بالنسبة إلى واشنطن والفلسطينيين، السياسة القديمة ليست بديلاً من السياسة السليمة

زار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكِن أخيراً إسرائيل وفلسطين وبعض الدول العربية، وأعلن عن عكس سياسات إدارة دونالد ترامب وتبنّي من جديد حلّ الدولتين.

حركة “حماس”: أميركا لا تريدها في المعادلة

عمر حسن عبد الرحمن*

كان وصول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكِن إلى إسرائيل في الأسبوع الفائت بمثابة أول مشاركة عامة عالية المستوى لإدارة بايدن في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. بعد أيام من الدعوة لوقف إطلاق النار بين الدولة العبرية وحركة “حماس”، والذي أنهى 11 يوماً من القتال الذي خلّف ما يقرب من 250 قتيلاً في غزة، من بينهم 66 طفلاً، و10 بالغين وطفلان في إسرائيل، أعادت زيارة بلينكن وضع القضية في قائمة الأولويات الأميركية. وكانت أيضاً اعترافاً خفياً بأن تجاهل الصراع ببساطة لن يؤدي إلى زواله.

ولكن ما هو الهدف بالضبط من ديبلوماسية بلينكن الجديدة؟ قبل مغادرته إلى المنطقة، غرّد كبير الديبلوماسيين الأميركيين بأنه تحدّث مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس “لضمان استمرار وقف إطلاق النار، ونقل التزام الولايات المتحدة بالعمل مع السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة لتقديم مساعدة إنسانية عاجلة”. ومن جهته، أضاف الرئيس جو بايدن في بيانه الخاص أن بلينكِن “سيواصل جهود إدارتنا لإعادة بناء العلاقات مع الشعب والقادة الفلسطينيين ودعمهم، بعد سنوات من الإهمال”.

لكن في الأسبوع الذي سبقه، قدّمت الإدارة الأميركية دعماً شاملاً لقصف إسرائيل لغزة تحت مُبرّر “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” – وبشكل ملحوظ عدم تقديم مثل هذا التبرير لاستخدام الفلسطينيين للقوّة. كما أحبطت أربع محاولات في مجلس الأمن الدولي لإصدار بيان يدعو إلى وقف إطلاق النار. ومع ذلك، ادّعت الإدارة إلى حدٍّ كبير الفضل في وقف العنف الذي تجسّد في النهاية من خلال “ديبلوماسية وراء الكواليس”، التي كان من الواضح أن العمل الأساسي فيها قد قامت به مصر، وبدرجة أقل، قطر والأردن.

غير أن ما يتعارض مع مهمة بلينكن لوقف إطلاق النار هو حقيقة أن عباس والسلطة الفلسطينية لم يَكُنا طرفاً فيه، وأن السلطة الفلسطينية بالكاد موجودة في غزة وليس لها نفوذ على “حماس”. لم يتضمّن مسار بلينكن زيارة إلى غزة، مركز المذبحة والوُجهة المُفترَضة للإغاثة الإنسانية الأميركية، أو إلى حيّ الشيخ جرّاح في القدس، حيث أن الجهود المبذولة لاستبدال عائلات فلسطينية بمستوطنين يهود ساعدت على إشعال أسابيع من الاحتجاجات التي أدّت إلى المعركة التي استمرت 11 يوماً بين “حماس” وإسرائيل. وبدلاً من ذلك، إلتقى بلينكِن بعباس في رام الله، ربّما لأنه ليس “حماس” – الذي ربما يكون المصدر الوحيد المُتبقّي لشرعية رئيس السلطة الفلسطينية.

رَجُلُنا في الضفة الغربية

طوال الأزمة التي اندلعت خلال الأسابيع الخمسة الفائتة في القدس وغزة وأبعد منهما، كان عباس شخصية هامشية ليس له أي تأثير تقريباً في الأحداث التي تدور حوله، الأمر الذي أضرّ بمكانته بين جمهوره. على هذا النحو، فإن طبيعة مشاركة بلينكِن تبدو أشبه بتدخّل لإنقاذ المُحاوِر الفلسطيني المُفَضّل لديه، وربما لكبح المكاسب المحتملة ل”حماس” من خلال مشاركتها المباشرة في القتال مع إسرائيل.

خلال لقائه مع عباس، أعلن بلينكن أن الولايات المتحدة ستُعيد فتح قنصليتها في القدس، والتي تعمل كسفارةٍ فعلية للفلسطينيين. من الواضح أن هذه الخطوة وطريقة الإعلان عنها كانت تهدف إلى إعطاء عباس شيئاً ملموساً عن القدس يُمكن أن يُظهِره لشعبه. كما ترافق مع تعهدات جديدة بتقديم مساعدات أميركية للفلسطينيين.

ما مدى تأثير ذلك في إحياء صورة عباس هو سؤال مفتوح. إن مشاكل رئيس السلطة الفلسطينية تذهب إلى ما هو أبعد من البصريات. تُظهر استطلاعات الرأي بانتظام أن أكثر من 65٪ من الفلسطينيين يريدون أن يستقيل عباس، وتشعر الغالبية أن السلطة الفلسطينية أصبحت عبئاً عليها. هذه الأرقام لا تعكس بعد الضربة التي تلقاها عباس من اندلاع الصراع الأخير، أو قراره في 29 نيسان (إبريل) بإلغاء الانتخابات البرلمانية التي كانت حركة “فتح” التي يتزعمها تواجه فيها تحدّياً خطيراً لاستمرار حكمه (القرار أثار إدانة واسعة بين الفلسطينيين. قبل أن تسرق التطورات في القدس تركيز الانتباه). نظراً إلى أن آخر انتخابات للسلطة الفلسطينية قد جرت في العام 2006، لا يتمتع عباس بتفويض ديموقراطي. وبدون رؤية أو استراتيجية مُقنِعة للمستقبل التي يُمكن أن يلتفّ حولها الفلسطينيون، يواجه الرئيس والسلطة الفلسطينية أزمة شرعية عميقة.

وتضررت سمعة حركة “حماس” أيضاً بسبب سنوات من الحكم غير الفعّال في قطاع غزة من دون تفويضٍ شعبي (أظهرت استطلاعات الرأي في آذار (مارس) أنها تتجه إلى الانتخابات بدعمٍ يتراوح بين 20 و30 في المئة). ومع ذلك، فقد سمح القتال الأخير ل”حماس” بإثبات موقفها من المقاومة المسلحة – وبأن صواريخها كانت قادرة على تعطيل الحياة الإسرائيلية، وجذب الاهتمام والإلحاح الدوليين، والإثبات للعالم أنه لا يوجد حلٌّ عسكري في غزة. وأظهرت “حماس” أنها حسّنت قدراتها على الرغم من ثلاث حملات قصف إسرائيلية كبرى أخرى والحصار المفروض على القطاع منذ 14 عاماً. علاوة على ذلك، أثبتت “حماس” علاقتها بما يتجاوز غزة من خلال “الدفاع” عن القدس والمسجد الأقصى بعد أسابيع من العمليات الإسرائيلية العدوانية ضد الفلسطينيين في المدينة المقدسة خلال شهر رمضان (وهي فترة بدا فيها عباس عاجزاً بالمقارنة). ومن الصحيح أيضاً أن تدخّل “حماس” يُثير الاستقطاب بين الفلسطينيين، حيث يرى الكثير منهم أن إطلاق الصواريخ على إسرائيل لا يؤدي فقط إلى المزيد من الموت والدمار في غزة، ولكنه يلقي بظلاله على الانتفاضة الشعبية واسعة النطاق التي استمرت في بقية البلاد، حتى بعد وقف إطلاق النار.

ومن المفارقات أن إطلاق الصواريخ من قبل “حماس” أجبر إدارة بايدن على الاهتمام المُتردّد وجعل مصير عباس مسألة مثيرة للقلق. على عكس السلطويين الآخرين في الشرق الأوسط، يبدو أن شرعية عباس للغرب تعتمد الآن على كونه البديل من الجهات الفاعلة التي تجدها الولايات المتحدة غير مُستساغة.

نهجٌ خطير للسياسة الفلسطينية

يُعتبَر تورّط إدارة بايدن في الأزمة الأخيرة رمزاً للطبيعة الخلافية والإشكالية لمشاركة الولايات المتحدة في السياسة الفلسطينية بشكل كبير. مع تقييد واشنطن مشاركتها وتعاملها فقط مع السلطة الفلسطينية التي تقودها “فتح”، يواجه الفلسطينيون مخاطر هائلة في توحيد نظامهم السياسي وإجراء انتخابات ديموقراطية، والتي من المرجح أن تُدمِج الفصائل السياسية، التي لا ترغب الولايات المتحدة العمل معها، في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية. لتجنّب هذا الخطر، يتم تشجيع السلطة الفلسطينية على البقاء غير تمثيلية وسلطوية، باستخدام جهازٍ أمني يُموّله ويُدرّبه شركاؤها الغربيون لسحق المعارضة والمُنشقّين.

مع مرور الوقت، أصبحت هذه السلطة الفلسطينية المُتصَلِّبة مُنفصِلة بشكل متزايد عن السكان الخاضعين لسيطرتها، بخاصة ال60٪ الآن تحت سن 25 – حيث حوالي 70٪ منهم لا ينتمون إلى أي فصيل سياسي. إن تأجيل الانتخابات لا يُبقي “حماس” خارج الحكومة فحسب، بل يُبقي بقية المجتمع أيضاً. قبل إلغاء انتخابات 22 أيار (مايو)، كانت 36 قائمة حزبية مؤهّلة للترشّح، وهي تُمثّل شريحة أكبر بكثير من السكان الذين هم من “فتح” و”حماس” فقط.

في حين لا يُمكن إلقاء اللوم على إدارة بايدن في الإنتخابات الملغاة، إلّا أنها أشارت إلى قيادة السلطة الفلسطينية بأنها “ستتفهّم” الأمر إذا تم تأجيلها، لأنها كانت حريصة على تجنّب الصداع الذي سيُصاحب عودة “حماس” إلى السلطة الفلسطينية. في الوقت الذي بدت حظوظ عباس السياسية قاتمة، كانت المراوغة الأميركية هي كل ما يحتاجه رئيس السلطة الفلسطينية للتخلّي عن العودة إلى صناديق الاقتراع.

ليس هناك شك في أن صياغة سياسة أميركية بنّاءة تجاه الفلسطينيين ليست صريحة ومُستقيمة، لأنها مُقيَّدة بشدة بالتشريعات المحلية والمخاوف السياسية. تتطلّب الأجندة الطموحة رأس مال سياسي كبير، والذي تكره إدارة بايدن استثماره راهناً نظراً إلى الأولويات الأخرى والمعارك السياسية التي تلوح في الأفق.

ومع ذلك، كان بإمكان إدارة بايدن أن تختار إعادة التفكير في نهج الولايات المتحدة تجاه هذا الصراع وتسريعه مع الحقائق الحالية على الأرض، حتى لو كانت ترغب في تجنّب مُبادرةِ سلام ديبلوماسية كبيرة. بدلاً، إختارت إعادة تدوير السياسات التي عفا عليها الزمن للإدارات السابقة مثل بيل كلينتون، وجورج دبليو بوش، وبدرجة أقل، سياسات باراك أوباما – حيث يظهر عباس والسلطة الفلسطينية في المقدمة والوسط. نظراً إلى أن الولايات المتحدة غير راغبة في تأييد أيّ خيارات سياسية بخلاف حلّ الدولتين، فإن قيادة السلطة الفلسطينية التي تعتمد بشكل مفرط على المساعدات تظل هي الأخرى في مسارها. لكن واقع الدولة الواحدة المُتعمّق على الأرض أجبر غالبية الفلسطينيين على التخلي عن حلّ الدولتين كخيارٍ قابلٍ للتطبيق، وتسبّب في اتساع الفجوة بين الجمهور والسلطة الفلسطينية. بدون شرعية أو دعم شعبي أو دولة فلسطينية وشيكة، ما هو الدور الذي تؤديه السلطة الفلسطينية غير تطبيق الوضع الراهن؟

عندما اختتم بلينكن جولته في الشرق الأوسط، تحدّث عن تأمين الهدوء في غزة من دون معالجة القضايا الأساسية التي أدّت إلى العنف والذي سيتواصل إذا لم يتم التعامل مع هذه القضايا بجدية، بما فيها الاحتلال العسكري الإسرائيلي اللانهائي وإنكار حقوق الفلسطينيين الأساسية والحقوق السياسية، فضلاً عن الحصار المستمر لغزة. في حين أن هناك بُعداً إنسانياً لكلِّ هذا، والذي يبدو أن إدارة بايدن تميل أكثر للتركيز عليه، فإن الصراعَ مدفوعٌ بسياقٍ سياسي لا يُمكن تجاهله من دون إعادة إنتاج عدم الاستقرار باستمرار. يتمثّل أحد أجزاء هذا السياق السياسي في وجود قادة فلسطينيين ومؤسسات فلسطينية يُمثّلون شعبهم. لذلك، سيتعيّن على الولايات المتحدة تغيير سياساتها حتى لا تقف وراء أولئك الذين لا يُمثّلون شعبهم، وبالتالي تقف في طريقهم.

  • عمر حسن عبد الرحمن زميل زائر في مركز بروكنغز الدوحة، حيث يكتب كتاباً عن التشرذم الفلسطيني في حقبة ما بعد أوسلو. عبد الرحمن كاتب ومحلل وصحافي متعدد الوسائط متخصص في سياسات الشرق الأوسط والسياسة الخارجية الأميركية. يمكن متابعته عبر تويتر على: @omarrahman

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى