الاستفتاءُ في تونس يُعلنُ الوفاةَ النهائية لـ”الربيع العربي”

في 25 تموز (يوليو) ، صوت التونسيون في استفتاء وطني للموافقة على دستور جديد يمنح الرئيس قيس سعيّد سلطات جديدة موسعة، وسيطرة تنفيذية مركزية مع إزالة الضوابط من الفرعين التشريعي والقضائي.

الرئيس قيس سعيّد: الدستور الجديد يجعله ديكتاتورًا إذا أراد.

فريدا غيتيس *

ربما يكون من المناسب الآن أن يُقامَ قدّاسٌ جنائزي لراحة نفس “الربيع العربي” في البلد الذي أشعله منذ أكثر من عقد من الزمن. في الأسبوع الفائت، أجرت تونس استفتاءً أقرّت فيه دستورًا جديدًا ختم فعليًا نهاية التجربة الديموقراطية في البلد الوحيد الذي بدا أن “الربيع العربي” قد أنتج شيئًا يشبه الديموقراطية.

بعد إثنتي عشرة سنة على اندلاعها، خلّفت تلك الموجة من الثورات سلسلة من الحروب الأهلية في العديد من البلدان، إلى جانب زيادة القمع وتحطيم الآمال في جميع أنحاء المنطقة. إن الدعوات للتغيير التي انتشرت من تونس إلى مصر وسوريا وليبيا والبحرين واليمن وغيرها، خرجت تدريجًا عن سيطرة نشطاء الديموقراطية. يبدو أن تونس فقط كانت لديها فرصة. لكن الاستفتاء الأخير هناك كان بمثابة تأكيدٍ على أنه رُغم أن مطالب المُحتَجّين كانت جادة واستمرار انتشار عدم الرضا على نطاق واسع، فإن الاعتقاد القوي بأن التغيير كان يلوح في الأفق لم يكن كافيًا للتغلب على العقبات التي تمنع التحوّل الديموقراطي.

في العام 2010، كانت البداية في تونس عندما أشعل البائع المتجوّل محمد البوعزيزي النار في نفسه وأشعل المنطقة بأكملها بحماسةٍ ديموقراطية. وفي تونس أيضًا، في الأسبوع الفائت، تمكّن الرئيس قيس سعيّد -الذي ادّعى أنه كان يحاول “تصحيح مسار الثورة” بدستوره الجديد- من الاستيلاء الدائم على السلطة الذي عزّزه في خضم جائحة فيروس كورونا.

لقد فعل ذلك على الرُغم من رفض غالبية التونسيين المشاركة في “التمثيلية”. وبلغت نسبة المشاركة في الاستفتاء حسب الحكومة 30.5 في المئة، ولكن أحزابَ المعارضة قالت إنه حتى هذه النسبة المُنخفِضة “مُبالَغٌ فيها”. لم تكن السلطات المشرفة على الاستفتاء مهتمة بهذه النسبة المتدنّية، حيث ذكرت أنه بما أن 94.6 في المئة من الأصوات كانت لصالح الدستور الجديد، فقد أصبح نظام سعيّد الرئاسي الجديد قانونًا. يمكن لسعيّد الآن تعيين جميع كبار المسؤولين وحلّ البرلمان والحُكم دون فصلٍ حقيقي بين السلطات أو الإشراف. كما يكاد يكون من المستحيل إقالته من منصبه.

إذا كان صحيحًا أن سعيّد قضى للتوّ على آخر ما تبقّى من أوكسيجين في “الربيع العربي”، فلا يمكن الإنكار أنه لم يتبقَّ من هذا الربيع سوى القليل من الحياة. ربما جاءت اللحظة الحاسمة في مصر، في العام 2013، في حلقة وحشية يقول البعض إنها شكّلت نهاية “الربيع العربي”. بعد أيام قليلة على فرار الديكتاتور التونسي زين العابدين بن علي من البلاد في العام 2011، احتشد المتظاهرون المؤيدون للديموقراطية في ميدان التحرير في القاهرة للمطالبة بإنهاء حكم الديكتاتور حسني مبارك. أصبحت عندها مصر القلب النابض ل”الربيع العربي”، وألهمت بقية المنطقة وجذبت الاهتمام العالمي.

بينما قرّرَ الديكتاتوريون في بلدانٍ أخرى القتال حتى النهاية المريرة، مع اندلاع الحروب الأهلية في نهاية المطاف في سوريا وليبيا واليمن، بدت الثورة المصرية لبعض الوقت وكأنها تسير في الاتجاه الصحيح. وافق مبارك، الذي توفي في العام 2020، على التنحّي تحت ضغطٍ شديد في العام 2011. ومع ذلك، بمجرد خروج الديكتاتور من السلطة، ظهرت الانقسامات الإيديولوجية العميقة التي غطتها دعوات الاحتجاجات المُوَحَّدة للإطاحة بمبارك. أجرت مصر انتخابات في أيار (مايو) 2012 –وهي أول انتخابات ديموقراطية في تاريخ البلاد الطويل– ولكن من بين المجموعتين الرئيسيتين اللتين دعتا إلى التغيير، كانت هناك واحدة فقط أمضت عقودًا في التنظيم. لقد تعرّض الليبراليون العلمانيون المؤيدون للديموقراطية للهزيمة بسهولة من قبل الإسلاميين التابعين ل”جماعة الإخوان المسلمين”.

وسرعان ما انحرف الرئيس التابع لهذه الجماعة، محمد مرسي، عن المسار الديموقراطي وعلّق الدستور المؤقت وتولّى السلطة بنفسه. تزايد قلق الليبراليين، واندلعت الاحتجاجات الجماهيرية ضد حكم مرسي في جميع أنحاء البلاد. في العام 2013، أعطى الجيش بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي إنذارًا لمرسي ​​لحلّ الأزمة – وعندما فشل في ذلك، أطاحه، بالكاد بعد عام واحد من رئاسته.

كان الانقلاب في 3 تموز (يوليو) 2013 مدعومًا من قبل العديد من الذين احتجوا في ساحة التحرير. جاءت وفاة “الربيع العربي” في القاهرة بعد ذلك بقليل، في 14 آب (أغسطس) 2013. وذلك عندما أمر السيسي قواته بإطلاق النار على المتظاهرين –ومعظمهم أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين– الذين كانوا يحتجّون ضد الانقلاب بالقرب من مسجد رابعة العدوية. في النهاية، قُتِلَ حوالي 800 مصري فيما يُعرَف الآن بمجزرة رابعة. من هناك، عزّز السيسي قبضته على السلطة وأصبح رئيسًا للجمهورية، وحكم بقبضة من حديد منذ ذلك الحين. للأسف، تبدو ديكتاتورية مبارك الآن خيّرة وأرحم نسبيًا مقارنة بنظام السيسي.

في سوريا، استجاب الرئيس بشار الأسد لدعوات الديموقراطية بوحشيةٍ مطلقة. وسرعان ما سقطت بلاده في حربٍ أهلية استقطبت أطرافًا من جميع أنحاء المعمورة. جاءت إيران و”حزب الله” لإنقاذه، فيما انضم جهاديون من جميع أنحاء الشرق الأوسط إلى القتال ضده، حيث نشروا أكثر ممارساتهم وحشية في أوروبا وأماكن أخرى. وشاركت روسيا وتركيا وإيران والولايات المتحدة أيضًا في القتال. عندما ظهر بصيصٌ صغيرٌ من الديموقراطية في “روج آفا”، المناطق الكردية في سوريا، سرعان ما استقطب ذلك قوة النيران التركية. أصبح السعي إلى الديموقراطية ثانويًا بالنسبة إلى إحلال السلام وإنهاء المذابح.

أصبحت ليبيا أيضًا محطّ اهتمام دولي. عندما هدّد الديكتاتور معمّر القذافي بمطاردة خصومه مثل “الصراصير”، تدخّل حلف شمال الأطلسي (الناتو) على أمل منع المذبحة. قُتل القذافي، لكن لم تتبع ذلك الديموقراطية ولا السلام.

أدى حكم القذافي الشمولي إلى قمع انقسامات عميقة. وقد ملأت غيابه الفصائل المتحاربة، ما أدى إلى تأليب الميليشيات من شرق البلاد ضد الغرب. هناك أيضًا، انضم لاعبون إقليميون آخرون إلى المعركة، الأمر الذي قاد إلى تأجيجِ حربٍ في بلدٍ بدا لسنواتٍ بعد ذلك أنه لا يمكن السيطرة عليه تمامًا. حققت جهود الأمم المتحدة والوسطاء الآخرين لتشكيل حكومة وحدة بعض التقدّم، لكن هناك، كما هو الحال في سوريا، كان لتحقيق السلام والاستقرار الأسبقية على تأمين الديموقراطية.

وينطبق الشيء نفسه على اليمن، التي أصبحت موطنًا لأسوَإِ كارثة إنسانية في العالم. لقد أدت احتجاجات “الربيع العربي” في ذلك البلد إلى إشعال حركة الحوثيين للبلاد بدعمٍ من إيران، ما دفع المملكة العربية السعودية –خصم إيران الإقليمي– للانضمام إلى القتال. واليوم، يلتزم الحوثيون والحكومة اليمنية بوقفٍ هشٍّ لإطلاق النار صامد منذ بضعة أشهر.

بدت الشرارة التي أشعلت فتيل تونس لبعض الوقت وكأنها ستأتي بعهدٍ جديد من الديموقراطية. بدلًا من ذلك، مثل عرض الألعاب النارية الذي يُشعلُ حريقًا هائلًا، فقد دمّرت المنطقة تقريبًا. القوى الخارجية التي تدخّلت، مُعتَقدةً نفسها إطفائية، غالبًا ما جعلت الجحيم أكثر فتكًا.

لكن خلف خيبة الأمل هناك جيوبٌ من التفاؤل. لقد جعل “الربيع العربي” بعض حكومات الشرق الأوسط تُدرِكُ جيدًا أنه حتى في غياب الديموقراطية، يجب أن تَحرُصَ على الاستجابة للمطالب الشعبية. لا يُمكِنها تحمّل تجاهل الاستياء الهائج الذي يكمن تحت السطح مباشرة. إنه درسٌ ينبغي أن يُحسِنَ رئيس تونس القوي أن يتذكّره.

  • فريدا غيتيس كاتبة وباحثة في الشؤون العالمية ومساهمة منتظمة في سي إن إن وواشنطن بوست. يمكن متابعتها عبر تويتر على @fridaghitis.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى