا البلد الصغير الذي طالما عاش على ثقافة المُعجِزة اللبنانية. زاره الكثيرون من الذين خرجوا دائماً بانطباعٍ يُفيد بأن كل شيء يؤشّر إلى أن هذا البلد مُنهار… لكنه يستمرّ بقوة شيء ما.

دخل ثَباتُ سعر صرف الليرة عالم المُقدّسات لربع قرن، وتحَوَّل إلى أيقونة ترمز إلى استقرار الأحوال ومناعة الإقتصاد اللبناني.

لم يكن ثبات العملة يوماً دليلاً على قوة الإقتصادات، بل أن التاريخ الحديث، بعد انفراط عقد إتفاقية “بريتون وودز” — التي وُقِّعت في العام 1944 بهدف تأسيس إستقرار مالي دولي — يقول لنا بوضوح أن الدول قد استخدمت ضعف (أو الإضعاف الإصطناعي) عملاتها من اجل منعة اقتصادها. يوم تجاوز سعر صرف اليورو للدولار ١،٥ كان الإقتصاد الاوروبي في قمة الركود، وطالما إتهمت الولايات المتحدة الصين بانها تُبقي على عملتها ضعيفة من أجل إبقاء إقتصادها قوياً.

لكن ماذا لو اقتنع الشعب بشيء؟ يصبح هو الحقيقة بلا شك! ولكل شعب مجموعة من المعتقدات التي يقوم عليها سلوكه الإقتصادي والإجتماعي مثل “لبنان كلّ عُمرو هَيك وراح يضَلّ هَيك”، ويستحيل ان تناقش بالمنطق صحّة هذه المُعتقَدات، بل إنها تتحوّل إلى نوعٍ من المُحرَّمات ممنوع حتى التطرق لها.

وحكاية الليرة اللبنانية إندرجت لسنوات طويلة ضمن مجموعة المُعتقدات-المحرّمات حتّى أن دعوات عدة صدرت في بيروت لسجن أحد كبار الإقتصاديين عندما تجرّأ وتطرق إلى موضوعها وطرحها على بساط البحث.

ليست هذه الأمور بريئة، ولا تحدث كتراكم تلقائي للبنية الذهنية للشعب، بل يجهد الإعلام في العمل عليها بشكل يومي وتُنفَق من اجلها الأموال الكثيرة، ويُجنَّد أخصائيون وإعلاميون لصناعة الصورة الكبرى وتثبيتها في عقل العامة رُوَيداً رُوَيداً، حدثاً بعد حدث وعاماً بعد عام.

لا يُدرك الناس بسهولة أن المُعتقد العام يلعب الدور الاساس في تثبيت الأنظمة الإقتصادية كما يحصل في السياسة، بل لنقل أن قوة هذا المُعتَقد تتحوّل إلى عنصر مُفعِّلٍ للأنظمة وإعادة إنتاجها.

يغفل العامة حقيقة أن الأفكار قد صُنعت منذ بداية التاريخ من أجل خدمة مصالح محدّدة في الزمان والمكان، وأن تغيّر هذه المصالح لا يُراعي قوة تعلّق العامّة بها، ولا درجة ارتباط مصالحهم بها.

لا أحد يُريد إنهيار سعر صرف الليرة، لا لدورها في صحّة الدورة الإقتصادية، بل لأن كثيراً من المصالح قد باتت مُرتبطة بالليرة القوية، ارزاق ٧٠٠ الف عائلة، تعويضات الموظفين، اموال صغار المُودِعين (وبعضهم يعيش على وهم الفائدة المرتفعة) كلها مرتبطة بهذه الليرة… ولكن.

لنعترف ان استقرار الليرة قد صُمّم من أجل استقطاب الودائع وتأكيد سيطرة القطاع المالي على الإقتصاد اللبناني، وأن هذه المُقاربة للإقتصاد قد أدّت إلى ركودٍ تَضَخُّمي شلّ القطاعات المُنتِجة القادرة على امتصاص البطالة وخلق منتجات حقيقية وخدماتية تعمل في سبيل الإستدامة الإقتصادية في المدى البعيد.

ولكن ما حصل بعد العام ٢٠١١ أفقد هذا النموذج الإقتصادي – المالي آخر أفضلياته المتمثّل بإستقطاب الودائع، وبات استقرار سعر الصرف عبئاً ثقيلاً على مَن صنعوا النموذج.

العاصفة لا زالت في أوّلها، وما لم تحصل مُعجِزة (عسى ان تصدق جماعة المعجزات اللبنانية)، فإن مرحلة جديدة قد بدأت تلوح في الافق عنوانها… تحرير سعر صرف العملة الوطنية. فهل تبدأ معها مرحلة الإفقار الثاني للبنانيين بعد الإفقار الأول الذي حصل في فترة ١٩٨٤-١٩٩٢؟

  • البروفسور بيار الخوري أكاديمي وباحث إقتصادي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى