زمَنُ الفراشات البيض!

بقلم الدكتور جورج كلّاس*

فَراشَتي غَيمةٌ صَباحِيَّةٌ، تُطِلُّ مع إعْتِدالِ الأَزْمِنَةِ ولا تَأْفُلُ إلَّا مع تَمزيقِ آخرِ وَرقَةٍ من رَوزْنَامَةِ الصَيْفِ … بِنْتُ كُلِّ الفصولِ هيَ، تُشرِقُ فَصلَيْنِ … تَغفو فَصلَيْنِ … هيَ تَغفو لا تَنَامُ … قلبُها على الربيع، عَيناها على براعِمِ الزَهْرِ و طَرابينِ الحَبَقِ والياسمين … تُسابقُ مَلِكَةَ النَحْلِ على قَطْفِ الرَحيقِ … فراشَتي، سِلْمِيَّةٌ ،خُلْقاً وطَبْعاً… ما هَمُّها بِنَاءُ القُفْرانِ وهَندَسَةُ الشَهْدِ و جَنْيُ العَسَلِ…!
فَراشَتي، مَمْلَكَتُها ليْسَتْ من هذا العالم، ولا طقوسَ لَسْعٍ و لَدْغٍ و لَدْعٍ لها…كُلُّ هَمِّها أنْ تُعلِنَ جَهْراً، أَنَّها هيَ الرَبيعُ، حِلَّةً و نَسَباً وعَصباً وشَوْفَةَ حَال.

فَراشتي، نقيّةٌ وَفيّةٌ بنتُ أَصلٍ و فَصلٍ…

مَع أَوَّلِ قَطْرةٍ نَذَّارَةٍ وطَلَّةٍ غَيمَةٍ هَدَّارَةٍ وريحٍ صَفَّارَةٍ، تَحَسَّسَتْ دَمْعَةَ الصَيْفِ. أدرَكَتْ أَنَّ المَجْدَ دَمَعَ والبَرقَ لمَع وأنَّ الزَمَن َ ليسَ زَمَنَها…رَفَّتْ رَفَّتْ وما كَفَّتْ، حَطَّتْ على بَوَاقي الجُوري، غَطَّتْ على يَوَابِسِ مَردَكوشَةِ الدارِ، نَطَّتْ على قَلَمي، وَشْوَشَتْهُ، إِسْتَأذَنَتهُ، أَوْدَعَتْهُ سِرَّها. قَبَّلَتْ كَتِفي شَمْشَمَتْ جَبيني…! فَراشَتي شَريفَةٌ عَفيفَةٌ، لا تُحِبُّ القُبَلَ، تَصونُ الحُرُمَاتِ تَكْرهُ المُحَرَّماتِ، لا تَمُدُّ جَناحها على أَملاكِ الغَيْرِ أَبداً أَبَداً، تَكتفي بما حَباها الَّلهُ مِنْ خِفَّةٍ جَماليَّةٍ ورَفَّةٍ خَياليَّةٍ..! و قَبلَ اَنْ تَصْفَرَّ الوَرَقاتُ و تَتَعَرَّى الشَجَراتُ و تَرتَسِمَ الغَيْمَاتُ، ضَبْضَبَتَ فَراشتي جَنَاحَيْها، إِتَكَأَتْ على رِمْشيَ، نامَتْ في قلبي، بين تلالِ الوردِ وحدائقِ الأَزهارِ…

قَرأتِ القِصَصَ و حَفِظَتِ ألأشعارَ و الأمثالَ، و تَمَتَّعَتْ بالرواياتِ عن (كليلة و دِمْنَة)، وحَفِظَتِ الحِكَمَ والأَقْوَالَ…ولمّا أدْرَكَتْ أَنَّها ليسَتْ من أبناءِ الطَير، ولا هي من صُنوفِ البَشَرِ ولا مِنْ أَنوَاعِ الحَيوَانِ ولا النبَاتِ..تَيَقْنَتْ أَنَّها أَيقونَةٌ خَفيفَةٌ نَحيفَةٌ ظَريفَةٌ نظيفَةٌ طَريفَةٌ … مَلِكَةُ شَرَفٍ هيَ، تَملِكُ لا تَحْكُمُ، تَعْشَقُ لا تُحِبُّ، تَغُصُّ بِريقِها تَعُضُّ شَفَتَيْها لا تبْكي، عِزَّةُ النَفْسِ غَلَّابةٌ. تتألّمُ لا تَتَوَجَّع، فٕقطْ لأنها كُبَرلِيَّةٌ و صاحِبةُ مَقَامٍ بَيْنَ الأَنَامِ…!

فَرَاشَتي، لَيسَتْ كَباقي الفَرَاشَاتِ.. هِيَ مَعْمُولةٌ لإسعادِ القُلوبِ من دونِ مِنَّةٍ ولا طَنَّةٍ ولا رَنَّةٍ، لا زَفَّةٌ ولا دَفَّة…هيَ فَراشَةٌ فحسب لا غَيْر… و يَكْفيها مَجْداً أَنَّها هِيَ!

لا تَعْتَرِفُ أَنَّ السَبْعَ مَلِكَ الغَابِ، ولا تُقِرُّ بِسلطَةِ النُسُورِ على الطُيورِ…ما يَهُمُّها أنَّها لَيْسَ فيها لِلبَشَرِ شَبَهٌ… وَلَوْ طَفيف !!

  • الدكتور جورج كلّاس أكاديمي، باحث وكاتب لبناني، كان عميداً لكلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى